ان من ابرز الخصائص السياسية للدول الغربية والمتقدمة :
1. التنظيم الحكومي على درجة كبيرة من التخصص ، وتوزيع الوظائف وفقا لمعايير موضوعية غير مزاجية ، وذلك يعني ان البيروقراطية على درجة عالية من الكفاءة .
2. تعتمد اتخاذ القرارات السياسية على العقلانية والعلمانية وعلى اساس النظام القانوني .
3. ضخامة النشاطات السياسية والادارية في كافة المجالات .
4. وجود علاقة متينة بين السلطة والشرعية تقوم على التعاون مع المواطنين والقادة والسياسيين يقلل من التناقضات . ان النظام السياسي كفوء ويترجم المطالب الشعبية الى قرارات ولا يقصيها خارج العملية السياسية .
5. هنالك تفاعل واسع بين فئات الشعب والنظام السياسي ، لكن ذلك لايعني مشاركة كل مواطن . ان المشاركة تبدأ واسعة شعبية في اتخاذ القرار السياسي لكنها قد تكون محصورة بيد عدد محدود من القادة .
خصائص البيروقراطيات في هذه الدول :
ــــــــــــــــــــ
1. ضخامة وتطور اجهزة الخدمة المدنية بهدف تنفيذ القرار السياسي ، ويغلب عليها خصائص ماكس فيبر المثالية ، هيكليا وسلوكيا .
2. جهاز البيروقراطية متطور وعالي التخصص وفيه كوادر بشرية مهنية فنية ضرورية للنجاح .
3. البيروقراطية مهنية تعتبر الخدمة العامة مهنة كالمحاماة ، بسبب اعتماد معايير الكفاءة في التعيين ، والتدريب والتعليم وتصاحبها سلبيات وامراض البيروقراطية العملية .
4. دور البيروقراطية واضح نظرا للاستقرار والنضوج السياسي .
5. تخضع البيروقراطية لرقابة سياسية فعالة تمارسها مؤسسات سياسية محددة .
النظم الادارية العريقة .. المانيا وفرنسا :
البيروقراطية في المانيا وفرنسا تقارب وصف فيبر لذا تسمى نظمها الادارية بالنظم الكلاسيكية ، وكان التغير السياسي فيهما جذريا متكررا .
تمثل في فرنسا بالتعامل العنيف مع الملكية الدستورية ، والحكومة الجمهورية لغاية 1870 ، وفي المانيا يتميز التراث السياسي بالتفكك وغياب الثقافة السياسية المحددة المعالم .
لكن البيروقراطية كانت في البلدين على النقيض من الوضع السياسي .. ففي المانيا اصبحت البيروقراطية البروسية اساسا للبيروقاطية المعاصرة، وفي فرنسا تغير الهدف من الجهاز الاداري لخدمة النظام الملكي ليصبح بعد الثورة في خدمة الامة .
فرنسا :
ــــ
طورت فرنسا في عهد الجمهورية الخامسة نظاما اداريا يجمع بين القديم والحديث ويتميز بالمرونة ، وبقيت الدولة موحدة مركزية ، ومنذ عام 1958 وجد نظام برلماني رئاسي تسيطر عليه الاحزاب الديغولية .
ويعتبر البيروقراطيون الفرنسيون في المستويات العليا الموجهين لسياسات الادارة المركزية بصفتهم مسؤولين عن اداء مختلف انشطة الدولة ، كورثة للجهاز المنظم الذي انشأه نابليون ، ومن اهم مميزاتهم اعتبار انفسهم ممثلين للدولة ومسؤولين رسميا اكثر من كونهم خدما للشعب ، ولكونهم يتكلون ويتصرفون بأسم الدولة فهم يعتبرون انفسهم مالكين لجزء من السيادة التي توجب احترامهم من قبل الشعب .
والخدمة المدنية في فرنسا مهنة دائمة منذ التعيين وحتى التقاعد ، وان الانضمام للبيروقراطية وبخاصة المستويات العليا عملية صعبة تمر بأجراءات وقنوات محددة ، ويرتبط النظام التعليمي بنظام التعيين ، اذ ان الدخول في الوظائف العليا محصور اتيحت لهم فرص التعليم العالي . وهنالك نموذج فريد للبيروقراطية الفرنسية وهو وجود نخبة مميزة من الاداريين تتمثل بما يعرف بالادارات الكبرى تستمد جذورها من الحقبة النابوليونية . وعدد الموظفين فيها محدود جدا ، وتعمل بشكل مستقل ولها قوانينها ، وان الدولة لاتتدخل بها الا بشكل بسيط .
تطور تاريخي :
ـــــــ
سلطة الحاكم المطلق تسببت في تكوين الاطار المركزي الشديد للبيروقراطية الفرنسية ، اضافة الى نظام الرقباء الذين كانوا بمثابة ادوات للملوك والحكام يمارسون نيابة عنهم اختصاصات محددة ولهم سلطات ادارية واسعة ، وترجع نشأته الى العهد الاقطاعي ، وقد ادى ذلك الى الجمود وانخفاض الكفاءة تبعا لتركيز السلطة وممارستها بشكل تحكمي ، من جهة اخرى فان البيروقراطية كجهاز ضخم بدأت في الظهور قبل الثورة الفرنسية ، وادى ذلك الى عدم اعتماد الكفاءة والاختيار والتعيين ، لذلك تفشــت الرشوة للحصول على الوظيفة واصبحت الوظيفة سلعة تباع وتشترى . ثم جاءت الثورة الفرنسية 1789 وتضمنت في اهم مبادئها المساواة ، ومجيء نابوليون 1795 تغيرات هائلة في طبيعة الدول الاوربية وعمل الادارة فظهر مفهوم الدولة القومية بأعتباره النظام السياسي الرئيس ، وظهرت البيروقراطية العام الحديثة كأداة للقيام بالاعمال الحكومية . ذلك ان نابليون قد ركز في الادارة على النظام والتسلسل الرئاسي والتخصص والمسؤولية وادخل بعض الملامح العسكرية التي تؤكد على تحديد المهام والتوجيهات بوضوح . ونشأ مجلس الدولة الذي مارس الاصلاح الاداري من خلال الدراسات والتوصيات .. وقام نابليون بتعميم مبدأ الجدارة كأساس للتعيين في الوظائف العليا ، واكد على الموهبة والتدريب والتعليم ، وانشأ المدرسة التقنية ( البولتكينك ) لتكون مصدرا مستمرا من الموظفين المؤهلين .
ولعب مجلس الدولة دورا مهما في تحقيق الاصلاح الوظيفي من خلال ممارسته الرقابة القضائية على اعمال الادارة .
وكان انشاء المدرسة الوطنية في الادارة عام 1945 من العوامل المؤثرة جدا في الاصلاح الاداري ، وعلاج مساويء البيروقراطية ، كما ان صدور نظام الخدمة المدنية بعد الحرب العالمية الثانية 1946 كان له اثره في تغيير الهدف من الجهاز الاداري الذي انشأ اساسا لخدمة النظام القديم ثم ليصبح في خدمة الأمة بعد الثورة . وصدر عام 1948 نظام جديد لترتيب الوظائف وتوصيفها وفي عام 1956 صدر نظام موحد للخدمة المدنية يعالج حقوق ومستويات الموظفين المدنيين ، ومعالجة سلبيات البيروقراطية الفرنسية .
وفي عام 1958 عهد الجمهورية الخامسة طورت فرنسا نظاما اداريا يتميز بالمرونة وبقيت الدولة موحدة مركزيا وبقي المحافظ ممثلا للسلطة المركزية في محافظات فرنسا ال 96 كافة ، التي تمثل وحدات الحكم المحلي الرئيسة منذ عهد نابوليون ، وحل النظام البرلماني الرئاسي الذي سيطرت عليه الاحزاب الديغولية محل النظام البرلماني الذي كان يعتمد على الاحزاب المتعددة . وعام 1962 استطاع رئيس الجمهورية بعد التعديل الدستوري الذي اصبح الرئيس بموجبه ينتخب من قبل الشعب مباشرة ان تكون له السيطرة على مجلس الوزراء ، فتقلصت سلطات الجمعية الوطنية – البرلمان . وتم الفصل بين السلطتين التشريعية والتنفيذية اذ لم يعد ممكنا للوزير الجمع بين منصبه الوزاري وعضوية البرلمان . ومن ناحية تنظيمية قسمت الحكومة الى 15 وزارة تنقسم كل منها الى عدة دوائر مركزية .
البيروقراطية الالمانية :
اهتمت المانيا بنظام الخدمة المدنية وركزت على السعي لتحقيق الكفاءة الوظيفية اعتقادا منها انها اهم وسائل الادارة العامة في اداء دورها .
وقد اتسمت البيروقراطية الالمانية :
1. الطابع القانوني الذي ورثته عن الثقافة الرومانية القانونية مما جعلها تجمع قوانين الخدمة المدنية في قانون واحد.
2. الطابع المركزي وجنوح المانيا في نظامها السياسي الى اتباع اسلوب بوليسي في ادارة شؤونها وسيطرة نظامها العسكري على الحياة الالمانية مدة طويلة ، فتأثرت الادارةالعامة بهذا المناخ ، حيث كانت التنظيمات الادارية تدار بأسلوب عسكري ، مثل وحدة التوجيه وعدم تفويض السلطة وسيادة السلطة المطلقة ، وتحكم عامل السرية في العمليات الادارية وانعزال الموظف العام عن المجتمع .
ويمكن القون انه عقب الحروب وخلالها كانت توجد الادارتان العسكرية والعامة ، وترتب على ذلك الوجود العسكري في الخدمة المدنية ان تتعقد ظاهرة البيروقراطية حيث ضعفت الكفاية الادارية ، وفشلت اكثر البرامج الادارية بسبب نقص الكفاءة والخبرة لدى الموظفين ، اتسمت بالجمود لعدم قدرة العسكريين بالتكيف مع متطلبات الخدمة المدنية والتطورات الاجتماعية والسياسية .
3. نمو حجم التنظيمات البيروقراطية وتعقدها واصابتها بالجمود ، وبخاصة عقب الحروب .
4. اصبت البيروقراطية الالمانية بسبب كل ذلك بكثير من اوجه الفساد والرشوة والجاسوسية والبوليسية .,
وبعد الحرب العالمية الثانية وفي اوائل الخمسينات بدأت حركة اصلاح وظيفي واسعة النطاق لعلاج جهاز الخدمة المدنية ومساويء البيروقراطية الالمانية ، فقد اصدرت قوات الاحتلال قرارات لتخليص البيروقراطية الالمانية من الطابع العسكري ومن العسكريين النازيين .. ومن ثم التأكيد على مبدأ تكافؤ الفرص في الحصول على الوظيفة العامة واعداد برامج تدريبية للموظفين بمختلف فروع المعرفة وفق تخصصاتهم . وفي عام 1953 صدر نظام الخدمة المدنية الاتحادية في المانيا الغربية الذي قام على المفاهيم الاساسية الحديثة في مجالات الوظيفة العامة التي تعتمد مبدأ الجدارة في الاختيار والتعيين .
يتضح ان النظم الادارية البيروقراطية في فرنسا والمانيا قد ادت دورا اكثر اهمية في وضع السياسات العامة للدولة وتخطيط برامجها ، وقد كان هذا الدور المهم نتيجة طبيعية لتوحيد البيروقراطية وحاجة الانظمة السياسية الى الاعتماد على البيروقراطية القائمة ذات الرسوخ والسيطرة والقدرة على تسيير الشؤون العامة ، ومن ثم اصبحت البيروقراطية الحكومية في موقفيمكنها من التأثير على مالاجهزة السياسية حيث استطاعت بصلاحيتها واستقرار هياكلها واستمراريتها الادارية وكثرة الموظفين المهنيين في اعلى المستويات في السلطة ، في المراكز المهمة في الدوائر الوزارية ، وفي المناصب القيادية في معظم الصناعات التابعة للدولة ان تعوض القيادة السياسية المتغيرة بتغير السلطة .
وخلاصة القول ان البيروقراطيات الكلاسيكية في فرنسا والمانيا قد استطاعت الحفاظ على الاستمرار في ادارة الشؤون الحكومية وخدمة الدولة أيا كان القائمون عليها ، وعلى الرغم من مهارات وقدرات وكفاءة النخبة البيروقراطية الا ان اعضاءها لم يسعوا الى المناصب السياسية
المصادر :
انظر :
1 - فيرل هيدي ، ترجمة الدكتور محمد قاسم القريوتي " الادارة المقارنة الحديثة " دار وائل ، عمان 1989
2 – الدكتور محمد فتحي محمود " الادارة العامة المقارنة " طبعة ثانية ، الرياض ،
1997