علمتني يا بنيّ،وانا لفراقك لمحزونون [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]

في يوم الأربعاء 27/4/2011 رحل الابن البار الموهوب والمبدع باسل طارق الجعبري ،ذهب للمستشفى لمراجعة عادية عادية لكنه لم يعد إلا ميتا وليس لشيء إلا لانتهاء اجله
فالحمد لله رب العالمين وإنّا لله وانا إليه راجعون
لكن نفتقده كثيرا وقد رأيت فيه مستقبلا في خدمة دينه وأمته عظيما
لكنه ارتحل الى دار الخلد. من سارّه سبب او هاله عجب فلي ثمانون عاما لا أرى عجبا الدهر كالدهر والأيام واحدة والناس كالناس والدنيا لمن غلبا ترى هل نستطيع أن نكون مع الدهر كما الشاعر يقول ،أم أننا بحاجة لعمر الثمانين لنفهم كما فهم ونوقن كما أيقن،ولكن ليس الخبر كالعيان وفضح الموت الدنيا فلم يترك لذي لب فرحا كما قال الحسن ،وحقا قول كعب :من عرف الموت هانت عليه الدنيا وهمومها. أصعب ابتلاء وأعظم مصيبة واجهتها في حياتي ،لقد مررت على المصائب والأهوال باصنافها ،فمن الاحتلال والاعتقال والرصاص والتعذيب والعزل الانفرادي ،وفقدت أقاربا وودعت أحبابا وإخوانا،هموم عظيمة وزلازل كبيرة كلها كنت أجد نفسي اخرج منها أقوى مما كنت ،وذكرياتها جميلة في الذاكرة ،لكن فقدان ابني باسل احتار فيه وأتعجب وما كنت لهكذا يوما أترقب. بحمد الله وتوفيقه أنني تقبلت هذا المصاب ساعتها بالتسليم بقضاء الله وقدره ،اذكر ساعتها أنني قررت أن أوقف الزمن في تفكيري ،فلا فاكر فيما فات ولا انظر إلى ما هو آت ،قررت فقط أن أعيش الساعة التي أحياها ،فقاومت ذكرياتي وسجنت آمالي وتطلعاتي وصبرت نفسي والحمد لله على حال ولكن الوجع أراه يزداد.واسرد هنا لطائف تربوية تعلمتها من ابني ووعيتها أكثر بعد فراقه. فصل الالتزام علمتني يوما كيف تتمسك بأخلاقك ولو عاندك الناس جميعا..أتذكر يوم جئتني شاكيا أن أبناء أعمامك قاطعوك وأنهم لا يرغبوا في اللعب معك لأنك تحكي الصحيح والصواب دائما ,,,فسألتك وما العمل ..أجبتني ما بدهم يلعبوا معي بلاش ..بس أنا رح احكي الصحيح طول عمري ...فأجبتك سر على هذا المنوال ولا تحزن وسيعلم الجميع ولو بعدئذ انك على صواب.. ابني باسل رحمه الله كان عنوان للصراحة والصدق فكنا عندما نريد أن نعلم الخبر اليقين لأفعال أطفالنا كان الجميع مقصده باسل ..باسل لم يخش يوما احد ..لم يخش يوما عقاب ..يزيده العنف تحدي لا يعرف الانهزام او الانكسار مهما بالغت في عقابه او ضربه..رحمك الله يا بني افتقدك كثيرا. ويكأن الصدق في هذا الزمان وحتى للأطفال من الصعوبة بمكان فعاجلك الموت لتثبت على وعدك ... فصل العقاب لمن : علمتني أن الضرب والعناد اقصر الطرق لراحة المربي وأبعدها عن تحقيق أهدافها...لم تستجب يوما لعقاب بدني بل لم تتنازل عن خطأ عملته تحت التهديد او الضرب ..لغتك كانت الحوار الهادئ تسمع وتحب أن تُسمع الآخرين رأيك ...علمتني الإصرار والعناد في الحق وان الأذى في البدن أهون بكثير من أذى النفس وتنازلها... نحن الآباء كثيرا ما ننهي حالة حوار او نقاش او توجيه أمر ما لأبنائنا ننهيه بالصراخ وعلو الصوت وأحيانا قد نصل لضرب أبنائنا،أيقنت من مراجعاتي مع أبنائي أن هذه الحالة هي لحظة افلاسنا وعدم قدرتنا على الحوار والاقناع للأبناء بل أحيانا عجزنا عن المناورة معهم ،إننا نهزم أمامهم ونعجز أمام متطلبات تربيتهم وما تحتاج الى تأني وافهام وتبسيط وتكرار،ونعتقد ان الصراخ والضرب يمنحنا الغلبة والنصر على الأبناء ،لماذا النصر على الأبناء لأننا نعتقد أن سنة الحياة دائما يجب ان تكون الغلبة والكلمة العليا للآباء ولكبار السن فاكبر منك بيوم اعلم منك بسنة (كما يقولون لا كما الواقع )،اعلم أيها الأب أن ضرب الابن في سبيل الإلزام والإقناع بما تريد يضعك والطفل في مأزق ،إن الطفل يفكر انك ضربته لأنك أقوى واكبر منه وساعتها يظل يمني نفسه انه سيردها عندما يكبر ويصبح أقوى او على الأقل سيدافع عن نفسه ،اجعل الضرب آخر وسيلة وأتبعه بالتعليل وإفهام الطفل أن هذا قانون عقوبات متفق عليه وليس مزاجا او رغبة منك ولا تفقده الحنان والرأفة أبدا في كل الظروف ،وتعلم من ابنك واعترف أحيانا بالهزيمة منه وتذكر قول الغزالي :اشد الناس حماقة أقواهم اعتقادا في عقل نفسه ، واثبت الناس عقلا أشدهم اتهاما لنفسه ، وأكثرهم سؤالا للعلماء . فصل النظام والتنظيم علمتني النظام والتنظيم ..لا أنسى يوما دخلت عليك ليلا بساعة متأخرة وأنت ترتب جدول دروسك ليومك الجديد ...فعرضت مساعدتي لك باعتبار انك مازلت غضا في القراءة وبداية شهورك في المدرسة ..فامتنعت بإصرار على أن تقوم بعملك بيدك ..فاستغربت وأخذت أشاهد ما ستعمل منتظرا اللحظة التي سترجع فيها الي طلبا للمساعدة وباعترافك بالعجز عن الانجاز ...فابهرني ما رأيت منك ..اذ انت تجاهد في قراءة البرنامج وتنجح والاهم في ذلك تضع بالترتيب كتب المدرسة فالحصة الاولى يكون كتابها أولا والثانية ثانيا ...حقيقة أنني ما خطر ببالي يوما هكذا ترتيب طوال دراستي وما رأيت أحدا حريصا أيضا بهكذا أسلوب. كنت تسعد كثيرا بأداء صلاة الفجر معي جماعة في المسجد ... وتعاتبني إن لم ايقظك للصلاة ...كنت تفتخر بانفرادك وتميزك حين ترى نفسك الطفل الوحيد في المسجد فجرا ...علمتني حبك للتميز وكيف أضفيت بصمتك على سلوكك وأخلاقك ...لا تهتم بالآخرين او تسعى لتقليدهم ... تحب أن تعمل ما تحب... كم كنا نطرب لسماع ضحكاتك العالية وأنت تشاهد برامجك المفضلة على التلفاز ...لقد كنت تتفاعل مع أحداث برامج الأطفال بكل كيانك وحين يسرك شيئا لا تتورع أن تضحك عليه بملء فيك ...هو الانسجام والتناغم والتفاعل مع ما تحب وإخراجه للملأ وعدم الاكتفاء بدفنه بين الضلوع. فصل التعبير والجمال علمتني حب الجمال ...فقد كانت لك ملكة ثاقبة في الملاحظة ..وكنت بكل براءة تعبر عن وجهة نظرك في كل جديد تلحظه بصراحة ومن غير مجاملة ...حتى أننا كنا نحرص على اخذ رأيك في ملابسنا وفي أعمال البيت وديكوراته وفي الكثير الكثير من حياتنا المشتركة التي وفقنا الله أن نشركك بها كشريك كامل حتى بالتفاصيل، وكنت ما تبخل علينا برأي له إضافة مهما كانت ... كنت نحب الرسم والالوان بشدة ..كم كنت دقيقا في الالتزام بتعليمات المعلمة ,,, وأذكرك جيدا في مشاركتك لي في اختيار الصور لإلصاقها على دفترك وكيف كانت لك الكلمة الأولى في اختيار شيء يخصك ..واذكر كم كنت اجتهد في الصاق الصور على دفترك حتى أثنيت علي يوما بانني (لزيق ). نغفل في حياتنا مع أبنائنا كثيرا أهمية الحوار كمدخل للتربية وبناء الشخصية ...نفتقد لاستخدام آليات وسلوكيات تربوية في تعليم أبنائنا التعبير باعتباره ركيزة اساسية للشخصية السوية ...التعبير والحوار احد أهم مداخل بناء الشخصية وتعليم التفكير وبناء الذكاء الاجتماعي ..لكن اذا أردنا من الطفل أن يعبر نقول له ارسم صورة تمثل كذا ونضيف له افكارنا وان اعمل كذا وكذا ...او اذا اردنا تعبيرا شفهيا منه قلنا له قل كيت وكيت ...نستعجل على اطفالنا ولا ندعهم مع انفسهم قليلا ليختاروا ما يريدون رسما او قولا او فعلا ...دعوا ابنائكم مع خيالهم وتمهلوا عليهم لصناعتها ودائما تقبلوا افكارهم بالسعادة والثناء فهم اطفال وأفكارهم ما زالت نبت صغير يقوى بماء الاحترام وتربة الثناء . والجمال صفة تحبها النفس السوية والله جميل يحب الجمال ...ماذا فعلنا من سلوكيات لتعميق هذا المفهوم لدى أبنائنا أقول سلوكيات وليست اقوال ..فلنتفق على أن ما يؤثر في أبنائنا التجارب والأفعال التي يشاهدونها وليست الأقوال..ابني باسل هو من ألزمني باحترام نظرته الجمالية ..وهو الذي كان يدفعني لاخذ رأيه في الكثير من الامور لأنه كان مبادرا ومعبرا بكلمات صغيرة توحي باعجابه لشيء او انكاره له ..لكن هل ساعدنا اطفالنا على الشجاعة في التعبير والقول والتفكر في الأمور لإبداء الرأي دون عجلة منا او تسفيه لآراء ابنائنا. علمني ابني حب الجمال في مظهره وحرصه الشديد على الوقوف على المرآة لتصفيف شعره بشكل جيد كل صباح ..ومن ثم لا غنى يوما عن العطور وكنت الاحقه احيانا لسخاءه على نفسه من عطوري ....يهتم بنظافته وجمال مظهره ومع ذلك لا يمنعه ذلك من اللعب مع أقرانه ولو اتسخت ثيابه على أي شكل كان ..يهوى عمل ولعب ما يحب من غير التفكير كثيرا في العواقب.. فصل الخيال دع الخيال لا تحده جدران او صفحات .. كان واجبا علي كل ليلة سرد قصة لابنائي وخاصة الباسل وكانوا على خصام مع القصص التي تباع في الأسواق ...بابا لا تقرأ من الكتاب نريد قصة من عقلك ...ويا ريت تكون علي بابا والسندباد ...لكم كان هذا الطلب متعبا وممتعا في نفس الوقت ..فأبنائي يجبرونني على اطلاق خيالي ..وعلى استحضار قصة لها مراحلها المنسجمة وفيها التأثيرات الصوتية وحبكة القصة وإثارتها وعليك ان لا تقطعها او تتلكأ في سير الحدث فيها ...ومع ذلك على ما كانت تتعبني رواية القصة التي أضعها من بنات أفكاري كم كنت اسعد بأنني ادخل لهم مفاهيم ومعتقدات الخير والايجابية من غير ان يشعروا ... وكم كنت اسعد عندما اسمع آرائهم في حبكة القصة فأسألهم كيف في رأيك سيفعل علي بابا وكيف سيتخلص من مشكلته ...وكثيرا ما كنت آخذهم في قصصي الى نتائج او سير احداث لا تخطر ببالهم وتعمل على شدهم للاستماع واطلاق خيالهم بمستقبل الأحداث. الكأس الكبير: هو ما وعدتنا به نهاية العام الدراسي ..الكأس الكبير هدية المدرسة للأوائل ...وكأنك رأيت كاس أخيك للمرتبة الخامسة صغيرا لا يناسب طموحك ...ولكن قدر الله وما شاء فعل والحمد لله...لا تستغربوا أننا كنا نعاقب الباسل بالتهديد بحرمانه الذهاب الى الروضة ومن بعدها المدرسة ...الأطفال عادة ما يسعدوا بالغياب عن المدرسة ...لكن أليس أسلوبا قد يكون جميلا لو أننا لفتنا انتباه أبنائنا لأمور مهمة هو يكرهها لما فيها من تكاليف لا يفهمها احيانا ...نشده اليها عن طريق اشعاره أنها نعمة وميزة كبيرة قد نسحبها منك ..سيستغرب من طرحنا لأننا تلبي طموحة في إعفاءه ما يكره لكن سيلتفت أن في الامر شئ... دافعية التعلم الذاتية هي المحرك الأساس في الاقبال والتميز في الدراسة هل فكرنا كيف نتعامل معها ونعززها ...هل ندرك أن شخصية ابنائنا الظاهرة لنا من سلوكيات واقوال ما هي الا الجزء اليسير من جبل الثلج الظاهر ..وان معنوياته وعواطفه وانفعالاته ودافعيته وشخصيته مبنية على الجزء الأكبر من جبل الثلج الذي تغمره المياه ولا يظهر لنا ...الباسل صنعه الله على صفة التحدي وكم كنت الاحظه يتألم في شهور مدرسته الاولى للصف الأول وهو يجد نفسه لا يستطيع القراءة ويشاهد أخاه الاكبر يقرأ بسلاسة..لم يستسلم كان يمسك الكتاب ويتأمل ويسأل ويسهر الليالي مع كتبه لعله يحل طلاسمها وما هي الا اشهر قليلة واذا به يتقن القراءة والكتابة باصراره وعزيمته ...ممتعا نفسه بتحضير برنامجه وكتبه بيده آخر النائمين... وأول المستيقظين هي همّة يمنحا الله لمن احب ....طاقة ليست طبيعية تغلب النوم وترى المتعة في الاستيقاظ والعمل أجمل وأمتع بكثير من النوم الطويل ...دائما نحن الاهل في صراع مع ابنائنا حول اجبارهم على النوم في ساعة معينة .. ومع انني اعتقد اننا كنا موفقين مع ابنائنا في الوصول لحل لهذه المشكلة ..فاولا هناك نظام على الجميع ان يلتزمه مثلا التواجد في غرف النوم واغلاق التلفاز في ساعة معينة ثابتة على مر الأيام ...لمن لا يريد النوم لا بأس في الأمر كن في غرفتك واعمل ما تحب ...اما التلفاز فهو مغلق امام الكبار والصغار معا ...هنا كان الابن الكبير مع أخيه يستغلونها في الأحاديث بينهم واحيانا الخلاف والنزاع واللعب المزعج ...لكن سريعا ما يتوجه كل شخص لما يحب ...الليث يتجه للنوم فهو محب للنوم ..والباسل رحمه الله يتجه لألعابه او كتبه او رسوماته ..ويجلس ساعات في سريره احيانا من غير ملل... ومع ذلك يكون اول المستيقظين ... نسيج وحده وعالم خاص به ...البدائل والاختيار...آلية اتخاذ القرار ليس بالضرورة هي علم للكبار او نتعلمها في الحياة ...نستطيع زرعها وتثقيف أبنائنا نحوها من خلال سلوكياتنا معهم ....هل نشاور أبنائنا في اختيار وجبة مثلا او مكان رحلة نقصدها او سلوك طريق ما في السيارة او شراء شيء للبيت ...هل نعطيعهم خيارات في امور حياتهم ليقرروا ما يريدون ...وهل نتبعها بطلب التعليل لماذا كان هذا الاختيار...والمهم هنا التكرار والعادة لان الطفل لا يفهم التعليل ولا يميل اليه كثيرا ..لكن بالتعويد والتكرار تصبح لديه ملكة فهم العلة والتعبير عنها وموازنة الخيارات المتعددة والأخذ بأفضلها حقا ان المرء حيث يضع نفسه نفس عصام سوّدت عصاما وعلّمته الكرّ والاقداما وصيّرته بطلا هماما واخيرا ما بين الأمل والألم والمحنة والمنحة والتألم والتأمل ،ما بين هذه الكلمات التي تدور حولها حياتنا،نلحظ ان حروفها واحدة وترتيبها محتلف وما هي الا حركة حرف لتحيل المحنة الى منحة والالم الى امل ،بمعنى ان بايدينا ان نتعامل مع قضاء الله وحوادث الدنيا لكنها بحاجة الى حركة الحرف تلك.
والدك طارق الجعبري