تشكل مجموعة الاتجاهات المعاصرة في مجال تدريب وتنمية الموارد البشرية البعد و العمق الإستراتيجي لهذا الموضوع، وتوضح لنا ما يجب تبنيه من قبل المنظمات وعلى اختلاف أنواعها، عند رسم إستراتيجيتها في هذا الحقل الهام من المعرفة الإدارية. وسنعمد فيما يلي إلى عرض أهم هذه الاتجاهات(1)
1- التدريب و التنمية نظام للتعلم الإستراتيجي المستمر:
تؤكد معظم الأدبيات المعاصرة في مجال الإدارة بوجه عام وإدارة الموارد البشرية بشكل خاص، على النظر إلى المنظمة على أنها مكان للتعلم و العمل بآن واحد واعتبار مسألة التدريب و التنمية جزءا من إستراتيجية المنظمة، التي هي بمثابة مفتاح إستراتيجية لتحقيق نمو المنظمة وبقائها. انطلاقا من ذلك أصبحت إستراتيجية التدريب و التنمية نظاما إستراتيجيا للتعلم المستمر يتكون من أربعة عناصر رئيسية أساسية هي ما يلي:
أ- المدخلات: وتشتمل على متدربين من فئات ونوعيات مختلفة من الموارد البشرية، لديها حاجات تدريبية متنوعة يتطلبها أداء أعمال المنظمة الحالية، وحاجات تنموية يحتاجها إنجاز إستراتيجيتها المستقبلية. كما تشمل المدخلات على برامج التدريب و التنمية وما تحتويه من مدربين ومواد ومستلزمات تدريبية وموارد مالية.
ب- الأنشطة: وتمثل ما يقوم به المدربون و المتدربون في البرامج التدريبية و التنموية من فعاليات وأنشطة تعلم لتحقيق أهداف إستراتيجية التدريب و التنمية، حيث يتعلمون كيف تؤدي الأعمال بشكلها الصحيح، وتعلم الأشياء الجديدة.
ج- المخرجات: وتمثل تطور وتحسين أداء الموارد البشرية الحالية، وتهيئتها لأداء مهام وأعمال مستقبلية جديدة، تلبيةً لاحتياجات إنجاز إستراتيجية المنظمة.
د- التغذية العكسية: وتمثل تقييم مدى الاستفادة من التدريب و التنمية، وتحديد الثغرات التي حدثت في تنفيذ الفعاليات و الأنشطة التدريبية و التنموية، للاستفادة منها في البرامج القادمة.
2- تحول التدريب و التنمية من سياسة إلى إستراتيجية:
يعد تدريب وتنمية الموارد البشرية في الوقت المعاصر إستراتيجية تعمل في خدمة إستراتيجية المنظمة الكلية(*)، حيث توضع في ضوء متطلبات انجازها من الكفاءات البشرية الحالية و المستقبلية، و بالتالي فقد أصبحت جزءا مكملا لها ضمن إطار إستراتيجية إدارة الموارد البشرية. في ظل هذا التوجه استلزم الأمر التحول من سياسة للتدريب و التنمية (التوجه القديم) إلى إستراتيجية تتكامل و تتوافق مع احتياجات انجاز إستراتيجية المنظمة الكلية. هذا التحول ليس مجرد تغيير في التسمية، بل هو تغيير في الهدف، و البعد الزمني، و المادة التعليمية، وأساليب التدريب و التنمية، وفي القواعد و المبادئ التي تقوم عليها سياسة التدريب و التنمية سابقا.
3- التوافق مع رياح التغيير واحتياجاته:
شهدت ساحات العمل في المنظمات بوجه عام و الصناعية و الخدمية بشكل خاص، تغيرا واسعا وكبيرا في مجال تصميم الأعمال وإدارتها، كما وضحنا ذلك في الفصل الأول، ففي إطار التوجه الحديث في هذا المجال، أصبحت الموارد البشرية فيها بحاجة إلى تنوع، وتعدد، وتحديث مستمر في مهاراتها، من أجل تمكينها من ممارسة عدة أعمال سواء على صعيد المنظمة، أو صعيد فرق العمل. لقد استلزم هذا التوجه الاستغناء عن مواد التدريب و التنمية القديمة وأساليبه، و الاستعاضة عنها بمواد وأساليب حديثة ومتطورة تركز على مهارات العمل الجماعي، فتعلم الفرد كيف يعمل مع الآخرين من أجل إنجاز مهمة محددة مشتركة، وكيف يتبادل العمل مع زملائه أعضاء الفريق، وكيف يندمج في العمل الجماعي التعاوني. لقد غير هذا التوجه من طبيعة برامج التدريب و التنمية لتنسجم وتتوافق مع التصميم الجديد للعمل وإدارته داخل المنظمات. ولم يقتصر هذا التوجه على العمل في الخط الأول من الهرم التنظيمي، بل شمل كافة المستويات الإدارية، فالمديرون و الرؤساء لم يعد الواحد منهم يغلق الباب على نفسه وليس له شأن مع الآخرين في الوحدات الإدارية الأخرى، فهذا النمط انتهى عهده وولى، فالمطلوب الآن من المديرين و الرؤساء أن يمارسوا العمل الجماعي التعاوني مع بعضهم بعضا وتنسيقه، وجعله عملا مشتركا متكاملا. هذا الأمر استوجب تزويدهم بالمهارات التي يحتاجها تصميم وإدارة العمل الجديد، وتنميتهم باستمرار من أجل مواجهة التغيرات المستقبلية المحتملة.
4- المنظمة المتعلمة:
المنظمة المعاصرة اليوم هي منظمة تعلم Learning Organization تتصف بوجود جهود مستمرة فيها من أجل تعليم مواردها البشرية وبشكل دائم أشياء جديدة، وكيف يطبقوا ما تعلموه في واقع عملهم، في سبيل تحسين جودة منتجها وتحقيق الرضا لدى زبائنها وكسب ولائهم و المحافظة على بقائها و استمراريتها في السوق. فمنظمة التعلم لا تعتبر التدريب و التنمية عملية ظرفية مؤقتة بل تعتبرها عملية مستمرة، لأن البيئة دائمة التغيير، وفيها متغيرات تجعل المنظمة بحاجة إلى مواءمة مواردها البشرية معها، من خلال جهود التعلم المستمر. إذا يمكن القول بأن التعلم المستمر صفة تتحلى بها المنظمة المتعلمة، التي تسعى إلى تقديم كل جديد ومبتكر وبسعر مناسب لزبائنها، فالتطوير و التحسين المستمر للمنتج حاجة ملحة في المنظمات اليوم وهدف إستراتيجي يضمن لها البقاء و الاستمرار، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بواسطة موارد بشرية متعلمة وبمستوى عالي من المهارات. ويرى دافيد قارفن (David Garvin) أن المنظمة المتعلمة هي مهارة ترتكز على خمسة أنشطة(2)
- حل المشكلات بطريقة علمية؛
- تجارب بأساليب جديدة؛
- التعلم من تجاربهم الخاصة وماضيهم العملي؛
- التعلم من أساليب وخبرات الآخرين؛
- استقطاب المعرفة بشكل سريع وبفاعلية من خارج التنظيم.
ولقد حدد المختصون في هذا المجال مجموعة من الخصائص الأخرى تتصف بها المنظمة المتعلمة هي ما يلي:
- التعلم وسيلة للتكيف مع التغيرات التي تحدث في البيئة وبشكل مستمر؛
- يجب أن يكون التعلم مستمرا ومتسارعا وذلك لتعليم الموارد البشرية في المنظمة الأشياء الجديدة قبل المنظمات الأخرى، فتجديد وتحسين المهارات البشرية المستمر و السريع مطلب أساسي فيها، وذلك من أجل ألا تصبح هذه المهارات متقادمة لا تتماشى ولا تتواكب مع التطورات الحديثة و المعاصرة التي تحدث في البيئة من جهة، ولكي لا تسبقها منظمة أخرى في تقديم الجديد المبتكر للسوق من جهة ثانية؛
- المنظمة المتعلمة تستخدم وسائل تعليمية حديثة؛
- يركز التعلم في المنظمة المتعلمة على جانب الابتكار و الإبداع، وهو أي شيء يخلق جديد سواء، موارد، عمليات، أو قيم أو يزيد من قيمة موارد و قيم المنظمة(3)؛
- المنظمة المتعلمة هي التي توفر مستلزمات العملية التعليمية؛
- المنظمة المتعلمة هي التي توفر المناخ المادي و المعنوي لتطبيق ما تعلمته الموارد البشرية؛
- المنظمة المتعلمة هي التي تعتبر التعلم وسيلة للتحرك إلى المستقبل؛
- منظمة التعلم هي التي تنظر إلى كل من يعمل فيها على أنه موظف معرفة وتعلم؛
- المنظمة المتعلمة هي التي توفر إدارتها العليا الدعم المادي و المعنوي لعملية التعلم فيها؛
- منظمة التعلم تعتبر التعلم مسؤولية مشتركة بين الرؤساء و المرؤوسين في كافة المستويات الإدارية، فالرؤساء عليهم تعليم مرؤوسيهم، و الرؤساء إلى جانب ما تقدمه منظمتهم لهم من تدريب وتنمية، عليهم تنمية ذاتهم؛
- المنظمة المتعلمة هي التي تنظر إلى التعلم على أنه استثمار بشري له عائد كبير، يتمثل بتحقيق المهارة العالية وبشكل مستمر لدى مواردها البشرية، بحيث يمكنها تقديم منتج يحقق الرضا لدى زبائنها؛
- تنظر المنظمة المتعلمة إلى مسألة التعلم على أنها إستراتيجية مكونة من شقين: الأول تدريب وتنمية رسمية، وتمثل برامج التدريب و التنمية التي يخضع لها العاملون سواء داخل المنظمة أو خارجها. و الثاني تنمية غير رسمية وتمثل برامج التنمية الذاتية التي يتوجب على المنظمة مساعدة مواردها البشرية على تنفيذها؛
- تؤكد المنظمة المتعلمة على ضرورة شمولية التدريب و التنمية لجميع الموارد البشرية أي لكل من يعمل فيها، مديرون ورؤساء ومرؤوسين وعلى كافة المستويات الإدارية، وهذا يعد تحولا عن الاتجاه القديم الذي كان يرى أن الخط الأول (قاعدة الهرم التنظيمي) و الإدارة المباشرة، هما فقط بحاجة لتدريب وتنمية. فمنظمة التعلم وانطلاقا من مفهوم البيئة المتغيرة التي تطالع المنظمات في فترات متقاربة بأشياء جديدة، ترى أن الجميع بحاجة لتدريب وتنمية مستمرة، وأن الإدارة العليا متخذة القرارات هي بحاجة لذلك أكثر من أي مستوى آخر.
5- التدريب و التنمية استثمار بشري:
يرى التوجه المعاصر في مجال تدريب وتنمية الموارد البشرية، أن الإنفاق في هذا المجال هو إنفاق رأسمالي، وحقل استثماري خصب، وهذا ما سنتطرق له في الفصل الرابع بالتفصيل، فما ينفق في التدريب و التنمية هو ليس بتكلفة إنما هو إنفاق استثماري له عائد شأنه شأن أي استثمار آخر في الآلات أو في برامج التسويق ..الخ، و بالتالي يجب اعتباره بندا استثماريا في الموازنة التخطيطية أو الاستثمارية في المنظمة الحديثة. فعوائد هذا الاستثمار هامة جدا تتمثل في أمور كثيرة تعرضنا إليها فيما سبق أهمها، تحسين المنتج، وتقديم كل جديد للزبون للحصول على رضاه وتوسيع حصة المنظمة السوقية بما يضمن لها البقاء و النمو. ويؤكد هذا التوجه إلى استبدال مصلح التكلفة Cost بمصطلح استثمار Investment، وهذا الاستبدال يجب على المسؤولين في المنظمة اعتباره استثمارا طويل الأجل لا تتحقق عوائده في المدى القصير، بل تتحقق على المدى الطويل، تطبيقا لمبدأ "ازرع اليوم لتحصد غدا". وما يؤكد هذه النظرة هو أنه طالما اعتبرنا التدريب و التنمية مسألة إستراتيجية، إذا لابد من النظر إليهما على أنهما استثمار بشري طويل الأجل، و الدلالة على أهمية هذا الاستثمار، هو أن التدريب و التنمية أصبحتا في الوقت الحاضر معيارا يقاس به نجاح المنظمات، فعندما يرى المختصون في مجال إدارة الجودة الشاملة و الأيزو ISO لعام 2000 بندا للاستثمار في مجال التدريب و التنمية البشرية في موازناتها الاستثمارية، سيعتبرون ذلك نقطة قوة فيها، لأن مسألة التعلم المستمر من وجهة نظرهما الذي يسعى التدريب و التنمية إلى تحقيقه ركنا أساسيا فيهما.
6- التنبؤ مسألة حتمية في التدريب و التنمية:
ولأن التدريب و التنمية إستراتيجية طويلة الأجل وتخطيط للتعلم المستمر ضمن إطار المنظمة المتعلمة. كما رأينا، فلا بد من تبني التنبؤ عند رسم هذه الإستراتيجية، لأن العمل الإستراتيجي إنما هو تخطيط طويل الأجل، و التخطيط الناجح كما نعرف لابد من قيامه على أساس من التنبؤ لما سوف يحدث في المستقبل، للاستعداد له ومواجهته. و لهذا على إدارة الموارد البشرية التي هي المسؤولة عن رسم إستراتيجية التدريب و التنمية، تولي زمام المبادرة و التنبؤ باحتياجات المنظمة المستقبلية من المعارف و المهارات ضمن إطار إستراتيجية المنظمة الكلية، التي رسمت أصلا في ضوء نتائج التنبؤ بمتغيرات البيئة المتوقعة. نفهم من ذلك أن إستراتيجية التدريب و التنمية لم تعد تنتظر حدوث التغييرات لتقوم بتكييف الموارد البشرية معها، كما كان عليه الحال في السابق عندما كان التدريب و التنمية سياسة تتعامل مع المستجدات الحالية فقط، بل أصبحت إستراتيجية التعلم المعاصرة تعتمد على التنبؤ و التوقع لما سيحدث من تغييرات في العمل و الاستعداد لها قبل وقوعها.
7- تدريب وتنمية فريق العمل:
يؤكد التوجه المعاصر في مجال تدريب وتنمية الموارد البشرية على تبني موضوع تدريب وتنمية فرق العمل، وذلك بعد أن تحول أسلوب تنفيذ الأعمال في المنظمات إلى فرق عمل مدارة ذاتيا، وبموجب ذلك يقوم هذا التدريب و التنمية بتعليم أعضاء الفريق مهارات تمكنهم من العمل بشكل جماعي، وأهم هذه المهارات:
- مهارة الاتصال مع الآخرين بشكل يدعم الرغبة في العمل الجماعي؛
- مهارة التفاعل و التعاون مع الآخرين؛
- مهارة المشاركة في وضع الأهداف وتخطيط العمل؛
- مهارة اتخاذ القرار الجماعي وتبني روح المسؤولية؛
- إثارة روح التحدي وقبول التغيير و التفاعل معه؛
- مهارة التصدي للمواقف غير المتوقعة؛
- تعليم سلوكيات تؤدي إلى تماسك الفريق؛
- مهارة تنسيق العمل مع الآخرين؛
- مهارة التوصل إلى أشياء جديدة ومبتكرة مع الآخرين.
8- تدريب وتنمية المديرين:
يقول بيتر دراكر: "إن المدير يحتاج إلى تطوير، تماما كما تحتاجه الشركة و المجتمع، وعليه الاحتفاظ بنفسه يقظا وحاضر الذهن، وأن يكون جاهزا لقبول التحدي، وعليه اليوم الحصول على المهارات اللازمة لجعله مؤثرا في الغد. وهو يحتاج إلى فرصة لأن يفكر في معنى خبرته وأن يفكر في نفسه وأن يتعلم كيف يعتد بقواه. ثم بعد ذلك سيحتاج إلى تطوير كفرد، أكثر مما سيحتاج إلى تطوير كمدير."(4)
و يؤكد التوجه المعاصر في مجال التدريب و التنمية وإلى حد كبير، على مسألة رفع مستوى مهارة المديرين التنفيذيين، الذين يتخذون القرارات التنفيذية لوضع إستراتيجية المنظمة موضع التنفيذ الصحيح، فمهارة هؤلاء يتوقف عليها نجاح العمل في المنظمة باعتبارهم يمثلون الإدارة العليا فيها، وهم خط التماس الأول مع ما يحدث في البيئة، فإذا لم يكونوا على مستوى عالي من المهارة، ستكون المنظمة التي يقودونها في موقف حرج بل خطير. فعلى سبيل المثال خصصت شركة موتورولا MOTOROLA، وفيدرال اكسبريس FEDERALEXPRESS الأمريكييتين عام 1999 نسبة 3% من قائمة الرواتب و الأجور السنوية فيها من أجل الاستثمار في برامج تدريب وتنمية رجال الإدارة العليا التنفيذيين.
..................................................
الهوامش:
(1) عمر وصفي عقيلي، إدارة الموارد البشرية المعاصرة: بعد إستراتيجي، عمان، دار وائل، 2005، ص ص440-447.
(*)Jean-Michel, BRUNNER, Intégration de la Stratégie des Ressources Humaines à la Stratégie Globale, thèse doctorat, Faculté de Droit et des Sciences Economiques, Université de NEUCHATEL, Suisse, 1991.
(2) موقع منتديات مجموعة الموارد البشرية (https://www.hrm-group.com/vb/archive/index.php?t-916.html).
(3) Maaretta, TORRO, Global Intellectual Capital Brokering: Facilitating The Emergence of Innovations Through Network Mediation, Finland, VTT publication, 2007, p 41.
(4) بيتر دراكر، الإدارة، الجزء الثاني: المدير، ترجمة: محمد عبد الكريم، القاهرة، الدار الدولية للنشر و التوزيع، 1995، ص 57.