تقاعد= انتهى العمل وبدأت الحياة تقاعد = انتهى العمل وبدأت الحياة

ياسر الحزيمي

بلغ العم أحمد السن القانوني للتقاعد، فترجّل عن فرس العمل، وأُحيل إلى التقاعد ليستقبل نمط حياة جديدة لم يألفها.
رحل وقد ودّعه جُلُّ زملائه، وكرّمه بعضهم، وتواصل معه القليل منهم. مرت الأيام على العم أحمد، وتبدلت الحياة من حوله، فما عاد هاتفه يستقبل المكالمات بعد أن كان لا يكلّ من الرنين، وتقلّصت علاقاته الاجتماعية كثيراً، وتغيرت نظرات الآخرين له، ولم تعد تلك الوجوه الباسمة تنظر إليه، أو تعبأ به!!


أصبح غريباً في مجتمعه ووحيداً بين أهله، يعيش على هامش الحياة، في مجتمعٍ ليس له أذن تصغي لأمثاله، أو قلب يقدر ما قدمه خدمة لوطنه، أو عقل يحاول استثمار خبراته.
العم أحمد وأمثاله الكثير ممن أقصاهم المجتمع، وأهمل دورهم، حتى يخيل إليهم أن التقاعد جرّدهم من كل قيمة إنسانية، وحرمهم حق الاستمتاع بالحياة؛ الأمر الذي أثر على نفسيّاتهم، وانعكس على أجسادهم، لتبدأ مظاهر الشيخوخة ترتسم على وجوههم، وتبدأ حركتهم وحيويتهم تخبو شيئاً فشيئاً، ويبدأ الكل يطالبه بالراحة وعدم بذل الجهد في أي عمل، مما يوحي إليه بعجزه وقلة حيلته، لتبدأ رحلته نحو المخاوف المرضية، وتنمو لديه أعراض افتراضية لأمراض جلّها وهمية؛ فتقل المناعة عنده،
ويبدأ الضعف الفكري والجسدي يتسلل إلى جسده، وقد يتطور إلى سلوك انعزالي، وتتحول حياته إلى ارتقاب للموت كل حين؛ لأن المجتمع قال له: أصبحت متقاعداً، فسمعها (مُت قاعداً)!!
ولعلي أحمّل المجتمع جزءاً من المشكلة حينما غفل عن دورهم في بناء المجتمع وخدمة الوطن، فسلبهم حقهم من التكريم والتقدير، حتى غدا الفرد منهم حاله كحال عامة الناس أو هو أقل!
لماذا لا نرى تكريمهم في الملتقيات؟ لماذا لا يُخصّون بعناية أكبر في المستشفيات وبميزات أكثر في البنوك؟ لماذا لا يُعاملون معاملة كبار الشخصيات في كل الخدمات والقطاعات؟
إن الله -عز وجل- سبحانه ليستحي من ذي الشيبة في الإسلام، أفلا نستحي نحن من ذي الشيبة في العمل وفي خدمة بلده ومجتمعه؟!
وإن كنت حملّت المجتمع جزءاً من المشكلة، فإني كذلك أبعث برسالة إلى كل متقاعدِ بأن التقاعد عن العمل ليس تقاعداً عن الحياة، بل هو انتقال من نمط حياة ألفتها إلى نمط حياة جديدة، تحتاج وقتاً لتألفها، وهو انتقال من حياة العمل الروتينية إلى حياة أكثر إثارة وحرية.
أيها المتقاعد، آن لك أن تكافئ نفسك، وتستمتع بحياتك، آن لك أن تلتفت إلى الجمال من حولك بعد أن صرفتك عنه مشاغل الحياة!
ثقْ بنفسك، وأعد تقديرك لذاتك، وابحث عن هدف يكسر روتين حياتك، ويشعل الهمة في ذاتك؛ فمن صعد الجبل حتى القمة، فإنه لا محالة سينزل مرة أخرى، ما لم يحدد قمة أخرى يسعى جاهداً للوصول إليها.
استمتع بحياتك؛ فلكل عمر جماله، واعلم بأن الإحساس بالشيخوخة حالة ذهنية، قد تصيب الكبير أو الصغير؛ فهي شعور داخلي كالشعور بالثقة أو الشجاعة.
فكم من شيخ هرم تجده يتقد حيوية ونشاطاً فتسمعه يقول: "دعنا نتصارع أو دعنا نتسابق، وتراه لا يعتمد على أحد، ولا يقبل من أحد أن يعطف عليه أو يساعده"!! لأن حالته الذهنية تشعره بشبابه.
استمتعْ بحياتك؛ فحياتك بدأت الآن؛ فالحياة لا تتوقف بتوقف العمل.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ قَامَتْ السَّاعَةُ وَبِيَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ فَإِنْ اسْتَطَاعَ ألاّ يَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَفْعَلْ". وهذا ما ينبغي على المسلم أن يكون عليه، تطلّع دائم، وعمل متقن، لا يحدّه عمر، ولا يمنعه ظرف.