بقلم/ د.نصر عارف
كلية العلوم السياسية-جامعة القاهرة
يعد مفهوم التنمية من أهم المفاهيم العالمية في القرن العشرين، حيث أُطلق على عملية تأسيس نظم اقتصادية وسياسية متماسكة فيما يُسمى بـ "عملية التنمية"، ويشير المفهوم لهذا التحول بعد الاستقلال -في الستينيات من هذا القرن- في آسيا وإفريقيا بصورة جلية. وتبرز أهمية مفهوم التنمية في تعدد أبعاده ومستوياته، وتشابكه مع العديد من المفاهيم الأخرى مثل التخطيط والإنتاج والتقدم. وقد برز مفهوم التنمية Development بصورة أساسية منذ الحرب العالمية الثانية، حيث لم يُستعمل هذا المفهوم منذ ظهوره في عصر الاقتصادي البريطاني البارز "آدم سميث" في الربع الأخير من القرن الثامن عشر وحتى الحرب العالمية الثانية إلا على سبيل الاستثناء، فالمصطلحان اللذان استُخدما للدلالة على حدوث التطور المشار إليه في المجتمع كانا التقدم المادي Material Progress، أو التقدم الاقتصادي EconomicProgress.
وحتى عندما ثارت مسألة تطوير بعض اقتصاديات أوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر كانت الاصطلاحات المستخدمة هي التحديث Modernization، أو التصنيع Industrialization.
وقد برز مفهوم التنمية Developmentبداية في علم الاقتصاد حيث استُخدم للدلالة على عملية إحداث مجموعة من التغيرات الجذرية في مجتمع معين؛ بهدف إكساب ذلك المجتمع القدرة على التطور الذاتي المستمر بمعدل يضمن التحسن المتزايد في نوعية الحياة لكل أفراده، بمعنى زيادة قدرة المجتمع على الاستجابة للحاجات الأساسية والحاجات المتزايدة لأعضائه؛ بالصورة التي تكفل زيادة درجات إشباع تلك الحاجات؛ عن طريق الترشيد المستمر لاستغلال الموارد الاقتصادية المتاحة، وحسن توزيع عائد ذلك الاستغلال. ثم انتقل مفهوم التنمية إلى حقل السياسة منذ ستينيات القرن العشرين؛ حيث ظهر كحقل منفرد يهتم بتطوير البلدان غير الأوربية تجاه الديمقراطية. وتعرف التنمية السياسية: "بأنها عملية تغيير اجتماعي متعدد الجوانب، غايته الوصول إلى مستوى الدول الصناعية"، ويقصد بمستوى الدولة الصناعية إيجاد نظم تعددية على شاكلة النظم الأوربية تحقق النمو الاقتصادي والمشاركة الانتخابية والمنافسة السياسية، وترسخ مفاهيم الوطنية والسيادة والولاء للدولة القومية. ولاحقًا، تطور مفهوم التنمية ليرتبط بالعديد من الحقول المعرفية. فأصبح هناك التنمية الثقافية التي تسعى لرفع مستوى الثقافة في المجتمع وترقية الإنسان، وكذلك التنمية الاجتماعية التي تهدف إلى تطوير التفاعلات المجتمعية بين أطراف المجتمع: الفرد، الجماعة، المؤسسات الاجتماعية المختلفة، المنظمات الأهلية.
بالإضافة لذلك استحدث مفهوم التنمية البشرية الذي يهتم بدعم قدرات الفرد وقياس مستوى معيشته وتحسين أوضاعه في المجتمع.
ويلاحظ أن مجموعة المفاهيم الفرعية المنبثقة عن مفهوم التنمية ترتكز على عدة مسلمات:
أ - غلبة الطابع المادي على الحياة الإنسانية، حيث تقاس مستويات التنمية المختلفة بالمؤشرات المادية البحتة.
ب - نفي وجود مصدر للمعرفة مستقل عن المصدر البشري المبني على الواقع المشاهد والمحسوس؛ أي بعبارة أخرى إسقاط فكرة الخالق من دائرة الاعتبارات العلمية.
ج - إن تطور المجتمعات البشرية يسير في خط متصاعد يتكون من مراحل متتابعة، كل مرحلة أعلى من السابقة، وذلك انطلاقًا من اعتبار المجتمع الأوروبي نموذجًا للمجتمعات الأخرى ويجب عليها محاولة اللحاق به. الاختلاف بين مفهوم التنمية في اللغة العربية عنه في اللغة الإنجليزية:
يتضح الاختلاف بين مفهوم التنمية في اللغة العربية عنه في اللغة الإنجليزية، حيث يشتق لفظ "التنمية" من "نمـّى" بمعنى الزيادة والانتشار. أما لفظ "النمو" من "نما" ينمو نماء فإنه يعني الزيادة ومنه ينمو نموًا. وإذا كان لفظ النموّ أقرب إلى الاشتقاق العربي الصحيح، فإن إطلاق هذا اللفظ على المفهوم الأوروبي يشوه اللفظ العربي. فالنماء يعني أن الشيء يزيد حالاً بعد حال من نفسه، لا بالإضافة إليه.
وطبقًا لهذه الدلالات لمفهوم التنمية فإنه لا يعدّ مطابقًا للمفهوم الإنجليزي Development الذي يعني التغيير الجذري للنظام القائم واستبداله بنظام آخر أكثر كفاءة وقدرة على تحقيق الأهداف وذلك وفق رؤية المخطط الاقتصادي (الخارجي غالباً) وليس وفق رؤية جماهير الشعب وثقافتها ومصالحها الوطنية بالضرورة.
ويلاحظ أن شبكة المفاهيم المحيطة بالمفهوم الإنجليزي تختلف عن نظيرتها المحيطة بالمفهوم العربي.
فعلى سبيل المثال تُعالج ظاهرة النمو (في المفهوم العربي الإسلامي) كظاهرة جزئية من عملية الاستخلاف التي تمثل إطار حركة المجتمع وتحدده، وكذلك نجد مفهوم "الزكاة" الذي يعني لغة واصطلاحًا الزيادة والنماء الممزوجة بالبركة والطهارة، وسمى الإخراج من المال زكاة وهو نقص منه مادياً بمعايير الاقتصاد، في حين ينمو بالبركة أو بالأجر الذي يثاب به المزكي من الله تعالي. وهو ما يقارن بالعكس بالربا الذي قال عنه الله (يمحق الله الربا ويربي الصدقات) [البقرة:276].
ويتضح من ذلك أن مفهوم النمو في الفكر الإسلامي يُعبر عن الزيادة المرتبطة بالطهارة والبركة وأجر الآخرة وإن لم يتجاهل مع هذا "الحياة الطيبة" في الدنيا، بينما يركز مفهوم Development على البعد الدنيوي من خلال قياس النمو في المجتمعات بمؤشرات اقتصادية مادية في مجملها، حيث تقوم المجتمعات بالإنتاج الكمي، بصرف النظر عن أية غاية إنسانية، وتهتم بالنجاح التقني ولو كان مدمرًا للبيئة ولنسيج المجتمع، وتؤكد على التنظيم الاجتماعي ولو أدى إلى الاضطهاد للآخر/ الغريب.
وفي الواقع فإن "التنمية" تعد من المفاهيم القليلة التي تجمع بين البعد النظري والجانب التطبيقي، وتستدعي الرؤية الفلسفية والغيبية للمجتمعات ومقاصد تطورها
اقرأ أيضًا: [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
الفقر مع التنمية الكل أصبح فقيراً...!!
سلمان خان
باحث اقتصادي- مركز أوكسفورد للدراسات الإسلامية-إنجلترا
الفقر مفهوم مراوغ، فربما كان هناك فقراء بقدر ما توجد دلالات متعددة للكلمة وبقدر عدد البشر وتوقعاتهم، فلغات العالم تتنافس مع بعضها البعض في عدد الكلمات التي تشير إلى ظروف الفرد المرتبطة بالمدركات المختلفة للفقر.. فمثلاً: في الفارسية ثمة ما يزيد على 30 كلمة تصف أولئك الذين يُعتبرون لسبب أو لآخر فقراء.. وفي معظم لغات إفريقيا ثمة -على الأقل- من 3 إلى 5 كلمات لتعريف الفقر وهكذا. من الفقير؟!
واقعيًا، ليس ثمة تعريف موحد للفقر في كل الثقافات؛ بل قد لا تعتبر كل الثقافات الفقر عيبًا، فالفقر لم يكن ولفترة طويلة من الزمان وفي العديد من حضارات العالم نقيض الغنى، وكان ثمة دائمًا مجال "الفقر الاختياري" أي أولئك البشر الذين رفضوا الزخرف والمظهر وانطلقوا يسبحون في ملكوت الله، وكان احترام أولئك الفقراء باختيارهم (المتصوفة على سبيل المثال) من تقاليد الشرق المستقرة.
وحديثًا -مع اتساع الاقتصاد التجاري وعملية التمدين- اكتسب الفقر دلالته الاقتصادية، وأصبح الفقير هو من ينقصه المال والممتلكات التي يحوزها الغني، ويتحول الفقر إلى معنى مطلق وليس نسبيًا، فيصير الفقر عيبًا وبعدئذ يصير مرضًا يذل من يصاب به ويجب علاجه.
إن الفقير في المجتمعات البشرية قبل سيطرة الاقتصاد هو ذلك العضو الذي يكسب قوت يومه بصعوبة أو الذي اختار الكفاف، بيد أنه يظل عضوًا في الجماعة، لكنه لاحقًا أصبح ذلك الغريب المتشرد الذي يتم عزله وتهميشه في الواقع المعاش.
وطبقًا لأدبيات التنمية فإن الفقر صفة لمجتمع ما الفرد فيه لا يحقق مستوى معين من الرفاهية- والذي عادة ما يُشار إليه بخط الفقر أو حد الكفاف، ويجب لتعريف الفقر الإجابة على ثلاثة تساؤلات؛ تحديد ماهية الحد الأدنى من الرفاهية، وكيفية التيقن من صحة فقر الفرد، وتجميع مؤشرات الرفاهية وقياس الفقر على أساسها.
وتقترب فكرة الرفاهية Well-being من مفهوم مستوي المعيشة Standard ofLiving (SOL)، الذي يعد أحد المفاهيم الشائعة في أدبيات التنمية، ومحور أعمال البنك الدولي في تقاريره السنوية عن التنمية خلال فترة التسعينيات.
ويستهدف مفهوم مستوى المعيشة قياس كفاءة الحياة؛ معتمدًا على معايير الاستهلاك الفردي من السلع والخدمات المشتراة من دخل الفرد أو توفيره، ويفترض مفهوم الفقر وجود حد أدنى من الاستهلاك والدخل يقاس عليه مستوى معيشة الفرد، ويشار إليه بخط الفقر، حيث يصنف أي فرد يقع دخله أو استهلاكه أقل من هذا الحد باعتباره فقيرًا. ويمكن تصنيف مناهج قياس الفقر إلى اتجاهين:
الاتجاه الأول: اتجاه الرفاهية ويستخدم أصحاب هذا الاتجاه معايير مالية في قياس الرفاهية مثل: دخل الفرد وإنفاقه الاستهلاكي، وهو الاتجاه السائد في أدبيات الفقر.
الاتجاه الثاني: اتجاه الـ "لا رفاهية" non-welfarist ويعني هذا الاتجاه بدراسة المؤشرات الاجتماعية للرفاهية، مثل: التغذية والصحة والتعليم، ويركز على قضايا مثل: سوء التغذية، أو غياب الرعاية الصحية، أو الأمية، باعتبارها نتائج مباشرة لانتشار الفقر.
ومن جانب آخر، انقسمت الاجتهادات حول تعريف الفقير إلى مدرستين:
-المدرسة المطلقة: وهي تضع حدًا أدنى لمستوى الدخل الضروري الذي يجب على كل فرد إحرازه لتحقيق مستوى معيشي معقول-حد الفقر، ويصنف مَن دونه باعتباره فقيرًا، وتحديد هذا المستوى هو حكم تقديري للباحث أو صانع السياسة.
-المدرسة النسبية: وهي تتعامل مع الفقر النسبي-أي ارتباط خط الفقر بمعدل توزيع الدخل بين السكان-وعادة يتم ذلك بتعريف الأفراد الذين يشكلون أفقر 20-25% من سكان مجتمع ما باعتبارهم الفقراء، وبعض الدراسات في الدول النامية ترفع هذه النسبة حتى 50% من السكان.
وعلى صعيد آخر، فإنه رغم بقاء الدخل الفردي المؤشر الأكثر انتشارًا لقياس الفقر، فقد تزايدت أهمية مؤشرات الرفاهية الاجتماعية، مثل الصحة والتعليم، وقد تزايد هذا الاتجاه في دول العالم النامي منذ منتصف السبعينيات حيث لوحظ ارتفاع الدخل الفردي في بعض الدول، دون حدوث تقدم في بعض مجالات الرفاهية الاجتماعية مثل: التغذية والصحة، وهذا يعني بشكل عام إمكانية حدوث مفارقة بين حدوث زيادة في دخل الفرد وتحقيق إنجاز في مجالات الرفاهية الاجتماعية.. على سبيل المثال، لا يتفق معدل نمو الدخل الفردي المتزايد في باكستان مع مؤشرات الرفاهة الاجتماعية المتدنية بها، بينما يأتي النموذج السريلانكي في الاتجاه المضاد، حيث يتاح لمواطنيها رفاهة اجتماعية لا تتناسب مع معدلات الدخل الفردي المتواضعة بها. الفقر...واقع أم أسطورة: يحدد بعض الباحثين ثلاثة أبعاد لمفهوم الفقر:
-البعد الأول: هو الماديات فهي تلك الأشياء التي نعتبر نقصها فقرًا، وهذا النقص أو الحرمان أو الفقدان له طابعان إما وجودي غير مادي أو وجودي مادي.
تنتمي للفقر الوجودي غير المادي عناصر مثل: الإخفاق في العمل أو انعدام الثقة في النفس أو نقص الحب، بينما يشمل الفقر المادي: التفرقة، وعدم المساواة والتحيز والجهل وتعذر الحصول على الحد الأدنى من الضروريات المطلوبة للحياة-كما تحددها ثقافة المرء- والجوع وسوء التغذية والتشرد وضعف الصحة... إلخ.
-البعد الثاني: هو إدراك المرء لحالته، فالمرء يعد فقيرًا فقط عندما يحس بوجود النقص في إحدى تلك الماديات أو كلها، إن تلك الماديات لا تكتسب قيمها كبعد معرفي في المفهوم إلا مع إدراك الطابع النسبي والذاتي لمفهوم الفقر، عادة يدفع هذا البعد الذاتي الفقير إلى تخطي فقره، وتغيير موازين القوى التي أدت إليه، وقد ينزع إلى عقد روابط تبعية مع جماعات أو أفراد أو عقائد أقوى تعطيه إحساسًا زائفًا بالأمان، وأحيانًا يصل إلى وهم القوة.
-البعد الثالث: كيف يرى الآخرون الفقير، حيث قد يختلف إدراك الفقير لحاله مع رؤية الآخرين، ويترتب على هذا الإدراك رد فعل الآخر تجاه الفقير، وثمة نوعان من أنواع رد الفعل تجاه الفقير؛ التدخل المباشر أو غير المباشر من خلال الصدقة أو المساعدة أو التربية أو القهر، أو عدم التدخل-سواء كان عدم التدخل مبررًا لأن الفقراء يستحقون فقرهم أو لأن التدخل لن يفيد بل وربما أضر.
وتتأثر تلك الأبعاد الثلاثة بالمكان والزمان والبيئة الاجتماعية / الثقافية المتواجدة فيها. الفقر ووهم عالمية التنمية:
لأول مرة في التاريخ، صار الفقر ظاهرة مطلقة، حيث اعتبرت بلاد وأمم بأسرها فقيرة على أساس أن دخلها الإجمالي أقل بالمقارنة مع الدخل السائد في تلك الدول التي تسيطر على الاقتصاد العالمي، وهكذا أصبح الدخل القومي هو المعيار العالمي الجديد والرأسمالية الاقتصادية هي الحل المعلن للعلاج النهائي للفقر، وتوصلت جيوش من خبراء الفقر العالمي إلى العلاج بالتنمية من خلال زيادة الإنتاج والتطبيق المتزايد للعلم والمعرفة التقنية، فهي مفتاح الرخاء والسعادة. وهكذا أُعيد تفسير وتقييم البعد المادي للفقر، حيث أدى تحطيم المجتمعات التقليدية، في سبيل ما يدعى بالاقتصاد القومي ثم الاقتصاد العالمي، إلى فصل الاقتصاد عن جذوره الاجتماعية والحضارية، وبالتالي خضع المجتمع لآليات وقواعد الاقتصاد وليس العكس. وقد خلق الاقتصاد العالمي منظومة من المرجعيات الكونية جعلت الفرد يدرك أنه فقير وفي حاجة إلى المساعدة لأن متوسط دخله أقل من المستوى العالمي المعياري، ولأنه لا يعيش في رفاهية مثل بشر آخرين.
وأدى هذا التغيير في نظرة المرء لذاته إلى تغير في ردود الفعل تجاه الفقر، حيث أصبح البرنامج الجديد حلاً كونيًا أحادي الاتجاه يعتمد على الدخل ولا علاقة له إطلاقًا بالثقافة ولا بالشخص، ولم يعد الفرد يلجأ إلى جذوره الثقافية وعلاقته الأسرية القديمة التي كانت تقدم الحلول البديلة الكلية للفقر، وبدلاً من ذلك سعى الأفراد إلى تجميع أنفسهم في مؤسسات متماثلة مثل النقابات والروابط، مما أدى إلى تنميط الأفراد في المجتمع وإلغاء أي تفكير بديل يسعى إلى البحث عن طريق جديد للحياة والتنظيم الاجتماعي يعتمد على البساطة، أو أشكال تطوعية وأخلاقية من الفقر الذي لا يمكن أحيانًا تجاوزه لظروف هيكلية ودولية قبل أن تكون محلية.
وقد افترض الخبراء أن الفقراء غير قادرين على تحديد مصلحتهم، والتي يحددها لهم من يمتلكون المعرفة والسلطة-الحكومات والمؤسسات والخبراء-عاملين على الارتقاء بهم، ومشاركة الجماهير تنحصر في تأييد البرامج التي وضعها "الخبراء"، ويقدم الخبراء الحل البسيط للفقر: التنمية الاقتصادية ورفع مستوى الدخل، زاعمين إمكانية حل كل المشكلات الثقافية والاجتماعية المتعلقة بالفقر من خلال الاقتصاد وحده.
وقد عملت هذه الافتراضات والتوصيات على تقوية التدخل السلطوي حيث صار الفقر العالمي معضلة أكبر من أن تترك لتحل حلاً محليًا، وبذا سمحت بتدخل القوى الدولية-الحكومية و الأهلية-باسم نشر السعادة والقضاء على الفقر.
وما حدث بصورة عالمية مجردة هو أنه تمت رؤية الحاجات المطلوبة والإصلاحات الضرورية والمؤسسات المقترحة بشكل نمطي ثابت، بغض النظر عن الاختلافات الاجتماعية والثقافية، وتم فرض تلك الرؤية عن طريق شروط برامج المساعدات الأجنبية. وقد اختلفت النتائج الفعلية لهذه السياسات والبرامج وآثارها على حياة الفقراء اختلافًا بينًا عما توقعه الخبراء والمتخصصون، حيث إن الحاجات التي تبغيها برامج التنمية هي حاجات نمط معين من الحياة، يلعب فيه الاقتصاد دورًا مركزيًا، حيث ثمة مفهوم خاص للفقر، وثمة فئة معينة من المستهلكين ودافعي الضرائب يجب حماية حقوقهم وامتيازاتهم، فشلت تلك السياسات على كل المستويات، ومن الواضح أن كل أنساق المساعدة ستخلق في النهاية مزيدًا من الفقر.
ويحذر بعض الباحثين من المفاهيم التي تبدو إيجابية من الخارج مثل: الاقتصاد العالمي أو العالم الواحد بينما هي تدعو في الواقع إلى إلغاء التعددية، وقبول أن الحل الوحيد الممكن هو اتخاذ الطريق الذي سار فيه الشمال الغني القوي السعيد.
إن النظرة الاقتصادية للحياة قد تؤدي لفترة معينة إلى زيادة ضخمة في إنتاج الأغراض والبضائع أي تنمية الأشياء، لكنه واقعيًا -بسبب الندرة الدائمة- يعاني الغني والفقير-على حد سواء-من عدم إمكانية الحصول على كل ما يريد؛ فقد اتضح لكثير من البشر أن الحاجات ليست مجرد وهم فقط بل مصطلح يخلق الشره والجشع، ومن المستحيل أن يفي الاقتصاد بكل الحاجات يومًا ما.
قد ينتج الاقتصاد الكثير من البضائع والخدمات للوفاء بمنظومة معينة من الحاجات، بيد أنه على نطاق آخر يدمر مجالات بأكملها من مجالات النشاط الإنساني، والحرف التقليدية، والقطاعات الأهلية، ويحطم منظومة قيمية كاملة من الجماعية والتراحم، من ثم فإن تأثيره الإجمالي سلبي، بل ومدمر أحيانًا خاصة عندما لا يفي بوعوده، وفي الوقت ذاته يهدم أبنية التراحم والتكافل، فلا يجدها الفرد إذا أراد التراجع والعودة له، وربما يكون النموذج البارز لذلك هو ما حدث مع مؤسسات الوقف الإسلامية في العالم الإسلامي من مصادرة وتأميم.
ولا شك أن الرؤية الإسلامية التي تحترم الحاجات الأساسية المادية للإنسان وتفرض عليه السعي للرزق وعمارة الأرض، لكنها في الوقت ذاته تربطه برؤية غيبية للرزق والقدر، لديها الكثير في هذا الباب لتقدمه خاصة مع تطوير وتفعيل فريضة الزكاة كأداة تنموية تتجاوز جمع وتوزيع الصدقات، وهذا مجال يحتاج تناولاً مستقلاً
السيادة.. جدلية الدولة والعولمة
08/05/2005
ليلى حـلاوة[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
على الرغم من تعدد التعريفات التي يوردها الباحثون لمفهوم السيادة الوطنية، فإن بينها جميعا قاسما مشتركا يتمثل في النظر إلى السيادة باعتبارها السلطة العليا للدولة في إدارة شئونها، سواء كان ذلك داخل إقليمها أو في إطار علاقاتها الدولية، وبالتالي فإن السيادة تشير إلى معنيين أحدهما إيجابي ويشير إلى قدرة الدولة -كوحدة سياسية مستقلة- على التصرف بحرية كاملة ودون أي قيود تفرض عليها، فضلا عن تلك القيود التي ترتضيها هذه الدولة بالتقدير المنفرد أو بالاتفاق الدولي، والآخر سلبي يقوم على عدم إمكانية خضوع الدولة لأي سلطة غير سلطتها. وبذلك يكون لمبدأ السيادة وجه داخلي ينصرف إلى علاقة الدولة بمواطنيها داخل إقليمها بحدوده السياسية المعلومة، ووجه خارجي ينصرف نطاق تطبيقه على علاقة الدولة بغيرها من الدول والتي تقوم على وجوب احترام الاستقلال الوطني والسلامة الإقليمية لكل دولة وعدم جواز التدخل في شئونها الداخلية. § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] § [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ] وقد اكتسبت فكرة السيادة منذ نموها ثم صعودها في ظل نموذج الدولة القومية مكانة مركزية في السياسة الحديثة -فكرا وممارسة- بما جعلها تصبح شعارا للكرامة الوطنية باعتبارها أفضل تجسيد لمعاني الحرية والاستقلال والسلطة العليا على الإقليم وسكانه.. فبينما كان الملوك في أوربا يرددون "الدولة هي أنا"، ويرون أن حق إصدار القوانين التي يخضع لها رعاياهم هو حق منفرد بدون قيد أو شريك، كانت موجة من الأفكار الثورية تغزو أوربا وتحاول أن تقتلع هذا المفهوم من أساسه. وفي عام 1690 نشر "جون لوك " في إنجلترا كتابه "رسالتان في الحكم" ليؤكد فيه أن حرية الإنسان الطبيعية هي ألا يكون خاضعا لأي قوة عليا على الأرض، وألا يقع تحت إرادته أي إنسان أو سلطة تشريعية، وألا يكون لديه سوى قانون الطبيعة قاعدة يعمل بها، وأن المجتمع السياسي لا يمكن أن يقوم ويستمر إلا إذا كان لديه في ذاته سلطة المحافظة على الملكية، ولهذا الغرض تكون لديه سلطة عقاب على الجرائم التي يرتكبها أي فرد في المجتمع، فهنا وهنا فقط يوجد المجتمع السياسي حيث تنازل كل فرد فيه عن سلطته الطبيعية وسلمها للمجتمع (وليس لنظام الحكم كما ذهب هوبز).
دور الثورة الفرنسية
وفي فرنسا انطلقت أفكار "جان جاك روسو" في كتابه الأكثر شهرة "العقد الاجتماعي" (نشر عام 1762م) ثم جاءت الثورة الفرنسية فسعت لإنشاء تلك الدولة التي كانت تحلم بها أوربا. ونعرف من التاريخ أن مبادئ الثورة الفرنسية قد حكمت حياة أوربا والغرب وشعوبا كثيرة في العالم رغم أزمات تلك الثورة وتعثرها، ورغم تغير الدساتير ونظم الحكم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا فإن مفهوم الدولة في العالم توحد على ضرورة أن تتوافر لها وفيها العناصر الأساسية التي أكدتها تلك الثورة وكرست بها بزوغ الدولة القومية مع صلح "وستفاليا". وتشمل هذه العناصر التي اتفق عليها فقهاء القانون وعلماء النظم السياسية "الشعب" و"الأرض" و"سلطة شاملة للشعب والأرض" أي الكيان المعنوي للدولة، ثم يضاف لذلك فكرة نظام الدولة أو العقد الاجتماعي الذي يقوم على الحرية والإخاء والمساواة والحكم الديمقراطي. ولم يعد هذا المفهوم للسيادة الذي حققته الثورة الفرنسية والذي ركز على أن تكون السيادة فيها للشعب في مجموعه وأن تتولى الممارسة الفعلية لتلك السيادة حكومة ملتزمة بحدود ترسمها قواعد عامة ومجردة، هو المتاح الآن بعد أن تم تدويل السيادة أي بعد أن تم توسيع أبعادها الخارجية وأصبح للعلاقات الدولية ظل واضح على مفهوم السيادة مع نمو عدد الفاعلين الدوليين وتكريس فكرة التنظيم والقانون الدولي.. فالقاعدة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الدولي وهي الاعتراف المتبادل بين دول لها سيادة اتسعت بصورة أدت إلى وضع شروط لممارسة الدولة حقوق السيادة، أهمها ألا تؤدي ممارسة تلك الحقوق إلى إحداث اضطراب في النظام العالمي. ومع تنامي التفاعلات على المستوى العالمي صار للبعد الخارجي للسيادة دورا مهما تفاعل مع البعد الداخلي بقوة وبشكل مركب، بل ومعقد جدا. وما زال مفهوم السيادة في الداخل والخارج يتعرض للتغيير والتطوير، ولم تتوقف نظريات العلاقات الدولية والقانون الدولي عن الاجتهاد في معنى ودلالات هذا المفهوم. ولعل ذلك يرجع إلى أن موضوع السيادة داخل الدولة في ظل المد الديمقراطي يثير عدة اعتبارات أيديولوجية ودستورية من شأنها أن تمس سلطات الدولة المطلقة على مواطنيها. كما أن تطور المجتمعات البشرية وازدياد علاقات الدول وما يترتب على ذلك من التزامات قانونية قد ساهم بدوره في تغيير وتطوير هذا المفهوم وتقييد خيارات الدولة في سياساتها العامة واليومية؛ لذا كان من الأهمية بمكان أن نبحث في نشأة مبدأ السيادة ونتتبع تطور مضمونه التاريخي السياسي حتى يومنا هذا، ثم نستشرف مستقبل المفهوم.
مبدأ السيادة.. وتطور الدولة
يشيع في أمهات كتب علم السياسة الحديث وكتب القانون الدستوري أن فكرة السيادة ظهرت منذ بروز الدولة الحديثة وذلك في التاريخ الحديث. وإذا كان البعض يرجع الفضل للعلامة جان بودان في تفصيل وتحديد مدلول استعمال هذا المفهوم وإعطائه هذه الشهرة، إلا أن فكرة السيادة بمستوياتها المتعددة ظهرت منذ ظهور المجتمعات البشرية وكياناتها السياسية الأولى. ويدلنا البحث في التطور التاريخي لمبدأ السيادة أنه وثيق الصلة بنشأة وتطور شكل ونظام الدولة؛ لذا فلا عجب أن يجد هذا الموضوع التفاتا من رجال الفقه الدستوري والدولي لارتباطه بدراسة النظم الاجتماعية والسياسية وعلم التاريخ السياسي والاجتماعي. ويمكن بسرعة استعراض السيادة في مراحل تاريخية مختلفة؛ فالإغريق كانوا سباقين إلى إقامة مجتمع سياسي ضمن إطار تنظيمي ثابت، ولقد مهدت الفلسفة اليونانية إلى إقامة نوع من الديمقراطية التي تعد رائدة في التاريخ القديم. وشهدت مدن أثينا وإسبرطة وغيرهما من المدن اليونانية القديمة مظاهر لهذه الديمقراطية. كما قامت اليونان بتنظيم علاقاتها مع الدول المجاورة على أساس من الالتزام، وأنشأت قانونا لحسم الخلافات عن طريق التحكيم، ولهذه الأفكار -رغم ما عليها من مآخذ وما كان لها من حدود وسقف- يدين الفكر المعاصر، حيث أضحت الديمقراطية وتحديد صلاحيات الحاكم شعاراً ومنهاجاً حتى يومنا هذا. وعلى الرغم من ريادة اليونان في هذا المضمار فإنه يلاحظ أن القانون كان وقفا على قادة من زعماء الكهنة أو الأشراف، وأدى ذلك إلى انفراد هذه القلة بالعلم بالقانون وتفسيره دائما لمصلحة طبقتهم؛ وهو ما دفع عامة الشعب إلى المطالبة بتدوين العرف حتى يقفوا على حقوقهم والتزاماتهم. ويرى هذا الجانب من الفقه أنه في ظل هذا التدوين لم يترتب على ذلك خضوع الحاكم للقانون بل ظلت سلطاته مطلقة. وقد أدرك فلاسفة اليونان السيادة بمفاهيم مختلفة، حيث ذكرها أرسطو في كتابه "السياسة" على أنها سلطة عليا في داخل الدولة رابطا إياها بالجماعة، أما أفلاطون فاعتبر السلطة لصيقة بشخص الحاكم، ورأى البعض الآخر أن السيادة للقانون وليست للحاكم. ونظرا لأن اليونان قد تكونت من عدد من الدول المستقلة، فإن مفهوم السيادة –آنذاك- كان يعني حق تقرير المصير بالمفهوم الحالي. وعرَّف الرومان السيادة تحت مفهوم الحرية والاستقلال والسلطة، وعنوا بتحديد مركز إمبراطوريتهم والتزاماتهم، إلا أن سلطة الدولة ظلت مطلقة بحكم الظروف الحياتية للعلاقات التي أنشأتها، فالدولة كانت مالكة لجميع الأراضي بينما لم يكن للأفراد إلا امتيازات مؤقتة على تلك الأراضي وهي امتيازات كانت قابلة للإلغاء في كل وقت، وللإمبراطور حرية مطلقة في التصرف فيها. وبالتالي لا يختلف الرومان عن اليونان في نظرتهم إلى الدولة باعتبارها كيانا مقدسا لا يجوز محاسبتها ومن ثم كانت السلطات لا حدود لها. ولا يمكن القول بأن اليونانيين والرومانيين عرفوا الدولة القانونية بمفهومها الحديث على الرغم من وجود كثير من مظاهر هذه الدولة، فقد اقتصرت الديمقراطية في بلاد الإغريق على المواطنين الأحرار، وحقهم في ممارسة الحكم دون أن تعترف بحقوق أو حريات فردية في مواجهة الجماعة. وقد كان بإمكان الحكام أن يسلبوا الأفراد أموالهم أو حرياتهم، دون أن يكون بإمكان هؤلاء الأفراد أن يحتجوا بحقوق مكتسبة، أو حريات مقدسة، حيث لم يكن للأفراد حرية شخصية أو حرية تملك، أو حرية العقيدة أو حرية المسكن، ولم يكن للعبيد والنساء أي حقوق، إلا أنه يرجع لليونانيين الفضل في نشأة بعض الأفكار والمبادئ القانونية الراسخة في عالم اليوم مثل الديمقراطية والحرية والمساواة وغير ذلك وإن لم تصل إلى المفهوم العصري لها ومدلوله الشامل.
العصور الوسطى
أما السيادة في فترة العصور الوسطى فإن أهم ما تتصف به هو سيطرة المفاهيم المسيحية باعتبارها نظاما مميزا عن الدولة والصراع القائم بين السلطة الدينية والزمنية وتفشي نظام الإقطاع. وقد ولدت فكرة السيادة الحديثة من رحم هذه الظروف وشهدت تحولا في مفهومها، فقد كان تقديس الحكام معروفا في العصور القديمة وامتد إلى بداية العصور الوسطى، حيث استمد الحكام مكانتهم من ترويجهم لفكرة أنهم ظل الله على الأرض وأنهم يستمدون سلطتهم من الله مباشرة وليس من الشعب، وكان لذلك أثر مباشر في جعل سلطان الحاكم مطلقا وبلا حدود أو ضوابط. وبدأ تغير مفهوم السلطة بعد أن شهد هذا العصر مواجهة كبيرة بين السلطة الزمنية ممثلة في الإمبراطورية وسلطة الكنيسة ممثلة في البابا، وعلى الرغم من ظهور القاعدة الكنسية الشهيرة (ما لقيصر لقيصر وما لله لله)، إلا أن هذا المفهوم لم يمنع التصادم بين هاتين القوتين المتصارعتين نظرا لعدم وضوح الاختصاصات والحدود بينهما في ذلك الوقت، وهكذا فإن هذا العصر شهد بذور فكرة فصل السلطتين ثم لاحقا الفصل بين السلطات السيادية.. التنفيذية والتشريعية والقضائية. وشهدت فكرة السيادة تحولا على يد القديس (توما الأكويني) الذي قاد الحركة الفقهية المسيحية أثناء التحولات التاريخية لفكرة السيادة في العصور الوسطى، وكانت لأفكاره أثر بالغ في تطور مفهوم السيادة من الوجهتين القانونية والفلسفية، حيث اصطبغت السلطة بصبغة مسيحية وحررتها من رواسب فكر العصر القديم، وذلك بإهدار فكرة السلطان المطلق والتزام الحاكم بالقواعد العليا للقانون الإلهي، وهي وإن بدت الآن فكرة مطلقة وغير ديمقراطية فإنها في حينه كانت تحديا للسلطة المطلقة للملوك وكانت فكرة انتقالية نحو تأسيس السيادة على الإرادة الشعبية.
الدولة الإسلامية.. ومفهوم السيادة
وبالمقابل وفي الوقت الذي كانت فيه أوربا ترزح تحت ظلم العصور الوسطى المشبعة بالسلطان الكلي للدولة والسلطة المطلقة للحاكم دون حدود أو قيود، ولدت في الجزيرة العربية أول دولة متعددة الأديان والعرقيات والثقافات تكفل المواطنة المتساوية للنساء والعبيد والمسلمين من غير العرب والعرب من غير المسلمين بعدل وفق دستور المدينة، وذلك بعد هجرة الرسول الكريم –صلى الله عليه وسلم– من مكة إلى المدينة عام 622م. وظلت هذه الدولة قوية فتية في عهد الخلفاء الراشدين والتابعين من بعدهم، حيث اكتملت منها جميع عناصر "الدولة القانونية" بالمفهوم العصري والتي تعتمد على وجود دستور وتدرج في القواعد. وبدأت السيادة في ظل الدولة الإسلامية بصبغة دينية باسم الخلافة، ثم اتجهت اتجاها زمنيا في عهد بني أمية، وعادت لتصطبغ بصبغة الحق الإلهي في العهد العباسي ومفهوم السيادة في النظرية الإسلامية حيث قامت الدولة على أسس ثابتة في القرآن الكريم والسنة. وقد اعترفت دولة الإسلام مبكرا بوجود إرادة عامة غير إرادة الأفراد، لكن بعض حكام المسلمين خاصة في عهد بني أمية انحرفوا عن هذا المفهوم حيث تم تحويل الخلافة إلى ملك وراثي عضوض.
العصر الحديث.. مفهوم جديد
فإذا ما انتقلنا للسيادة في العصر الحديث أو ما يطلق عليه البعض عصر النهضة في القرن الخامس عشر نجد الدولة الحديثة قد قامت على أنقاض النظام الإقطاعي، حيث أدى ضعف السلطة البابوية إلى إبراز فكرة السيادة وإعطائها مفهوما جديدا. فمع بداية القرن السادس عشر وصلت فكرة الدولة كفكرة قانونية إلى مستوى مقبول من النضج بعد أن ساهمت في ذلك عوامل سياسية واجتماعية مختلفة واستطاعت أن تتحرر من رواسب العهد الإقطاعي وأصبحت السيادة ميزة أساسية للدولة وجزءا من شخصيتها. وأخذت فكرة السيادة المطلقة في الزوال لتحل محلها السيادة المقيدة التي استعرضها الفقيه "جان بودان" 1576م منذ أن كانت فكرة قليلة الشيوع والاستعمال إلى أن أخذت نصيبها من الشهرة والتقدير. وعلى الرغم مما أصاب هذه الفكرة من تطور على يد "بودان" فإنها لم تسلم من النقد، فقد دافع عن سيادة الدولة ومجد سلطانها حتى تسمو على الأفراد وتعلو على القانون، وبالتالي فلم يصل بالسيادة إلى الحد الديمقراطي المطلوب حيث استمرت مظهرا من مظاهر السلطة المطلقة. وبفضل "جروشيوس" الذي اعتبر بحق أبا القانون الدولي الغربي وصاحب مدرسة القانون الطبيعي، تطورت فكرة السيادة باتجاه مفهوم جديد يأخذ في اعتباره تطور المجتمع الدولي، حيث استطاع أن يخلص السيادة من التصاقها بالحاكم وأن يحررها من رواسب الإطلاقية وأخضعها لمبادئ جديدة هي مبادئ القانون الطبيعي إضافة إلى القانون الإلهي. وفي القرن الثامن عشر نادي المفكر "جان جاك روسو" في كتابه الشهير "العقد الاجتماعي" بالإرادة العامة للشعب، وبالتالي شهدت السيادة قيدا جديدا يجد أصالته في منبع جديد أشد التصاقا بالشخصية الإنسانية وبالحرية. وانتقلت السيادة من مصادرها الإلهية إلى مصادر اجتماعية أساسها الإرادة العامة للشعب والأمة، وهذه الإرادة هي التي تراقب الحاكم تمهيدا لإعلان مسئوليته في حالة خرقه للعقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكومين. مما سبق نستطيع أن نحدد مضمون السيادة آخذين في الاعتبار الظروف التاريخية التي نشأت فيها هذه الفكرة والغرض الذي نشأت لتحقيقه.
خريطة المفهوم
يعرف "جان بودان" السيادة في مؤلفه المعنون "ستة كتب عن الجمهورية" الذي نشره 1576م بأنها سلطة عليا على المواطنين والرعايا، وفي تحليله لهذه السلطة العليا يرى بودان أنها أولا: سلطة دائمة.. بمعنى أنها تدوم مدى الحياة وبذلك تتميز عن أي منحة للسلطة تكون مقصورة على فترة زمنية محدودة.. وتأسيسا على ذلك لا يمكن أن توصف السلطة المطلقة المؤقتة بالسيادة. ولهذا السبب يفرق بودان بين "السيد Souverain " والحاكم الذي تكون سلطته مؤقتة ولذلك فلا يمكن وصفه بأنه صاحب سيادة وإنما هو مجرد أمين عليها فقط. ثانيا: إن هذه السلطة لا يمكن تفويضها أو التصرف فيها، كما لا تخضع للتقادم. ثالثا: وهي سلطة مطلقة لا تخضع للقانون لأن صاحب هذه السلطة هو الذي يضع القانون ولا يمكن أن يقيد نفسه، كما لا يمكن أن يكون مسئولا مسئولية قانونية أمام أحد. والخاصية الأساسية لهذه السيادة أو السلطة المطلقة في نظر بودان تكمن في وضع القوانين "سلطة التشريع". وبذلك نجد أن بودان وضع ثلاثة حدود للسيادة، وهي: أولا القانون الطبيعي: فصاحب السيادة يتقيد بالقانون الطبيعي وبقواعده ويجب عليه أن يتقيد بالمعاهدات والاتفاقيات التي يعقدها، ولكن من الذي يلزم صاحب السيادة باحترام القانون الطبيعي. هنا نجد بودان في موقف محرج يجعل نظريته في موقف متناقض ومع ذلك لا يعترف بأي جهة تفرض احترام القانون الطبيعي علي صاحب السيادة، وإلا كانت هذه الجهة حسب النظرية صاحبة السيادة الحقيقية. ثانيا القوانين الدستورية الأساسية: ويخص بودان بالذكر قوانين وراثة العرش التي كان يرى أن الملك لا يستطيع أن يغيرها لأنه كان يؤمن بالدستور، وبأن التغيير في قوانين وراثة العرش يؤدي لإحداث القلاقل والاضطرابات؛ وهو ما يترتب عليه حدوث انقسامات في الدولة. ثالثا الملكية الخاصة: كان جان بودان يؤمن بأن الملكية الخاصة قاعدة أساسية من قواعد القانون الطبيعي ولكنه أفرد لها بحثا خاصا، وكان يقول بأن السيد (صاحب السيادة) لا يستطيع أن ينتزع الملكية الخاصة من أي فرد في الدولة كما اعتقد بوجود حدود تتعلق بسلطة فرض الضريبة. وبذلك يظهر التناقض في نظرية بودان بوضوح فهو في الوقت الذي يؤكد أن السلطة العليا لا حد لها في الدولة نراه يذكر أن هناك عدة عوامل محددة لها. هذه العوامل في الواقع تصيب النظرية بالصدع لأنها توجد بجانب السلطة العليا سلطات أعلى منها، كما أنه لا يستطيع أن يجد من يقوم بفرض وتنفيذ هذه الاستثناءات. ونجده لهذا السبب يضطر إلى الإيمان بحق الثورة في حالة التعدي علي أي من القيود الثلاثة التي حددها. وإذا كان بودان قد عالج السيادة من زاوية الشئون الداخلية وعلاقة الدولة بالمواطنين، فقد عالجها هوجو جروشيوس من زاوية الشئون الخارجية وعلاقة الدولة بغيرها من الدول. فسر جروشيوس السيادة بأنها السلطة السياسية العليا التي تتركز في الشخص الذي لا تتمكن أي إرادة إنسانية من نقض أعماله. وبالرغم من هذا التعريف فقد نقضه جروشيوس نفسه عندما أباح الحد من هذه السلطة وتقسيمها في بعض الدول الأوربية. ويرجع هذا التناقض إلى رغبته في إنهاء الحروب التي كان يشعلها الأمراء ضد بعضهم البعض، فقد حاول أن يحد من سلطات الهيئات التي لها حق إعلان الحرب وعارض مبدأ السيادة الشعبية؛ لأنه رأى أنها تتعارض مع المحافظة على الأمن والنظام، واعتبرها المسئولة عن الاضطرابات والخلافات التي سادت في العصر الذي عاش فيه. ومن ناحية أخرى رأى جروشيوس أن للشعب حق اختيار نوع الحكم الذي يعيش في ظله، ومتى تم هذا الاختيار فيجب على الشعب أن يخضع لهذا النظام ويطبع الأوامر التي تصدر عنه. وأنكر جروشيوس على الشعب حقه في معارضة ومقاومة حاكميه، وتتميز أفكار جروشيوس في الدفاع عن الملكية المطلقة والسيادة على أراضي الدولة والمساواة بين الدول. واتبع "هوبز" طريق "بودان" في إطلاقه للسلطة صاحبة السيادة، إلا أنه كان منطقيا أكثر فلم يأت بمضمون السيادة من الخارج وإنما حاول استخلاصه من هدف الدولة ذاته. فقد كانت حالة الفطرة في نظره تقوم على الفوضى وسيطرة الأقوياء، ولهذا السبب وبدافع خوف الإنسان من غيره، وبغريزة حب البقاء، اضطر الإنسان إلى الاتفاق مع غيره من أبناء جنسه على أن يعيشوا معا تحت إمرة واحد منهم وكان ضروريا أن يحتاج هؤلاء الأفراد أساسا آخر بالإضافة إلى العقد لكي يجعل اتفاقهم دائما مستمرا هذا الأساس هو سلطة مشتركة تلزمهم وتوجه أعمالهم للصالح المشترك بينهم، والوسيلة الوحيدة لإقامة هذه السلطة هي أن ينزل هؤلاء الأفراد إلى واحد منهم عن كل سلطاتهم وحقوقهم الطبيعية، فإذا ما تم ذلك فإن الشخص الذي اتحد فيه المجموع يكون صاحب السيادة ويكون بقية الأفراد رعايا له. وما دام الأفراد قد نزلوا عن كل حقوقهم دون أن يلزموا الحاكم بشيء فإن سلطانه عليهم يكون مطلقا لا حدود له، ومهما أتى من تصرفات أو أفعال فلن يحق للأفراد أن يثوروا عليه أو أن يخالفوا أمره، وإلا عُدوا خارجين عن العقد ناكثين للعهد. ويهاجم "هوبز" الرأي القائل بأن الأفراد لم ينزلوا بالعقد الذي أقاموا به السلطة إلا عن جزء من حقوقهم واحتفظوا لأنفسهم بالجزء الباقي فالتنازل الجزئي في رأيه غير ممكن وإلا أبقينا على الحياة البدائية التي تسودها الفوضى والحروب بين الأفراد. ونتيجة لذلك فإن السلطة عند "هوبز" تكون دائما مطلقة ويذهب "هوبز" في فكرة السلطان المطلق إلى حد القول بأن الدولة مالكة لجميع الأموال بحجة أن الأفراد قد نزلوا للحاكم الذي اختاروه عن جميع حقوقهم، وبالتالي لا تكون لهم على الأموال حقوق وإنما مجرد امتيازات يقررها الحاكم ويسحبها كما يشاء. وأخيرا فإن "هوبز" يرى أن الحاكم غير مقيد بأي قانون لأنه هو الذي يضعه ويعد له ويلغيه حسب هواه، وهو الذي يحدد معنى العدالة. وهكذا يبدو رأي كل من "بودان" و"هوبز" واضحا، فما دام الشعب قد تخلى كلية عن سلطته لكي ينقلها إلى الملك فإن هذا الملك لم يعد جزءا ضمن الشعب وإنما انفصل عنه وأصبح مستقلا عنه بل وساميا عليه وأصبح هو صاحب السيادة الذي يحكم من فوق المجتمع السياسي كله، فعندما يقول بودان "إن الأمير صاحب السيادة هو صورة الله في الأرض" فإن هذا التعبير يجب أن يفهم بكل ما يعنيه، فهو يعني أن صاحب السيادة يسود الشعب كما يسود الله الكون. لكن مضمون السيادة تغير مع كتابات "جان جاك روسو" الذي يقول: إن العقد الاجتماعي يعطي المجتمع السياسي سلطة مطلقة على كل أعضائه، وهذه السلطة المطلقة التي تتولاها إرادة عامة تحمل اسم السيادة "والسيادة التي ليست سوى ممارسة الإرادة العامة لا يمكن أبدا التصرف فيها، وصاحب السيادة الذي هو كائن جماعي لا يمكن لأحد أن يمثله أو ينوب عنه سوى نفسه"، ويضيف روسو إلى ذلك أن "السلطة العليا لا يمكن تقييدها؛ ذلك أن تقييد السلطة العليا معناه تحطيمها"، وأن "السلطة صاحبة السيادة ليست في حاجة إلى ضمانات بالنسبة لرعاياها". ويفسر "روسو" فكرة العقد الاجتماعي بقوله: إن الالتزام الاجتماعي والخضوع للسلطة لا يمكن أن يكون أساسها القوة، ذلك أن تأسيس السلطة على القوة وحدها يعني إنكار فكرة الحق كلية وينتهي "روسو" إلى أن كل جماعة سياسية لا يمكن تصور وجودها إلا باتفاق الأفراد فيما بينهم على الحياة في جماعة، وهذا الاتفاق أو العقد الاجتماعي لن يكون سليما ومشروعا في نظر روسو إلا إذا صدر من إجماع الإرادات الحرة. فالسيادة إذن ليست شيئا آخر سوى الإرادة العامة للمجتمع الذي أنشأه العقد الاجتماعي، والقانون هو التعبير عن هذه الإرادة العامة ليست هي الإرادة الإجماعية لكل المواطنين ولكنها إرادة الأغلبية، وهذا الخضوع لرأي الأغلبية هو أيضا أحد الشروط الضرورية للعقد الاجتماعي؛ لأن اشتراط الإجماع لكي يصبح القانون ملزما للجميع سوف يكون معناه الحكم على المجتمع بالعجز. ومن المعروف أن روسو كان يؤمن بالديمقراطية المباشرة لذلك السبب، أي لكي يمارس الشعب سيادته بشكل مباشر.
مفاهيم مشابهة
اختلط مفهوم السيادة بغيره من المفاهيم المشابهة مثل الحرية والاستقلال وحق تقرير المصير، ويرجع هذا الخلط إلى أن السيادة تحتوي على هذه المفاهيم، ولكن كلا منها لا يعبر عن السيادة بل يعد مظهرا من مظاهرها، وفي كثير من كتب القانون تتداول كلمتا السيادة والسلطة كما لو كانتا ذواتي مدلول واحد غير أنه من المهم أن نفرق بين السيادة والسلطة. يعتبر مفهوم السيادة أشمل من السلطة؛ فالسلطة" هي ممارسة السيادة (يطلق البعض على السيادة صفة السلطة العليا) أو أن حق السيادة هو مصدر حق السلطة، وكلمة "سيادة" اصطلاح قانوني يترجم كلمة فرنسية مشتقة من أصل لاتيني تعبر عن صفة لمن له السلطة لا يستمدها من غير ذاته ولا يشاركه فيها غيره، ولم تدخل هذه الكلمة لغة القانون إلا في القرن السادس عشر. أما السلطة فهي "القدرة على فرض إرادة أخرى"، وتمثل الدولة السلطة القهرية التي تعلو على سلطة أي جماعة أخرى في المجتمع، والفرض يتم بإحدى وسيلتين، فهو إما أن يتم بوسائل القهر والعسف، وإما أن يتم بوسائل الإقناع الحر وضرب المثل وتقديم النموذج، وتزداد قوة السلطة دائما ويزداد استقرارها كلما زاد قبولها اختياريا عن طواعية. وقد تعددت أنواع السلطات فهناك السلطة التشريعية والسلطة الشخصية والسلطة التفويضية والسلطة السياسية والسلطة العامة والسلطة التنفيذية، ولا تزال السلطة السياسية هي أهم أنواع السلطة الحديثة. وهناك أمران آخران يجب التفرقة بينهما وهما من يملك السلطة العامة ومن يباشرها. وفي ظل نظام الحق الإلهي كان الملك هو الذي يملك السلطة وهو الذي يباشرها في نفس الوقت، بينما في ظل نظام سيادة الأمة الذي يملك السلطة العامة أي السيادة هي الأمة، ولكنها لا تستطيع بصفة عامة أن تباشرها بنفسها، ولذلك وجدت هيئات أخرى في ظل النظام النيابي تقوم نيابة عنها بمباشرتها وهذه الهيئات هي البرلمان لوضع القواعد العامة والسلطة التنفيذية لإدارة شئون البلاد والمحاكم للفصل في المنازعات، ولكن هذه الهيئات لا تعتبر في ظل نظام سيادة الأمة مالكة للسلطات التي تباشرها، كما الحال بالنسبة للملك وهو يباشر السلطة في ظل الحق الإلهي، وإنما هذه الهيئات تباشر هذه السلطات أي نتائج فكرة السيادة العامة المملوكة للأمة، في حدود ما نصت عليه الدساتير والقوانين. ولذلك فإن خضوع هذه الهيئات في مباشرتها للسلطة والاختصاصات الممنوحة لها للرقابة القضائية أمر لا يتنافى مع فكرة السيادة العامة بل يستلزمه مبدأ سيادة الأمة ما دامت هذه الهيئات التي تباشر السلطة نيابة عنها، فضلا عن التأكد من أنها لم تخرج عما منحه إياها صاحب السيادة من اختصاصات بالنص الصريح، ولكن هذه الحقيقة قد غابت عن البعض فظن أن هذه الهيئات تعتبر صاحبة سيادة بل وصفوها بأنها سيد Souverain ولذلك رأوا عدم خضوع أعمالها للرقابة القضائية بحجة السيادة العامة. وقد ميز جانب من الفقه بين ممارسة السيادة وتملكها قانونا، واعتبر أن السيادة الفعلية لمن يمارسها حتى ولو لم يملكها كما هو الحال في وضع المحتل، أما السيادة القانونية فستظل لصاحب الإقليم، وقد حاول الفقه الدولي ورواد المفكرين وضع مواصفات لبيان ماهية السيادة نتيجة لهذا الخلط.
السيادة وفلسفة الدولة
فكرة السيادة ليست خالية تماما من أوجه الغموض والاضطراب، ويرجع هذا الغموض والاضطراب في الأغلب والأعم إلى عدم التفرقة بين السيادة والدولة ذاتها، الغموض الواقع بين ما هو قائم فعلا وبين ما يريد الناس أن يتحقق للدولة وبها. فهناك مثلا مدرسة ألمانية متطرفة في نظرتها إلى السيادة وضرورة أن توجد في صورتها الكاملة المثالية، وتهدف هذه المدرسة إلى تبرير السلطة المطلقة للدولة، كما كانت سياسة بروسيا التقليدية. ويعتبر هيجل الفيلسوف الألماني الكبير من رواد هذه المدرسة، وقد استمرت أصداء هذه المدرسة فيما بعد ووجدت لها أنصارا أقوياء في عهد النازية والفاشية. وهناك صعوبات واضطراب في التفرقة بين النظرية القانونية في السيادة والتطبيق والواقع السياسي. فالنظرية القانونية للسيادة تضع السلطة القانونية النهائية في يد شخص محدد أو مجموعة من الأشخاص. وفي هذه الحالة فإن سلطة من يملك السيادة لا يعلي عليها وهو يمتلك السلطة والقوة لفرض الطاعة لإرادته ورغبته. ولكن المشكلة هنا هي أين يمكن أن توجد هذه السلطة النهائية؟. وبالطبع فإنه لا توجد إجابة واحدة كافية للرد على هذا التساؤل؛ فهي تختلف في الواقع من بلد لآخر، بل إنها لا تظل ثابتة في البلد الواحد. كما أنه يجب التفرقة بين السلطة الحقيقية ومصدر هذه السلطة؛ فهناك فرق واضح بين القول بأن الشعب هو مصدر كل السلطات، والقول بأن الشعب يحكم نفسه بنفسه فعلا. ومما لا شك فيه أن هناك علاقة وثيقة بين السيادة السياسية والسيادة القانونية، وإلى جانب السيادة القانونية والسيادة السياسية فقد توجد بعض التغيرات والمفاهيم الأخرى للسيادة مثل السيادة الشعبية Sovereigatypopular والسيادة القانونية de jure والسيادة الواقعيةde facto. وقد ظهرت فكرة ومبدأ السيادة الشعبية في القرن السادس عشر والسابع عشر بصفة خاصة، كتعبير عن استياء الشعب ورفضه للسلطات المطلقة والظالمة للملوك واعتمادهم على نظرية الحقوق ويعطي مبدأ السيادة الشعبية، للشعب السيادة النهائية ويعتبر روسو رائد الداعين لها وقد أصبحت فيما بعد شعارا للثورة الفرنسية. أما تعبير السيادة القانونية de jure فهي في أساسها تنبني علي القانون وهي ترتبط بحق الحكم والاستحواذ على الطاعة في المجتمع، ويستحوذ الشخص (أو مجموعة الأشخاص) الذين يمارسون السلطة من الناحية الفعلية ولو مؤقتا، على طاعة جزء كبير من الشعب يكون هو صاحب السيادة الفعلية de facto والذي قد لا يكون هو نفسه صاحب السيادة القانونية de jure، وقد يعتمد صاحب السيادة الفعلية على السلطة والسلطان المادي أو المعنوي في فرض نفوذه وحكمه.
خصائص السيادة
الاتجاه العام لكثير من الكتاب هو أن السيادة لها خمس خصائص هي أنها: 1- مطلقة: بمعنى أنه ليس هناك سلطة أو هيئة أعلى منها في الدولة فهي بذلك أعلى صفات الدولة ويكون للدولة بذلك السلطة على جميع المواطنين، ومع ذلك فإنه مما لا شك فيه توجد عوامل تؤثر على ممارسة السيادة يمكن اعتبارها، حدودا قانونية، فحتى الحاكم المطلق لا بد أن يتأثر بالظروف التي تحيط به سواء كانت هذه الظروف اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية كما يتأثر أيضا بطبيعته الإنسانية، كما يجب أن يراعى تقبل المواطنين للقوانين وإمكان إطاعتهم لها. 2- شاملة: أي أنها تطبق على جميع المواطنين في الدولة ومن يقيم في إقليمها باستثناء ما يرد في الاتفاقيات والمعاهدات الدولية مثل الدبلوماسيين وموظفي المنظمات الدولية ودور السفارات. وفي نفس الوقت فإنه ليس هناك من ينافسها في الداخل في ممارسة السيادة وفرض الطاعة على المواطنين. 3- لا يمكن التنازل عنها: بمعنى أن الدولة لا تستطيع أن تتنازل عنها وإلا فقدت ذاتها، يقول روسو: "لما لم تكن السيادة سوى ممارسة الإرادة العامة فإنها مما لا يمكن التنازل عنه، إن صاحب السيادة الذي ليس سوى كائن جماعي لا يمكن أن يمثله غيره؛ فالسلطة مما يمكن نقله ولكن الإرادة لا يمكن نقلها والواقع أنه إذا لم يكن من المتعذرات أن تلتقي إرادة خاصة في نقطة مع الإرادة العامة فإنه من المستحيل على الأقل أن يكون هذه الالتقاء ثابتا ومستمرا" الفصل الأول – الكتاب الثاني). 4- دائمة: بمعنى أنها تدوم بدوام قيام الدولة والعكس صحيح، والتغير في الحكومة لا يعني فقدان أو زوال السيادة؛ فالحكومات تتغير ولكن الدولة تبقى وكذلك السيادة. 5- لا تتجزأ: بمعنى أنه لا يوجد في الدولة الواحدة سوى سيادة واحدة لا يمكن تجزئتها. ويقول "روسو" إن السيادة لا تتجزأ؛ لأن الإرادة إما أن تكون عامة وإما ألا تكون كذلك، فهي إما إرادة الشعب في مجموعه وإما إرادة جزء منه فقط، وفي الحالة الأولى تكون الإرادة العامة المعلنة عملا من أعمال السيادة ولها أن تسن القوانين، وفي الحالة الثانية ليست سوى إرادة خاصة أو عمل من أعمال الإدارة ولا تكون إلا مرسوما على أكثر تقدير".
مصدر السيادة ومنطلقها
ولكي نكمل تصور مفهوم السيادة بشكلها التقليدي يجب أن نتحدث عن الأساس الذي قامت عليه السيادة؛ فالسيادة إرادة لها خاصية خاصة بها وهي أنها إرادة عليا مستقلة ولا يمكن تقييدها، إلا أنها إرادة إنسانية، فكيف يمكن تفسير أن هذه الإرادة الإنسانية تسمو على سائر الإرادات الإنسانية الأخرى، وهذا السؤال أجابت عليه النظريات المختلفة، وهي: 1- النظريات الثيوقراطية: هي النظريات التي ترجع مصدر السيادة إلى الله، في القرن الخامس أبدعت الكنيسة تبريرا لحقها في السيطرة النظرية المعروفة باسم "نظرية الحق الإلهي" (ومذهب آباء الكنيسة) مؤادها أن الحكم لله وحده لله وأنه يختار لأدائه في الأرض من يشاء فيصبح حاكما بأمر الله. في المقابل أبدع أنصار الملوك في مواجهة الكنيسة نظرية أخرى في السيادة هي نظرية "العناية الإلهية" والتي تذهب إلى أن إرادة الله توجه شئون الناس وعقولهم وإرادتهم على وجه مباشر إلى أن تصبح السلطة في يد واحد منهم، فهو لا يكسبها بجهد ولا يستحقها لأمر خاص به ولا يتلقاها من أحد من الناس، ولا من الله أيضا، ولكن عناية الله هي التي وضعته في موضعه. وهما نظريتان لم تكونا مقصورتين على تبرير الاستبداد بالسلطة في أوربا وحدهما، ولا هما مقصورتان على تبريره في القرون الأوربية الوسطى فقط، وإنما انتحل الخليفة المنصور العباسي (714هـ- 775) "مذهب آباء الكنيسة" حينما خطب في مكة المكرمة فقال: "أيها الناس أنا سلطان الله في أرضه" وانتحلها أباطرة الصين قديما، فكان الإمبراطور هو ابن السماء. كما انتحل معاوية بن أبي سفيان الأموي (602-680) نظرية العناية الإلهية لتبرير استبداده بالسلطة دون الخليفة المنتخب، حيث قال: "لو لم يرني ربي أهلا لهذا الأمر (الولاية) ما تركني وإياه. ولو كره الله ما نحن عليه لغيره". وفي العصر الحديث استخدم غليوم الثاني إمبراطور ألمانيا "نظرية الحق الإلهي" حينما قال في عام 1910م إن الله هو الذي ولاه الملك، وفي عام 1926م حين قال إن تولية الملك حق إلهي، وسار هتلر ديكتاتور ألمانيا على النهج نفسه قبيل أن يبدأ الحرب الأوربية الثانية حين وجه الشكر إلى العناية الإلهية التي اختارته زعيما لألمانيا (28 إبريل 1939م)، وكذلك ديكتاتور أسبانيا فرانكو، حين أمر في عام 1947 بصك عملة تحمل عبارة "فرانكو القائد بعناية الله". وهناك اليوم من ينتحل سلطة الرب تحت عنوان معسكر الخير ومعسكر الشر والحرب الصليبية الجديدة. وفي مواجهة هاتين النظريتين استمدت الثورة الفرنسية نظرية حركة التنوير في السيادة فأسندتها إلى الشعب، وصاغتها في المادة من دستور 1791 "السيادة واحدة، غير قابلة للتجزئة أو الانتقال أو الاكتساب بالتقادم وهي تخص الأمة وليس لأي جزء من الشعب أو أي فرد أن يدعي ممارستها". 2- النظــريات الديمقراطـية: تقوم على أساس أن السيادة مصدرها الشعب وأهم النظريات الديمقراطية هي نظرية العقد الاجتماعي التي تقول بوجود حياة فطرية تسبق قيام الجماعة وأن الانتقال من حياة الفطرة إلى حياة الجماعة قد تم بناء على عقد اجتماعي بين الأفراد بقصد إقامة السلطة الجماعة. 3- النظرية الإسلامية: وهي التي تجمع بين المصدر الشرعي للحق السيادي من ناحية، أي ضرورة وجود السلطة وانتظام الناس في نسق يقوم على الاختيار والبيعة وتحكيم دستور وقانون مصدرهما الكلي مبادئ الشريعة الإسلامية من ناحية، والرقابة الشعبية الصارمة وحق الناس في خلع الحاكم وتولية غيره إذا ثبت خروجه عن الشرعية.. فالنظام الإسلامي كما أسماه أبو الأعلى المودودي نظام "ثيو- ديمقراطي"، وهو ما فصل فيه بامتياز الفقيه الدستوري المعاصر البارز عبد الحميد متولي، وكتب فيه العلامة عبد الرزاق السنهوري، وأيضا فصله الأستاذ توفيق الشاوي في كتابه فقه الشورى والاستشارة، فمن أراد التفصيل فليرجع لهؤلاء.
انقلاب في عصر العولمة والتدخل
من خلال ما سبق نستنتج أنه خلال أكثر من ثلاثة قرون تطور النظام الدولي من أجل هدف محدد هو ضمان سيادة الدولة، والذي قام على أساس أن تكتسب الدولة أهليتها من خلال السيادة بجانبيها الداخلي والخارجي. وجاءت أحداث التسعينيات لتغير النظام الدولي، بعد اتساع مدى التدخل وأسبابه خلال هذا العقد الذي شهد في النصف الأول منه أحداث ومواقف وأزمات حادة في العراق والصومال وتاهيتي ويوجوسلافيا السابقة ورواندا وليبيريا، وأما الأحداث الأخرى التي حدثت في النصف الأول فقد ارتبطت بعدد من القرارات ضد أفغانستان 1996- 1999م والسودان 1996م، ثم كوسوفو وتيمور الشرقية في1999 والبوسنة والهرسك. وتعتبر قرارات الأمم المتحدة في تلك الفترة نقطة تحول أسياسية بالنسبة لمفهوم السيادة وكيفية إدارة الأمن والسلام الدوليين. وعكس الاستخدام الجديد لصلاحيات مجلس الأمن الموجودة في الباب السابع للميثاق بدء مرحلة جديدة من الجهود لحماية البدل والمجتمع الدولي. وبإعادة تعريف مفهوم التهديد للسلام والأمن الدوليين، وباعتبار أن الدول هي التي تكون المجتمع الدولي، أعاد مجلس الأمن صياغة المبدأ الحاكم الذي يحمي الدول والنظام الدولي الذي يعتمدون عليه، فالمبدأ القديم والمؤسس على مفهوم السيادة كان حماية الدولة ضد التدخل في شئونها الداخلية والحفاظ على النظام والاستقرار باتخاذ إجراءات لوقف العدوان الخارجي المسلح ضد الدول. الآن تغير الحال، وتغيرت الاحتياجات وأصبح التحدي الذي يواجه السلام والأمن هو حماية النظام الدولي الذي تعتمد عليه الدول من الفوضى وعدم الاستقرار نتيجة ما قد يحدث من أحداث وقلاقل داخل بعض الدول الأخرى، الأولوية الآن هي منع الاضطرابات الداخلية في الدول من أن تنتقل عدواها إلى الجسد الدولي فتؤثر على غالبية الدول التي تعتمد عليها. وقد تحول المجتمع الدولي عما كان يعرف في الماضي "بمجتمع الدول" Community of nations ليصير مجتمعا دوليا بالمعنى الدقيق international Community، وهو ما ترتب عليه أن إرادة هذا المجتمع لم تعد تتمثل فقط في المجموع الحسابي (الإيرادات الوحدات السياسية المكونة له) وإنما أصبحت له فوق ذلك وفي حدود معينة إرادة ذاتية مستقلة. وقد سوغ هذا التصور لبعض الباحثين القول بأن إرادة المجتمع الدولي -بهذا المعني المشار إليه ومعبرا عنه بصور شتي- أصبحت مصدرا من مصادر الالتزام في نطاق العلاقات الدولية المعاصرة. كما سوغ هذا التطور أيضا لفريق ثان من الباحثين الحديث في أن "البشرية" برمتها قد أصبحت شخصا قانونيا دوليا أو على الأقل بسبيلها لأن تكون كذلك. كما أضحى لهذا المجتمع الدولي من جهة ثالثة نظامه العام الخاص به، والذي يرتكن إلى مجموعة من القواعد القانونية الآمرة التي يحتج بها في مواجهة الكافة ولا يجوز قانونا وكمبدأ عام الاتفاق على مخالفتها. وقد سارت التطورات العديدة التي شهدها النظام الدولي في عقوده الأخيرة في اتجاه تقليص دور السيادة الوطنية وإيلاء أهمية خاصة للعمل الجماعي في نطاق العلاقات الدولية المتبادلة. وبرغم أن حق الدولة في العمل بقوانينها وحقها في أن تكون في مأمن من التدخل الخارجي لم يسلب تماما، فإن القداسة التي أحاطت بها كمظاهر أساسية لسيادة الدولة لم تعد كما كانت من قبل، وأصبح لممارسة الحقوق شروط من منظور المساءلة الدولية ليس كحقيقة واقعة ولكن من ناحية المبدأ على الأقل، لقد تم تدويل السيادة.
تدويل السيادة
واشتملت عملية تدويل السيادة على توسيع لأبعادها الخارجية فالقاعدة الأساسية التي يقوم عليها المجتمع الدولي وهي الاعتراف المتبادل بين دول لها سيادة اتسعت بصورة معينة أدت إلى وضع شروط لممارسة الدولة حقوق السيادة، أهمها ألا يتسبب من جراء تلك الحقوق إحداث اضطراب في النظام العالمي. وفي كثير من الحالات التي حدث فيها ذلك، مارس مجلس الأمن السلطات المخولة له متجاوزا الحقوق التقليدية للسيادة. وأكد الإجراء العسكري الذي اتخذه حلف الناتو تجاه كوسوفو، الواقع الجديد بأنه قد أصبح ممكنا أن تقوم دولة ما بهذا العمل عندما لا تقوم الأمم المتحدة ومجلس الأمن باتخاذ الإجراءات الكافية. ويعتبر وضع كوسوفو وتيمور الشرقية تحت السلطة الكاملة لإدارة دولية انتقالية بتكليف من الأمم المتحدة من أكبر العلامات وضوحا على وجود صورة للسيادة الدولية؛ لذلك فإن شرط الاعتراف بسلطة الدولة العليا لم يعد يرجع فقط إلى الشعب، ولكن إلى حقيقة أن الدولة ليست عنصرا للفوضى والاضطراب في المجتمع الدولي. ويعني مفهوم تدويل السيادة وجود نظام لمساءلة الدول في حالة تعسفها الشديد في ممارسة حقوق السيادة. وقد تأكد هذا الشرط الجديد لسيادة الدولة عندما صرح السكرتير العام للأمم المتحدة كوفي أنان أنه لم يعد هناك حصانة للسيادة. ومن جهة أخرى نجد أن كوفي أنان في المشروع الذي طرحه على الجمعية العامة في دورتها (54) يعتبر أن السيادة لم تعد خاصة بالدولة القومية التي تعتبر أساس العلاقات الدولية المعاصرة ولكن تتعلق بالأفراد أنفسهم، وهي تعني الحريات الأساسية لكل فرد والمحفوظة من قبل ميثاق الأمم المتحدة، وبالتالي فهو يدعو إلى حماية الوجود الإنساني للأفراد وليس حماية الذين ينتهكونها. وبهذا الطريق يكون أنان قد أزال العقبات أمام المنظمات الدولية لكي تباشر أعمالها في مشروع التدخل لوقف انتهاكات حقوق الإنسان دون تفويض من الأمم المتحدة. ومفهوم السيادة بهذا الشكل لا يمكن أن يستقر ويستقيم، فليس هناك ما يبرر لأي دولة، حتى لو كانت الدولة العظمى كالولايات المتحدة الأمريكية (المتحدث الرسمي باسم حقوق الإنسان) أن تدعي الحق في تغيير أي نظام سياسي في أي دولة أخرى، بل ليس للأمم المتحدة نفسها مثل هذا الحق، ذلك أن القبول بهذا العمل لا يعني الحلول نفسها في تقرير مصيره والتحكم بمصالحه الخاصة، ولكنه يهدد أكثر من ذلك القاعدة الرئيسية التي يقوم عليها النظام العالمي حتى الآن وهي سيادة الدولة وحريتها. ولا يغير من هذا كون النظام المستهدف نظاما استبداديا قائما على القوة المحضة وناكرا لجميع الحقوق المعرفية والسياسية لمواطنيه. لكن رفض التسليم لأي دولة ولأي تكتل أو تحالف دولي مهما كان نوعه ومسوغات تشكيله بالتدخل باسم المجموعة الدولية أو باسم مصالحه الخاصة لتغيير نظام سياسي استبدادي وظالم في بلد ما لا يعني في الوقت نفسه وينبغي ألا يعني القبول باستمرار مثل هذا النظام ولا يقلل من المسئولية الدولية في عدم القضاء عليه، فمثل هذا السلوك لا يمكن أن يعني شيئا آخر سوى النذالة والجبن وانعدام المسئولية الجماعية على مستوى المجموعة الدولية بأكلمها. وبالتالي فلا يوجد شيء يمكن أن يبرر اليوم استمرار نظم تجرد شعوبها من حقوقها وتسومها سوء العذاب بذريعة السيادة القومية تماما، كما أنه لا شيء يمكن أن يبرر ترك شعب يخضع للاحتلال ويجرد من حقوقه وموارده ومستقبله معا كما هو الحال في فلسطين وفي العديد من المناطق الأخرى، وأخيرا ما حدث بالعراق (في القرن الحادي والعشرين) بذريعة الأمن أو الحرب ضد الإرهاب، ففي الحالتين تقع المجموعة الدولية في ذنب الضلوع مع الظلم والتقاعس عن مد يد العون لبشر يتعرضون لأخطار محدقة.. إذن فلا يمكن لمبدأ السيادة أن يستقر إلا إذا رافقه مفهوم التضامن الإنساني الذي يحدد شروط استخدامه بحيث لا يتحول إلى أداة لإخضاع شعوب وجماعات وإذلالها وتسخيرها لخدمة أهداف خاصة، سواء أكان ذلك بالقوة المهنة أم بالتحالف والتآمر مع قوى خارجية، وهو حق يرتب على جميع الدول مشتركة واجب السعي لإنقاذ الشعوب التي اغتصبت حقوقها الأساسية المعروفة، سواء أكان ذلك من قوى داخلية أو خارجية لا فرق. وللأسف بدلا من العمل على تطوير آليات في هذا الاتجاه على مستوى المجموعة الدولية، نجحت بعض الأطراف في بداية التسعينيات من القرن الماضي في الحصول على تصويت المنظمة الدولية على حق سمي "حق التدخل الإنساني" كان من نتيجته إجهاض مفهوم التضامن اللازم والواجب على المجموعة الدولية تجاه الشعوب المستضعفة، لصالح إضفاء المشروعية الدولية على تدخل دول المجموعة الأطلسية في المناطق والمواقع التي تجد أن لها مصلحة قومية أو إقليمية واضحة في التدخل فيها، وبحسب ما تتطلبه هذه المصالح لا ضمان حقوق الشعوب ولا حريتها وسيادتها. والواقع أن تفاوت الدول من حيث الموارد والإمكانيات جعل بعض الباحثين يميزون بين السيادة كمفهوم قانوني بمعنى وحدة الخطاب القانوني وعمومية القاعدة القانونية الدولية بالنسبة لجميع المخاطبين بها وبدون أدنى تمييز، والسيادة كمفهوم سياسي بمعنى القدرة الفعلية أو الحقيقية للدولة على رفض الخضوع لأي سلطة أخرى غير سلطتها هي، بالضبط مثل مفهوم المواطنة في الداخل. فقد تكون الدولة مستقلة قانونا، ولكنها عاجزة عن إشباع احتياجات مواطنيها؛ وهو ما يعرضها لضغوط وتأثيرات بعض الدول الأخرى؛ الأمر الذي يجعل استقلالها منقوصا، وبالتالي تعجز عن مباشرة بعض مظاهر سيادتها. وفي ظل العولمة تخضع الحياة الاقتصادية والسياسية أكثر فأكثر لتأثير قوى السوق، وهذه بدورها تخضع لتأثير مصالح الشركات المحلية والدولية أكثر مما تخضع لأوامر الدولة. ومن بين التطورات الدولية التي صاحبت العولمة تغير هيكل النظام الدولي من نظام ثنائي القطبية إلى نظام أحادي القطبية وذهب البعض إلى أن النظام أحادي القطبية يؤدي إلى انتهاك سيادات الدول. وعلى سبيل المثال لم يكن من الممكن أن يحدث لسيادة العراق ما يحدث لها الآن من اتتهاكات لو استمر النظام الدولي الثنائي القطبية. ومن التغيرات الأخرى المصاحبة للعولمة الثورة الهائلة في وسائل الاتصال، فقد ترتب عليها تقريب غير معهود للمسافات بين مختلف مناطق العالم، وأدى ذلك إلى أن أي حدث يقع في أي منطقة من العالم يكون له صداه في غيره من المناطق دونما اعتبار للحدود السياسية أو لمبدأ السيادة الإقليمية. وترتب على ذلك العديد من المظاهر السلبية تجاه سيادة الدولة، فلم تعد هناك خطوط فاصلة بين الشأنين الداخلي والخارجي وأصبحت الدولة مسئولة مسئولية دولية مباشرة ليس فقط عن أفعالها غير المشروعة التي يترتب عليها حدوث ضرر مادي للدول الأخرى أو لمواطني هذه الدول، وإنما تسأل أيضا عن أفعالها المشروعة التي تصدر عنها إعمالا لمبدأ السيادة وفي نطاقها الإقليمي التي يترتب عليها حدوث ضرر للغـير.
السيادة الوطنية.. رؤية مستقبلية
ماذا عن احتمالات المستقبل؟ وإلى أي مدى يمكن القول بأن فكرة السيادة الوطنية بسبيلها الآن إلى التلاشي أو الانهيار في ظل أوضاع التواصل المستمر والاعتماد المتبادل المتنامي بين مختلف مناطق العالم وليس فقط بين دولة؟. يمكن الإجابة على هذا السؤال بشقيه في نقطتين: أولاهما أن الاتجاه نحو تقليص دور السيادة الوطنية في نطاق العلاقات الدولية المتبادلة سيأخذ في الاطراد والتزايد علي الأقل خلال المستقبل المنظور ويعزى ذلك إلى كون أن العديد من التطورات التي سلفت الإشارة إليها لا تزال فعالة ومؤثرة في تشكيل بنية النظام الدولي في وضعه الراهن. أما النقطة الثانية التي نود الإشارة إليها هنا، وفي معرض الإجابة عن السؤال المطروح، فمؤداها أن التسليم بالاستنتاج السابق ينبغي ألا يفهم منه أن مبدأ السيادة الوطنية -وفكرة الدولة القومية من أساسها- بسبيله إلى الاختفاء، فالراجح حتى الآن هو أن التطورات الراهنة في النظام الدولي لن تأتي على المبدأ المذكور تماما فالسيادة الوطنية ستظل باقية ما بقيت الدولة القومية ذاتها وتقديرنا أنه لم يجرؤ أحد حتى الآن على القول بأن هذه الدولة القومية ستنهار، بل إن العكس يبدو أنه الصحيح وأن أقصى ما يمكن لهذه التطورات الجارية في النظام الدولي المعاصر أن تفعله هو أن تنال من طبيعة الوظائف أو الأدوار التي تضطلع بها الدولة بالمقارنة بما كان عليه الحال في ظل النظام الدولي التقليدي. وطالما بقيت الدولة فستبقى معها رموزها الأساسية ومنها مبدأ السيادة ولكن بعد تطويعه بما يتناسب والأوضاع والظروف الدولية المستحدثة. وان كان هذا لا يمنع أن نتناول طرح المفكرين والباحثين لرؤى مستقبل السيادة الوطنية في ضوء المتغيرات الحادثة خاصة العولمة. وقد وضع الباحثون أربعة سيناريوهات رئيسية لمستقبل السيادة الوطنية هي: 1- سيناريو اختفاء السيادة: يرى أنصار السيناريو أنه كما حلت الدولة محل سلطة الإقطاع تدريجيا منذ نحو خمسة قرون، سوف تحل اليوم الشركة متعددة الجنسيات تدريجيا محل الدولة والسببان الشركات متعددة الجنسية تسعى خلال تلك المرحلة إلى إحداث تقليص تدريجي في سيادة الدول، بما يؤدي إلى اختفاء مفهوم السيادة، ثم الدولة القومية ذاتها في مرحلة لاحقة، وستكون الوظيفة الجديدة للدولة خدمة المصالح المسيطرة وهي في الأساس مصالح الشركات الدولية العملاقة. والواقع أن فكرة تلاشي سيادة الدولة، ثم اختفاء الدولة القومية في مرحلة لاحقة من الأفكار الشائعة في تاريخ تطور الفكر السياسي، حيث قالها ماركس والفوضويون ومع ذلك لم تنته السيادة ولم تتلاش الدولة القومية. 2- سيناريو استمرارية السيادة: يرى أنصار هذا السيناريو أن التطورات الراهنة في النظام الدولي لن تأتي على السيادة تماما؛ فالسيادة الوطنية ستظل باقية ما بقيت الدولة القومية ذاتها، وأقصى ما يمكن للتطورات الجارية في النظام الدولي المعاصر أن تفعله هو أن تنال من طبيعة الوظائف أو الأدوار التي تضطلع بها الدولة بالمقارنة بما كان عليه الحال في ظل النظام الدولي التقليدي. 3- سيناريو الحكومة العالمية: يذهب هذا السيناريو إلى أن هناك تغييرا سيحدث في مفهوم السيادة الوطنية، حيث ستتنازل الدولة القومية عن سيادتها لصالح حكومة عالمية منبثقة من نظام عالمي ديمقراطي، حيث تغير العولمة طرح فكرة الحكومة العالمية ليس باعتبارها حلا بعيد المنال وإنما باعتبارها عملية في طور التكوين. 4- سيناريو التفكيكية: يتوقع أنصار هذا السيناريو أن الدول القومية لن تكون قادرة على مباشرة مظاهر سيادتها على إقليمها بسبب تفككها إلى عشرات وربما إلى مئات من الدول القومية الصغيرة، تارة تحت دعوى التعبير عن هويات من حقها أن تعبر عن نفسها، وتارة أخرى تحت دعوة توطيد صلة المواطنين بالسلطة، وربما احتجاجا على تحيز النظام الدولي الجديد لجماعات دون أخرى، وعلى الرغم من تزايد الحروب الأهلية والنزعات الانفصالية؛ وهو ما يجعل حدوث هذا السيناريو محتملا، فإن ثمة تحفظات أخرى تلاحقه، فلا بد أن قوى مضادة ستعمل على مرحلة هذا السيناريو بسبب خطورته الشديدة. خلاصــة: نخلص إلى عدة حقائق قائمة على البحث التاريخي في تطور مفهوم السيادة، أهمها أن مبدأ السيادة دائم مستمر لا يتغير، إلا أن صورتها وحقيقتها والمسئوليات التي تنهض بها تتغير مع الزمن أو يعاد توزيعها. ولا تعني التطورات الحادثة الآن نهاية مفهوم السيادة، ولكن تعني أن السيادة قد تغير مفهومها وتم إعادة توزيعها.. فقبل الثورة الفرنسية كانت السيادة ملكا للأباطرة والملوك ثم انتزعها الثوار ومنحوها للشعب، وصاحب ذلك موجة عارمة من استغلال الشعوب اعتدادها بنفسها. أما التطورات العالمية الحالية فقد أدت إلى تدويل السيادة وتوسيع نطاقها بحيث لم تعد خاصة بالشعب والدولة وحدها ولكن يشارك فيها المجتمع الدولي ممثلا في القوى المتحكمة به. أما ما يشار إليه في الفقه القانوني عادة بمبدأ المساواة في السيادة أو مبدأ المساواة بين الدول المستقلة ذوات السيادة، فإنما هو مبدأ نظري ويكاد يكون العمل في الغالب والواقع على غير ذلك. ومؤدى ذلك أن السيادة ترتبط ارتباطا وثيقا من حيث طبيعتها ومدى اتساع أو ضيق نطاق تطبيقها بقدرات الدولة وإمكاناتها الذاتية، أي أن القوة -باختصار- شرط من شروط ممارسة السيادة والحفاظ عليها، وهو ما يثير في النهاية قضية العدالة الدولية على كافة الأصعدة، لكن هذا بداية جدل آخر يستحق بحث منفصل.
** باحثة في العلوم الاجتماعية والإعلام – مصر.
يصف المحللون اليبرالية بأنها أيدلوجية قابلة للتأويل لها مائة وجه، تجيد المراوغة والتحول وتوظف المفاهيم الإنسانية الكبرى والقيم النبيلة من أجل تحقيق منافع مباشرة اقتصادية بالأساس، حتى يحار المرء في فهمها وتحديد موقف محدد منها، ففي الفكر والنظرية تسمو قيم الحرية والفردية لكن في التطبيق تتلاشى الحريات ويسود السوق وتهيمن الرأسمالية المتوحشة. ورغم الالتباس والجرائم الكبرى تجد منظومة الليبرالية لديها من الكبرياء ما يدفعها للزعم بأنها الحل التاريخي والإجابة الأبدية لأسئلة المجتمع والدولة كما في أطروحة نهاية التاريخ لفوكوياما، في حين لا يرى فيها نقادها إلا نسقا مثاليا تأكله آليات الاقتصاد فيستعصي جوهره كرؤية للتحرر والتحقق الفردي على التطبيق.
وتذهب معظم الكتابات إلى أن استخدام مصطلح "ليبرالي" بدأ منذ القرن 14، ولكنه كان يحتمل معاني متعددة ودلالات شتى، فالكلمة اللاتينية liber تشير إلى طبقة الرجال الأحرار، أي أنهم ليسوا فلاحين مملوكين أو عبيدا. والكلمة كانت ترادف "الكريم" أي "ليبرالي" أو سخي في تقديمه لمعونات المعايش للآخرين. وفي المواقف الاجتماعية كانت الكلمة تعني "متفتحا" أو ذا عقل وأفق فكري رحب. وترتبط الكلمة كثيرا بدلالات الحرية والاختيار.
ويليامجلادستون
لكن الليبرالية بمفهومها السياسي لم تظهر إلا في أوائل القرن 19، وأول استخدام كان في أسبانيا في عام 1812، وبحلول الأربعينيات من ذلك القرن كان المصطلح قد صار واسع الانتشار في أوربا؛ ليشير إلى مجموعة من الأفكار السياسية المختلفة. ولكن في إنجلترا انتشر المصطلح ببطء برغم أن الأعضاء ذوي الشعر المستعار Whigs (أعضاء حزب بريطاني مؤيد للإصلاح) أطلقوا على أنفسهم "الليبراليون" أثناء الثلاثينيات من القرن 18، وكانت أول حكومة ليبرالية هي حكومة جلادستون Gladstone التي تولت الحكم عام 1868.
ولم تظهر الليبرالية كمذهب سياسي قبل القرن 19، ولكنها قامت كأيدلوجية على أفكار ونظريات تنامت قبل ذلك بـ300 عام، حيث نشأت الأفكار الليبرالية مع انهيار النظام الإقطاعي في أوربا والذي حل محله المجتمع الرأسمالي أو مجتمع السوق.
كانت الليبرالية تعكس آمال الطبقات المتوسطة الصاعدة التي تتضارب مصالحها مع السلطة الملكية المطلقة والأرستقراطية من ملاك الأراضي، وكانت الأفكار الليبرالية أفكارا جذرية تسعى إلى الإصلاح الجذري وفي بعض الأوقات إلى التغيير الثوري. فالثورة الإنجليزية في القرن 17 والثورات الأمريكية والفرنسية في أواخر القرن 18 كانت تحمل مقومات ليبرالية رغم أن المصطلح لم يستخدم حينذاك بالمفهوم السياسي. وقد عارض الليبراليون السلطة المطلقة للحكم الملكي والذي قام على مبدأ "الحق الإلهي للملوك"، ونادى الليبراليون بالحكم الدستوري ثم لاحقا بالحكومة التمثيلية أو البرلمانية. وانتقد الليبراليون الامتيازات السياسية والاقتصادية لدى ملاك الأراضي والنظام الإقطاعي الظالم، حيث كان الوضع الاجتماعي يحدد حسب "المولد". كما ساندوا الحركات السياسية التي تنادي بحرية الضمير في الدين وتتشككوا في السلطة المستقرة للكنيسة.
ويعتبر القرن 19 في كثير من الجوانب قرنا ليبراليا، حيث انتصرت الأفكار الليبرالية مع انتشار التصنيع في البلدان الغربية. ويؤيد الليبراليون النظام الاقتصادي الصناعي واقتصاد السوق الخالي من تدخل الحكومة، حيث يسمح فيه بمباشرة الأعمال للحصول على الربح وتسود فيه التجارة الحرة بين الدول بدون قيود. فهذا النظام -نظام الرأسمالية الصناعية- نشأ في البداية في إنجلترا في منصف القرن 18، وأصبح راسخا في أوائل القرن 19، ثم انتشر في أمريكا الشمالية ثم غرب أوربا وتدريجيا طبق في أوربا الشرقية.
وقد حاول النموذج الرأسمالي الصناعي أثناء القرن العشرين التغلغل في الدول النامية في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وخاصة أن التنمية الاجتماعية والسياسية تم تعريفها بالمنظور الاقتصادي الغربي المتمثل في نظرية التقدم المادي، ولكن العديد من البلدان النامية قاومت الليبرالية لارتباطها بالنظم الاستعمارية من جهة ولقوة الثقافة السياسية التقليدية في الدول حديثة الاستقلال التي تناصر الجماعية وليس الفردية؛ ولذلك كانت تربة خصبة لنمو الاشتراكية والقومية أكثر من الليبرالية الغربية.
ولقد نجحت اليابان في تطبيق الرأسمالية، ولكنها قامت على التعاونية وليست الفردية؛ فالصناعة اليابانية تتأسس على الأفكار التقليدية من وفاء للجماعة والشعور بالواجب الأخلاقي وليس السعي لتحقيق المصلحة الذاتية للفرد وحسب.
وقد اقترنت النظم السياسية الغربية بأفكار وقيم الليبرالية، وهي نظم دستورية حيث تحد الدساتير من سلطة الحكومة وتحافظ على الحريات المدنية، كما أنها تمثيلية أو برلمانية أي أن الصعود إلى المناصب السياسية يتم من خلال انتخابات تنافسية.
وقد شهد التحول للديمقراطية الغربية صعودا في بعض الدول النامية في الثمانينيات، ومع سقوط الاتحاد السوفيتي بدأت محاولات تحول ديمقراطي أيضا في أوربا الشرقية.
ونلاحظ أنه في بعض الحالات ورثت دول أفريقية وآسيوية الأسلوب الغربي للحكم الليبرالي من حقبة ما قبل الاستقلال، ولكن بدرجات نجاح متفاوتة، فعلى سبيل المثال تُعَد الهند أكبر النظم الديمقراطية الحرة في العالم الثالث، لكن في أماكن أخرى سقطت النظم الديمقراطية الليبرالية؛ بسبب غياب الرأسمالية الصناعية كأساس اقتصادي وغلبة التحالفات العشائرية، أو بسبب طبيعة الثقافة السياسية المحلية، ففي مقابل الثقافة السياسية في معظم الدول الغربية القائمة على أساس وطيد من القيم الليبرالية الرأسمالية مثل حرية التعبير المطلقة وحرية الممارسة الدينية (أو الروحية الانتقائية العلمانية) والحق المطلق في الملكية، كمبادئ مستمدة من الليبرالية وراسخة في أعماق المجتمعات الغربية نادرا ما تواجه أي تحدي أو مسائلة، نجد في دول العالم الثالث مكانة مركزية للدين واحترام للجماعة وقيمها يحدد مجالات الحرية الفردية، ومكانة للولاء الأسري والعشائري تحفظ القيم الجماعية.
ولقد ناقش بعض المفكرين السياسيين -الناقدين والمؤيدين على حد سواء- العلاقة الحتمية بين الليبرالية والرأسمالية. فيرى الماركسيون مثلا أن الأفكار الليبرالية تعكس المصالح الاقتصادية للطبقة الحاكمة من أصحاب رأس المال في المجتمع الرأسمالي؛ فهم يصورون الليبرالية على أنها النموذج الكلاسيكي للأيديولوجية البرجوازية. وعلى الجانب الآخر يرى مفكرون مثل فريدريك حايك Hayek أن الحرية الاقتصادية -الحق في الملكية وحرية التصرف في الملك الخاص- هي ضمانة هامة للحرية السياسية؛ لذلك في رأي حايك لا يتحقق النظام السياسي الديمقراطي الحر واحترام الحريات المدنية إلا في نطاق النظام الاقتصادي الرأسمالي.
ولا شك أن التطورات التاريخية في القرنين 19 و20 قد أثرت في مضمون الأيديولوجية الليبرالية، فتغيرت ملامح الليبرالية مع نجاح الهيمنة السياسية والاقتصادية لدى الطبقات المتوسطة الصاعدة، كما أن السمت الثوري لليبرالية في بواكيرها منذ القرن السادس عشر تجاه واقعها تلاشى مع كل نجاح ليبرالي، فأصبحت الليبرالية أكثر محافظة وأقل سعيا للتغير والإصلاح وتميل للحفاظ على المؤسسات القائمة الليبرالية. ومنذ أواخر القرن 19 ومع تقدم الصناعة والتصنيع بدأ الليبراليون في إعادة النظر ومراجعة الأفكار والمفاهيم الليبرالية الكلاسيكية لتنشأ ليبرالية.. جديدة.
فبينما كان الليبراليون الأوائل يؤمنون بتدخل الحكومة المحدود جدا في حياة المواطنين، يعتقد الليبراليون الجدد أن الحكومة مسئولة عن تقديم الخدمات الاجتماعية في مجالات الصحة والإسكان والمعاشات والتعليم، بجانب إدارة أو على الأقل تنظيم الاقتصاد. ومن ثَم أصبح هناك خطان من التفكير الليبرالي: الليبرالية الكلاسيكية والليبرالية الحديثة. ولذلك رأى بعض المحللين أن الليبرالية ليست أيديولوجية متماسكة، فهي تضم تناقضات بشأن دور الدولة، ولكن يمكن القول هنا إن الليبرالية في التحليل الأخير -مثل جميع الأيديولوجيات السياسية- قد تعرضت للتطور في مبادئها الرئيسية، وذلك مع التغيرات التاريخية المحيطة، فلا يوجد أيديولوجية سياسية جامدة أو متوحدة، فكلها تحتوي على مجموعة من الآراء والاجتهادات التي قد تتعارض أو تتناقض. وبالرغم من ذلك هناك تماسك ووحدة ضمنية في قلب الفكر الليبرالي، وذلك في الالتزام الأساسي بحرية الفرد والمبادئ التي تترتب على مذهب الفردية.
الليبرالية.. أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال الجوهر الليبرالي: فردانية القيم والتصورات
08/08/2004
هبة رءوف عزت[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
جونلوك
الليبرالية -بدرجة كبيرة- هي أيديلوجية الغرب الصناعي، والمفاهيم الليبرالية تبدو غير منفصلة عن الحضارة الغربية على الوجه العام.
وقد تم تصوير الليبرالية مؤخرا في كتابات أنصارها بأنها ليست فقط أيديولوجية بل ما وراء - أيديولوجية Meta-Ideology، فهي مجموعة من القواعد تضع أرضية للنقاش السياسي والفكري، وذلك يبين أن الليبرالية تعطي الأولوية لما يوصف بـ"الحق الفردي" على ما هو "فاضل أو صالح"، أي أنها تسعى إلى توفير حياة "جيدة" للناس والجماعات حسب تعريفهم هم الفرداني لما هو جيد، وذلك دون أن تضع أو تفرض أي مفهوم للصلاح أو الفضيلة. وفي مواجهة الانتقاد القائل بأن الليبرالية محايدة من الناحية الأخلاقية يؤكد أنصارها أن أفكارها وقيمها لهذا السبب ذات جاذبية عالمية، فلا أحد يخاف قدوم الليبرالية؛ لأنها تتعامل مع مصالح أعضاء المجتمع بتساوٍ، ويؤكدون أن الليبرالية ليست أبدا فلسفة "افعل ما بدا لك!"، فبالرغم من أن الليبرالية تشجع الانفتاح والمناقشة وحرية الإرادة فهي تتسم كذلك باتجاه أخلاقي قوي، ويتجسد الموقف الأخلاقي لليبرالية في نظرهم في التزامها بمجموعة من القيم والمبادئ المتميزة، وأهم محاورها يدور حول ما يلي:
§ [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
§ [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
§ [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
§ [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
§ [مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
مركزية الفرد
ايمانويلكانط
يعتبر مفهوم الفرد في العالم الحديث مفهوما مستقرا لدرجة أن أهميته السياسية تؤخذ أحيانا كإحدى المُسَلمات، فالليبرالية طورت ما كان عليه المفهوم في الحقبة الإقطاعية، حيث ساد إدراك للفرد باعتباره ليس لديه مصالح خاصة به أو هوية متفردة، فكان ينظر إلى الناس باعتبارهم أعضاء في مجموعات اجتماعية ينتمون إليها كالأسرة والقرية والمجتمع المحلي أو الطبقة الاجتماعية، فحياتهم وهويتهم كانت تتحدد بدرجة كبيرة بحسب صفات تلك المجموعات، وذلك في عملية تغير طفيف من جيل إلى آخر، وعندما انهار النظام الإقطاعي واجه الأفراد نطاقا أوسع من الخيارات والإمكانات الاجتماعية، وأتيح لهم لأول مرة التفكير الفردي المطلق وبشكل شخصي بحت، فمثلا الفلاح المملوك الذي عاشت وعملت أسرته في نفس قطعة الأرض أصبح الآن رجلا حرا لديه القدرة على اختيار عمله وصاحب العمل، وأن يترك الأرض ليبحث عن عمل آخر في المدن الكبيرة.
ومع سقوط معطيات الحياة الإقطاعية ظهر أسلوب جديد من التفكير، فالتفسير العقلاني والعلمي بدأ تدريجيا يحل مكان النظريات الدينية التقليدية وأصبح النظر والتعامل مع المجتمع من زاوية الفرد وتحرره وليس الحفاظ على تضامن الجماعات الاجتماعية.
وقد انتشرت نظريات الحقوق الطبيعية في القرنين 17 و18 التي وظفت الخطاب الديني بشكل إيجابي ولم تتحدث عن قطيعة معه البتة، وذهبت إلى أن الله وهب الأفراد حقوقا طبيعية، يعرفها جون لوك بأنها "الحرية والحياة والملكية"؛ فالفرد وحده يمتلك هذه الحقوق لذلك فهو أهم من أي جماعة اجتماعية. ويعتبر أصحاب نظريات "الحقوق الطبيعية" أن وظيفة المجتمع يجب أن تكون حماية مصالح واحتياجات الفرد، وقد عبر الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804) عن اعتقاد مشابه لذلك بشأن كرامة ومساواة الأفراد، فهي غايات في حد ذاتها وليست طرقا لتحقيق أهداف الآخرين.
ويعتبر مبدأ أولوية الفرد على الجماعة الخط الرئيسي للفكر الليبرالي، حيث دفع بعض الليبراليين إلى تعريف المجتمع باعتباره "مجموعة من الأفراد يسعى كل واحد منهم لتحقيق مصالحه واحتياجاته". ويطلق على هذا الرأي المذهب "الذري"، حيث ينظر للأفراد كـ"ذرات متنافرة" بداخل المجتمع، ويؤدي هذا التفكير إلى أن استنتاج أن المجتمع نفسه غير موجود، بل هو "متخيل" فهو مجموعة من الأفراد المكتفين ذاتيا. وتقوم هذه الفردية المتطرفة على الافتراض بأن الفرد يتمركز حول الـ"أنا" فهو أساسا أناني ومعتمد على نفسه بدرجة كبيرة. ويصف ماكفيرسون Macpherson الليبرالية الأولى بأنها "فردية مِلكية"، فالفرد هو المالك، ويمتلك نفسه وقدراته الخاصة به وهو لا يدين بها للمجتمع. وقد تطورت هذه الرؤية وصار لليبراليين فيما بعد رأي آخر أكثر تفاؤلا بشأن طبيعة الإنسان يؤمن بأن الأفراد لديهم مسئولية اجتماعية إزاء بعضهم البعض خاصة الأفراد غير القادرين على رعاية أنفسهم (كالمسنين والمستضعفين والمعوقين). وسواء اعتبرت الليبرالية الفرد أنانيا أو غير أناني؛ فقد اجتمع الليبراليون على الرغبة في خلق مجتمع يكون فيه كل فرد قادرا على تنمية وتطوير قدراته لأقصى درجة ممكنة.
إن أهمية الفرد في مذهب الفردية تفوق أي جماعة اجتماعية أو كيان جماعي؛ فمن الناحية المنهجية لمذهب الليبرالية يكون الفرد مركز النظرية السياسية والتفسير الاجتماعي؛ فكل حديث عن المجتمع لا بد أن يكون من منطلق الأفراد الذين يشكلونه. وفي المقابل تقول الفردية الأخلاقية بأن المجتمع يجب أن يخدم الفرد، وبذلك يعطون أولوية للأخلاق الجماعية على حقوق واحتياجات ومصالح الفرد. هذا الموقف السابق يُعَد بمثابة موقف متميز عما ينادي به الليبراليون الكلاسيكيون واليمين الجديد من الأنانية الفردية التي ترتكز على المصالح الشخصية والاعتماد على النفس، بينما بلور الليبراليون الجدد هذا المفهوم بتأكيدهم على أهمية المسئولية الاجتماعية والإيثار جنبا إلى جنب مع مسئوليات الدولة الاجتماعية تجاه الأفراد.
الحرية
ايزيابرلين
من الطبيعي أن يؤدي الاهتمام الشديد بالفرد إلى المسئولية تجاه حريته. ويعتبر الليبراليون حرية الفرد القيمة السياسية العليا، فهي المبدأ الموحِد الجامع في الفكر الليبرالي الحر. وكانت الحرية لدى الليبراليون الأوائل حقا طبيعيا لازما للوجود الإنساني، فهي تعطي الأفراد الفرصة لتحقيق مصالحهم وممارسة حق الاختيار مثل اختيار السكن والعمل... إلخ، ورأى الليبراليون فيما بعد أن الحرية هي الشرط الوحيد الذي يمكن للأفراد من خلاله تنمية قدراتهم.
وبالرغم من ذلك لا يقبل الكثير من الليبراليين بالحرية المطلقة، فإذا كانت الحرية غير محددة المعالم فهي تصبح "ترخيصا يسمح بالإساءة للآخرين. وفي كتابه "عن الحريةOn Liberty "، يقول جون ستيوارت ميل: "إن المبرر الوحيد لممارسة القوة بشكل صحيح تجاه أي عضو في المجتمع المتحضر والتي تكون ضد إرادته هو منع الضرر عن الآخرين".
وكان "ميل" مؤيدا لمذهب التحررية، وممارسة أدنى حد من القيود على حرية الفرد. كما أنه فرق بين "الاهتمام بالمصلحة الشخصية" و"الاهتمام بالآخر" وهو ما يمثل حدا على حرية الآخرين أو إلحاق الضرر بهم، ويذهب ميل من الدفاع عن الحرية درجة رفض أي قيود على الفرد قد يتم تقنينها لمنعه من تدمير نفسه جسمانيا أو أخلاقيا، فهذا الأسلوب من التفكير يرفض القوانين التي تجبر سائقي العربات على ربط حزام الأمان أو سائقي الدرجات البخارية ارتداء الخوذة، ويساويها تماما بالرقابة التي تمنع الأفراد من القراءة أو الاستماع إلى رأي ما. بل ويدافع أصحاب الفكر التحرري المتطرف عن حق الفرد في فعل ما يشاء بما في ذلك تناول المخدرات(!)
وفي حين نجد أن الليبراليين يتفقون على قيمة الحرية فإنهم يختلفون في دلالات هذه الحرية في وعي الفرد. ففي كتابه "مفهومان للحرية" فرق أيزيا برلين Isaiah Berlin بين النظرية السلبية والنظرية الإيجابية للحرية. وقد كان الليبراليون الكلاسيكيون يؤمنون أن الحرية هي قدرة الشخص على التصرف بالشكل الذي يختاره، وكان هذا المفهوم للحرية مفهوما سلبيا، حيث إنه قائم على غياب القيود الخارجية على الفرد. وفي المقابل يسعى الليبراليون الجدد إلى مفهوم أكثر إيجابية للحرية، وحسب تعريف برلين هي القدرة على أن يكون الفرد سيد نفسه ومستقل بذاته، وتتطلب السيادة على الذات أن يكون الفرد قادرا على تنمية مهاراته ومواهبه وعلى اتساع فهمه وتفهمه وعلى الوصول إلى الإنجاز والرضا. وتعني الحرية في فكر جون ستيورت ميلا أكثر من مجرد التحرر من القيود الخارجية؛ فهي قدرة الأفراد على التطور. وفي النهاية تحقيق الذات بما يتفق مع رغباتهم. وتلك المفاهيم المختلفة بل والمتعارضة للحرية أثارت الجدل الأكاديمي داخل المذهب الليبرالي فتبنى الليبراليون آراء مختلفة، بالتالي حول العلاقة المنشودة بين الفرد والدولة.
العقل
جيرميبنثام
وترتبط الحرية في الفكر الليبرالي بالعقل؛ إذ يعتبر المذهب الليبرالي جزءا من مشروع التنوير، فالفكرة المركزية والرئيسية في رؤية التنوير هي تحرير البشرية من قيود "الخرافة والجهل" وإطلاق العنان لعصر العقل، وكان من أهم المفكرين في عصر التنوير جان جاك روسو بفرنسا وإيمانويل كانط بألمانيا وآدم سميث وجيرمي بانثام بإنجلترا. وقد أثرت عقلانية عصر التنوير في المذهب الليبرالي في كثير من الموضوعات، فهي في المقام الأول دعمت الاعتقاد في مركزية الفرد وحريته، فبقدر عقلانية الإنسان ككائن رشيد يكون قادرا على تحديد مصلحته والسعي وراء منفعته الشخصية. ولا يؤمن الليبراليون بأن الإنسان معصوم من الخطأ، ولكن الليبرالية دعمت الفرد بقوة في مواجهة "الأبوية". ورأت أنها لا تمنع الأفراد من اختيارهم الشخصي الحر وحسب، بل إنها لا تساعدهم على التعلم من الأخطاء، كما أنها تتيح لأصحاب السلطة الأبوية إساءة استخدام وضعهم لتحقيق أغراضهم الخاصة.
وقد ورث الليبراليون عن العقلانية التنويرية أيضا إيمانها الشديد بفكرة "التقدم" التي تعني لديهم التوسع في المعرفة فيمكن الناس من خلال الثورة العلمية ليس فقط فهم وتفسير العالم بل تشكيله أيضا للأفضل. وبإيجاز تعطي سلطة العقل الإنسان القدرة على تحمل مسئولية الإنسان عن نفسه وحياته وتقرير مصيره، وبذلك تحرر العقلانية الفرد من قبضة "الماضي" ومن ثقل "العادات والتقاليد"، ويتقدم كل جيل عن الجيل الذي سبقه فيزداد ميراث المعرفة والفهم تصاعديا. وهو ما يفسر التأكيد الليبرالي على التعليم، فيمكن للناس تحسين أوضاعهم من خلال الحصول على المعرفة وهجر "الخرافات" و"التعصب"، فالتعليم في حد ذاته خير، فهو وسيلة حيوية للارتقاء والتنمية الذاتية للفرد.
وإذا كان التعليم على واسع النطاق فهو يحقق إنجازات تاريخية واجتماعية.
ولعبت العقلانية دورا هاما في التركيز على أهمية المناقشة والمناظرة والجدل. وبينما يحمل الليبراليون عموما نظرة تفاؤلية بصدد الطبيعة الإنسانية ويرون الإنسان كائنا عاقلا؛ فإنهم لم يذهبوا إلى حد وصف الإنسان بالمثالية والكمال؛ لأنهم أدركوا جيدا تأثير المصالح الشخصية وصفات الأنانية، وأن النتيجة الحتمية لذلك هي التنافس والصراع؛ لذا يتعارك الأفراد من أجل الموارد النادرة، وتتنافس الأعمال لزيادة الأرباح، وتناضل الأمم من أجل الأمن أو الحصول على ميزة إستراتيجية وهكذا. ولكن يفضل الليبراليون تسوية هذه الصراعات من خلال المناقشة والتفاوض. ومن أهم ميزات العقل أنه يعطي أساسا جيدا لتقييم المطالب والدعاوى المتنافسة إذا كانت منطقية.
ويمكن القول بأن العقلانية هي الاعتقاد في أن العالم لديه تكوين منطقي يمكن كشفه من خلال الممارسة العقلية للفرد والبحث النقدي، ومن حيث النظر المعرفي فالعقلانية هي تدفق المعرفة من العقل باتجاه العالم وليس العكس، والتجربة مجرد أداة. وأبرز من كتب في العقل والمعرفة كانط؛ وهو ما يختلف عن المنحى التجريبي الذي ساد لدى الليبراليين وكان مؤسسا على فكر ديكارت.
ومن حيث المبدأ العام تؤكد العقلانية على قدرة الفرد على فهم وتفسير الظواهر وعلى حل المشكلات. لكن العقلانية لا تلقن الغايات لسلوك الإنسان، بل تقترح أساليب الوصول إلى تلك الغايات دون الاعتماد على العرف أو التقليد أو اتباع الأهواء والرغبات.
العدالة
ترمز العدالة إلى نوع خاص من الحكم الأخلاقي يتعلق بالثواب والعقاب؛ فالعدالة هي إعطاء كل فرد ما يستحقه. والعدالة الاجتماعية تعني توزيع المنافع المادية في المجتمع مثل الأجور والأرباح، وتوفير متساوٍ للاحتياجات الأساسية من إسكان ورعاية طبية... إلخ.
وتقوم النظرية الليبرالية للعدالة على الالتزام الصارم بالمساواة بشكل شكلي. وإذا كان التعامل مع الناس في المقام الأول يقوم على اعتبارهم أفرادا، فإن لهم الحق في نفس الحقوق ونفس الاحترام. ويؤمن الليبراليون بالعالمية Universalism، أي أن كل الناس في كل مكان لديهم معالم مشتركة أو عالمية فهم يتساوون في القيمة الأخلاقية، ويتمتع كل الأفراد والناس بحقوق متساوية بحكم إنسانيتهم، فلهم حقوق طبيعية وإنسانية. فيجب ألا تقتصر الحقوق على طبقة ما أو جنس محدد، وبالتالي يرفض الليبراليون بشدة أية امتيازات يتمتع بها جماعة دون الأخرى على أساس من النوع أو الجنس أو اللون أو المذهب أو الدين أو الخلفية الاجتماعية. ويجب أن يكون الناس متساوين أمام القانون وأن يتمتعوا بحقوق سياسية ومدنية واحدة.
وينادي الليبراليون بالمساواة في الفرص؛ أي أن كل فرد لديه الفرصة في الصعود الاجتماعي وتحسين وضعه بجهده ودأبه. وذلك لا يعني أن تكون المساواة مطلقة بتدخل من الدولة كما في الاشتراكية؛ لأن الناس لم يولدوا متساوين، بل تختلف مهاراتهم ومواهبهم وبعضهم أكثر استعدادا لبعض الأعمال من غيرهم، ولكن يجب أن تكون أوضاع المعيشة والظروف الاجتماعية الأساسية الدنيا واحدة للجميع.. فمن الضروري مكافأة من يستحق ويجتهد، فالحوافز تساعد الأفراد على العطاء وتحقيق الذات وتنمية المواهب؛ لذلك فالمساواة من المنظور الليبرالي هي أن يكون لدى كل الأفراد فرصة متساوية لتنمية قدراتهم ومهاراتهم غير المتكافئة.
وتحدث الليبراليون عن حكم من يستحق Meritocracy (أي حكم ذوي الإمكانيات والموهبة)؛ فالمجتمع الذي يحكمه هؤلاء -وليس الحكم القائم على عوامل خارج إرادة البشر مثل الحظ أو الفرصة- يعتبر مجتمعا عادلا لأن معاملة الناس فيه ليست بحكم الجنس أو لون البشرة أو الدين، بل تكون حسب قدراتهم واستعدادهم للعمل. والمكانة والثروة الموروثة لا تتفق مع مبادئ الحكم بالاستحقاق، لكن معظم الليبراليون يقبلون فكرة الميراث؛ لأنه على الجانب الآخر منع توارث الثروة يعني التدخل في حق الفرد صاحب المال في التصرف في ملكه حسب اختياره الشخصي، وذلك يمثل إساءة لمبادئ الحرية.
ويختلف المفكرون الليبراليون في كيفية تطبيق العدالة الاجتماعية؛ ففي كتابه "نظرية في العدالة" يرى جون رولز أن الناس في حاجة إلى مكافأة عن العمل الذي يقومون به؛ لذلك تكون بعض الأساليب الاقتصادية المتباينة ضرورية لتعطي حافزا للأفراد، ولكنه يرى أن يطبق ذلك فقط لمصلحة الطبقات الأكثر فقرا وأقل ميزة في المجتمع. وفي رأيه أن العدالة الاجتماعية تفهم كمرادف لمفهوم القسط Fairness وباتجاه المساواة. فالثروة في المجتمع العادل يجب أن يعاد توزيعها من خلال نظام للشئون الاجتماعية وذلك لمصلحة الأقل غنى. وعلى النقيض يأتي روبرت نوزيك في كتابه "اللاسلطوية والدولة واليوتوبيا"؛ ليكون صدى للأفكار التحررية التي تبناها جون لوك في القرن 17. ويذهب نوزيك إلى أن أي توزيع للثروة حتى لو كان غير عادل فإنه يعتبر -اجتماعيا- عدلا طالما طبقت قواعد معينة "للحفاظ على العدالة" والتي تتضمن شرط الحصول على الملك بطريقة عادلة في المقام الأول -بدون سرقة أو تعدي على حقوق الآخرين- وأن تكون قد انتقلت بشكل عادل من شخص عاقل إلى آخر عاقل أيضا. وبناء على هذا يؤكد نوزيك على أهمية ألا ينتهك حق الملكية باسم العدالة الاجتماعية، ورفض بشدة فكرة إعادة توزيع الثروة.
تلك الآراء المتباينة حول العدالة الاجتماعية تكشف عن تعارض ضمني داخل الفكر الليبرالي حول أفضل الأوضاع لتحقيق المجتمع العادل. ويعتقد الليبراليون الكلاسيكيون أن استبدال النظام الإقطاعي بالسوق والمجتمع الرأسمالي يساعد على إيجاد مناخ اجتماعي يمكن أن يزدهر فيه الفرد وينمي قدراته، فكل الناس سواء في عين القانون يتمتعون بفرصة متساوية للصعود في المجتمع. وقد رأى الليبراليون الجدد أن الرأسمالية غير المقيدة أدت إلى ظهور أشكال جديدة من غياب العدالة الاجتماعية وذلك بتمييز البعض على حسب البعض الآخر؛ لذلك يفضلون تدخل الحكومة في الحياة الاجتماعية والاقتصادية من أجل ضمان وحماية الفرصة المتساوية، وبالتالي تحقيق مجتمع عادل.
التسامح
فولتير
تتسم أخلاقيات الليبرالية الاجتماعي بقبول التنوع الأخلاقي والثقافي والسياسي. فقد ردد الليبراليون كثيرا المقولة الشهيرة لفولتير (1694 - 1778) "أنا أكره ما تقول ولكنني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله!". فالحريات الأساسية التي تدعم النظم السياسية الديمقراطية -حرية التعبير والعبادة الدينية والتجمع... إلخ- كلها ضمانات لانتشار التسامح كثقافة. ويتفق معظم المعلقين السياسيين على أن الليبرالية تمضي يدا بيد مع التعددية، فيعتبر تعدد القيم والآراء والمصالح في حد ذاته قيمة وفضيلة. ونقيضه هو القمع السياسي أو انتشار الطاعة العمياء. لذلك ومن حيث المبدأ فإن الليبراليين ضد الرقابة أو أي وسيلة لمنع حرية التعبير في المجتمع، وضد أي ثوابت أيا كانت.
وهذا يفسر الاستياء العميق الذي شعر به الليبراليون في الغرب من الفتوى التي أدلى بها الإمام آية الله خوميني عام 1989 بإعدام الكاتب الإنجليزي سلمان رشدي عندما نشر كتابه "آيات شيطانية" والذي رأى فيه المسلمون إهانة لعقيدتهم الدينية.
ويعني التسامح التقبل، أي الاستعداد لترك الناس يفكرون ويتكلمون ويتصرفون بأسلوب قد لا يتفق المرء معه. ويعتبر التسامح لدى الليبراليين خلقا مثاليا ومبدأ اجتماعيا. ومن جانب آخر تمثل هذه القيمة هدف الاستقلال الفردي، وتضع قاعدة تحكم سلوك الأفراد مع بعضهم البعض.
وتعتبر كتابات جون ميلتون وجون لوك في القرن الـ17 حول الدفاع عن الحرية الدينية للمذاهب المختلفة أولى إرهاصات دعم الليبراليين لقيمة التسامح تجاه الآراء المخالفة. وفي كتابه "رسالة حول التسامح" رأى لوك أنه ما دمنا قبلنا أن وظيفة الحكومة هي حماية أسلوب الحياة والحرية والملكية؛ فالحكومة ليس لها الحق في التدخل في رعاية أرواح العباد؛ فذلك يلقي الضوء على تمييز الليبراليين الواضح بين ما هو "خاص" وما هو "عام". فيجب أن يمتد التسامح ليشمل الأمور الخاصة التي رأوا أنها تشمل الدين ومسائل الأخلاق التي يجب أن تترك للفرد.
وبالرغم من ذلك لم يكن مفهوم البعض -ومنهم لوك على سبيل المثال- للتسامح مطلقا؛ فهو لم يكن على استعداد لتطبيق التسامح على الكاثوليك الرومان، وكانوا في نظره خطرا على الهيمنة القومية بسبب مبايعتهم للبابا الذي هو أجنبي، كما يؤيد الليبراليون المعاصرون القوانين التي تمنع وتصادر الآراء المؤيدة للعنصرية مثلا، والقوانين ضد تشكيل الأحزاب السياسية المعادية للديمقراطية، ويرون أن انتشار تلك الآراء أو نجاح تلك الأحزاب يهدد مناخ التسامح الليبرالي. وعمليا نجد أنه في حين يساند الليبراليون حق المسلمين في نقد مضمون كتاب سلمان رشدي "آيات شيطانية"، فقد كانوا يؤيدون مقاضاة من يدافع علنا عن إعدام سلمان رشدي.
ويتعلق مفهوم التسامح وقبول الاختلاف والتنوع -في رأي الليبراليين- بقواعد المجتمع السوي غير الممزق بالنزاعات والصراعات. وبرغم أن الأفراد والجماعات الاجتماعية تسعى إلى تحقيق مصالح مختلفة، إلا أن هناك توازنا كامنا بين المصالح المتنافسة كما ذهب آدم سميث في حديثه عن "اليد الخفية"؛ فمثلا تختلف مصالح العمال وأصحاب الأعمال: فالعمال يريدون أجورا أفضل وساعات أقل وتحسين ظروف العمل - وأصحاب العمل يرغبون في زيادة أرباحهم عن طريق المحافظة على تكلفة الإنتاج المنخفضة والتي تشمل الأجور، ولكن يحتاج العمال إلى العمل وأصحاب العمل يحتاجون للعمالة، فتلك المصالح المتنافسة تكمل بعضها البعض، أو بمعنى آخر تعتبر كل مجموعة هامة لتحقيق أهداف المجموعة الأخرى. وقد يسعى الأفراد والجماعات وراء مصالحهم الذاتية، ولكن الموازنة الطبيعية تفرض نفسها. وقد أثر مبدأ الموازنة في تطور الأفكار الليبرالية من عدة جهات؛ فجعل بعض الليبراليين يوقنون بأن التوازن الطبيعي سيظهر في الحياة الاقتصادية، ويؤمنون بتوازن المصالح بين الجماعات المتنافسة في النظام السياسي، ويدافعون عن تصور أن السلام والانسجام ممكن بين شعوب العالم.
وهذا التركيز على التنوع والتسامح تعرض للكثير من النقد؛ فتصوير أنصار الليبرالية لها بأنها محايدة أخلاقيا ولا تفرض أي قيم أو عقائد معينة، بل فقط تخلق الظروف التي يمكن أن يعيش فيها أناس ذوو الأولويات الأخلاقية والمادية المختلفة في سلام ونجاح يجعلها تتجنب القيم المطلقة غير القابلة للتفاوض وغير قادرة على مواجهة واقع النزاع؛ فيكون القيد الوحيد على التنوع هو أن يكون كل طرف مؤهلا لتقبل آراء وتصرفات الآخرين، وهكذا يكون التسامح هو القيمة الجوهرية الوحيدة لدى الليبراليين. ويتمثل خطر هذا الوضع في أنه يؤدي إلى مجتمع خالٍ من الأخلاق وغير قادر على كبح جماح الجشع والأنانية. لذلك عاب المحافظون على الليبرالية أنها تقوم بدعم نسبية الأخلاق والثقافة، وفي نظرهم يؤدي غياب القيم الأساسية التي يقوم عليها بنيان المجتمع لجعل التفاعل المنظم والمتحضر مستحيلا لغياب الإجماع الأساسي اللازم لأي مجتمع. والنتيجة هي أن الناس يعلمون جيدا حقوقهم، ولكن لا يعترفون بأي واجب أو مسئولية. وفي العقود الأخيرة من القرن 20 تعرضت الليبرالية الفردية إلى نقد من قبل حركة المجتمعية السريعة الانتشار
الليبرالية.. أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال
الليبرالية في القرن 21
08/08/2004
هبة رءوف عزت[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
فرانسيسفوكوياما
اتسم القرن 20 بإعلان الليبرالية انتصارها على مستوى العالم في مقولة فوكوياما الشهيرة حول نهاية التاريخ التي أغفلت جرائم الليبرالية الاقتصادية في حق الطبقات الدنيا وفي حق الشعوب غير الغربية، وقد عبر عن ذلك فوكوياما (1989) في قوله: "إننا نشاهد نهاية التاريخ وذلك في نقطة النهاية للتطور الأيديولوجي للبشرية وعالمية الديمقراطية الليبرالية الغربية كآخر شكل للحكومة الإنسانية".
ومن السهل تأسيس هذه الفرضية على بعض الشواهد التاريخية؛ فبعد سقوط الفاشية في عام 1945 كانت الشيوعية السوفيتية البديل الرئيسي لليبرالية الغربية، ولكن حتى هذا النظام انهار باندلاع الثورات في دول أوربا الشرقية في الفترة 1989 - 1991 رافضة لمبادئ التخطيط والتدخل الحكومي. وأما في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية يتم عملية دمقرطة النظم السياسية بانتشار التنافس الحزبي وتنامي الاتجاه نحو الإصلاح الاقتصادي القائم على السوق. وإذا كانت تلك العمليات المستمرة تعكس التفوق الواضح لليبرالية على الأيديولوجيات المنافسة (كنهاية للتاريخ كما تزعم النظرية)، أو أنه نتيجة لظهور نظام رأسمالي كوني تسيطر عليه شركات متعددة الجنسية (كما يحذرنا النقاد)، فالمستقبل يبدو لنا ظاهرا: سوف تنكمش الاختلافات الاقتصادية والسياسية تدريجيا في معدلات مختلفة لتلتقي جميعا على النموذج الليبرالي.
لكن الانتصار الليبرالي يواجه تحديات داخلية وخارجية جديدة. فداخليا تتعرض الليبرالية في المجتمع الغربي لنقد من قبل المفكرين الذين أعادوا اكتشاف أهمية المجتمع التراحمي. وظهرت "النظرية المجتمعية" كرد فعل لمساوئ الليبرالية الفردية. وعلى سبيل المثال رفض المفكران أليسدير ماك إنتير ومايكل ساندل الفردية على أنها سطحية ومعادية للجماعة الاجتماعية، حيث إنها تعامل الذات على أنها غير مسئولة تستمد هويتها من داخلها بدلا من العوامل الاجتماعية والتاريخية والثقافية المحيطة بها. ففي نظرهم أن الذات جزء لا يتجزأ من الممارسات والعلاقات الاجتماعية، كما أن العيب الذي يكمن في الليبرالية هو أنها غير قادرة على إنشاء سياسة الصالح العام؛ بسبب تركها للفرد اختيار الحياة التي تروق له والتي يستحسنها من مفهومه الشخصي. ويساعد هذا الفراغ الأخلاقي على تفكك المجتمع. ونظرا لعدم تقيدهم بالواجبات الاجتماعية والمسئولية الأخلاقية. ولا يهتم الأفراد إلا بمصالحهم وحقوقهم الشخصية؛ فعلى المدى الطويل قد يفقد المجتمع الليبرالي المنابع الثقافية لمراجعة الأنانية غير المقيدة أو لتعزيز التعاون والجهد الجماعي.
ويأتي التحدي الخارجي لليبرالية من خارج الغرب. فمع نهاية النظام العالمي الثنائي القطب الذي تمثل في الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي أفسح المجال لقوى جديدة غير ليبرالية كالتي ظهرت مع الديمقراطية الليبرالية. ففي أوربا الشرقية أثبتت الصحوة القومية التي يستمد منها الشعب القوة والثبات والأمن أنها أقوى من الليبرالية الحاسمة. وترتبط هذه القومية بالنقاء العرقي والسلطوية عنها بالمبادئ الليبرالية مثل إقرار المصير والكبرياء الحضري. كذلك ظهرت نماذج متنوعة من الأصولية في الشرق الأوسط وفي بعض مناطق أفريقيا وآسيا. وينتشر الإسلام السياسي عن الليبرالية في كثير من الدول النامية؛ لأنه قادر على تقديم موقف غير غربي بدلا من اتخاذ موقف ضد الغرب. وذلك بالإضافة إلى أن المناطق التي نجح فيها اقتصاد السوق لم تكن دائما قائمة على قيم ومؤسسات ليبرالية، فمثلا قد ترجع صحوة شرق آسيا إلى قدرة الكنفوشسية للمحافظة على الاستقرار الاجتماعي عنها إلى تأثير المبادئ الليبرالية مثل المنافسة والبقاء الذاتي.
وبدلا من الاتجاه نحو عالم ليبرالي موحد تتصف التنمية السياسية في القرن 21 بتنامي التنوع الأيديولوجي، وقد يكون الإسلام والكنفوشسية وحتى القومية السلطوية المنافسين الجدد لليبرالية الغربية. ويقول جون جراي صاحب كتاب "ما بعد الليبرالية": إن هذا المنظور ينبع من طور أكبر؛ ألا وهو انهيار المشروع التنويري الذي تعتبر الليبرالية جزءا منه. ويفترض هذا المشروع أن هناك مجموعة من المبادئ العقلانية قابلة للتطبيق العالمي يمكن أن ترسي أوضاعا تسمح للأفراد بالسعي وراء غايات غير متساوية. وتقع مهمة الليبرالية في إيجاد مؤسسات لتحقيق هذا الهدف، وهي تتمثل في الحكومة التمثيلية والتنافس الحزبي واقتصاد السوق لتحقيق حياة طيبة للفرد بدون خلل وانهيار اجتماعي.
الليبرالية.. أيدلوجية مراوغة أفسدها رأس المال
الليبرالية بين الكلاسيكية والحداثة
08/08/2004
هبة رءوف عزت[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
ديفيدريكاردو
أثار ظهور ما يسمى بالليبرالية الجديدة الاهتمام يإعادة قراءة الليبرالية الكلاسيكية؛ فالحق أن تلك الليبرالية الجديدة هي عودة سلفية لمبادئ الليبرالية قبل أن تتفاعل مع الحقبة الاشتراكية فتهذبها وتتبنى بعض السياسات والأفكار التي تحترم المساواة وحقوق الرفاهة للمواطن خارج منافسة السوق.
فالليبرالية الكلاسيكية هي الليبرالية الأولى التي ظهرت في الفترة الانتقالية بين الإقطاعية والرأسمالية، وقد وصلت إلى أوجهها في بداية الفترة الصناعية من القرن 19؛ ولذلك في بعض الأحيان يطلق على الليبرالية الكلاسيكية "ليبرالية القرن التاسع عشر"، وكانت المملكة المتحدة مهد الليبرالية الكلاسيكية؛ حيث تقدمت وتطورت الثورات الرأسمالية والصناعية. لذلك تأصلت الأفكار الليبرالية بعمق في الدول الأنجلوساكسونية مثل المملكة المتحدة وأمريكا أكثر من باقي دول العالم.
وقد أخذت الليبرالية الكلاسيكية أشكالا كثيرة، ولكن تعتبر الحرية السلبية هي الصفة المشتركة بين تلك النماذج المختلفة؛ فالفرد حر إذا ترك في حاله بدون تدخل الآخرين بأي صورة؛ فمعنى الحرية هنا هو غياب القيود الخارجية على الفرد. فهذا التصور للحرية يفرق بشكل ملحوظ بين الدولة والفرد؛ فالدولة كيان ظالم لديه السلطة لعقاب المواطنين ومصادرة أملاكهم بدفع الغرامات وسلب حرياتهم بالسجن، وفي بعض الأحيان تقضي على حياتهم بالإعدام. فبالتالي قيام الدولة حتى ولو كان ذلك عن طريق العقد الاجتماعي يقتضي حتميا التضحية بحرية الفرد الذي سيفقد المقدرة على عمل ما يريده.
ولاقت تلك المبادئ الأولى انتعاشا وإقبالا شديدا في النصف الثاني من القرن 20. وكان تأثيرها ملحوظا مرة أخرى في المملكة المتحدة والولايات المتحدة حيث توجد صحوة معاصرة لليبرالية الكلاسيكية تحت اسم الليبرالية الكلاسيكية الجديدة أو الليبرالية الجديدة التي ظهرت كرد فعل للتدخل المتزايد للحكومة في الشئون الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في الفترة ما بعد الحرب والتي تجلت في اليمين الجديد.
وتأثرت الليبرالية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر بنظريات كبرى حول الطبيعة الإنسانية قام بوضعها أصحاب الفكر النفعي أمثال جيرمي بنثام وجيمس ميل. اعتبر بنثام فكرة الحقوق "هراء"، وسمى الحقوق الطبيعة "هراء على ركائز" واستبدلها بما يؤمن بأنه أكثر عملية وموضوعية؛ ألا أن الفرد يتحرك بدافع مصالحه الذاتية التي تعرف بالرغبة في اللذة والسعادة وتجنب الألم. فيرى بنثام وكذلك ميل أن الناس يحسبون قدر اللذة والألم الصادر من كل فعل وموقف؛ فبالتالي يختارون ما يبشر بأكبر قدر من اللذة والسعادة. ويؤمن المفكرون النفعيون أن السعادة والألم يمكن قياسهم بالمنفعة آخذين في الاعتبار الكثافة والمدة وهكذا، فالإنسان في رأيهم يتحرى أكبر قدر ممكن من النفع بالسعي وراء أكبر قدر من اللذة والسعادة وأقل قدر ممكن من الألم.
ومن الناحية الأخلاقية يمكن النظر إلى المنفعة لمعرفة "صحة" اتجاه السياسات والمؤسسات في توفيرها للسعادة، تماما كالفرد في قدرته على حساب أكبر قدر من السعادة الصادرة من الفعل؛ حيث يمكن الاستعانة بمبدأ "أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد" في السياسات لصالح المجتمع ككل. وفي أوائل القرن 19 في بريطانيا اجتمع حول بنثام مجموعة من المفكرين المتشددين فلسفيا وعرضوا عليه مجموعة وكبيرة من الإصلاحات الاجتماعية والسياسية والقانونية، وكلها ترتكز على فكرة المنفعة العامة.
فقد كان للنفعية أثر بالغ في الليبرالية وخاصة أنها تطرح فلسفة أخلاقية تفسر كيف ولماذا يسلك الفرد على النحو الذي هو عليه. كذلك تبنت الأجيال اللاحقة من الليبراليين التصور النفعي للإنسان على أنه مخلوق عقلاني يسعى وراء مصالحه الشخصية، وهي فكرة محورية وراء فكر الييبرالية الجديدة أيضا.
فيستطيع كل فرد في نظرهم تحديد أفضل مصالحه الخاصة دون غيره؛ فلا يمكن لغيره -الدولة مثلا- أن تفعل ذلك له. وحسب بنثام الناس تتحرك في إطار اللذة أو السعادة التي يتمتعون بها وبالطريقة التي يختارونها؛ فلا لأحد سواهم يمكن أن يحكم على نوع أو درجة سعادتهم. فإذا كان كل فرد هو الحكم الوحيد لما سيسعده؛ فالفرد وحده هو القادر على تحديد ما هو صحيح أخلاقيا.
والنظرية الاقتصادية الكلاسيكية تبلورت بالأساس في أعمال اقتصاديين سياسيين أمثال آدم سميث وديفيد ريكاردو (1770 - 1823). ويعتبر كتاب "ثروة الأمم" لآدم سميث أول كتاب يدرس في علم الاقتصاد؛ فقد اقتبس سميث أفكاره عن الطبيعة الإنسانية بشكل ملحوظ من الافتراضات الليبرالية والعقلانية، وكان له إسهامه المؤثر في الجدل حول الدور المرغوب فيه للحكومة بداخل المجتمع المدني. ومثل جوانب أخرى من الليبرالية الأولى كان أول ظهور علم الاقتصاد السياسي الكلاسيكي في بريطانيا، حيث كان التحمس الشديد لأفكار ومبادئ هذا العلم التي تبنتها أيضا الولايات المتحدة.
كتب آدم سميث كتابه في وقت فرضت فيه الحكومة قيودا صارمة على النشاط الاقتصادي؛ فكانت المركنتلية النظام الاقتصادي المسيطر في القرنين 16 و17 حيث تدخلت الحكومات في الحياة الاقتصادية من أجل تشجيع التصدير والحد من الاستيراد. وجاء سميث ليقول بأن الاقتصاد يكون في أوج نشاطه مع عدم تدخل الحكومة. ففي رأيه الاقتصاد هو السوق أو سلسلة من الأسواق المتعلقة بعضها ببعض. وتعمل السوق حسب رغبات وقرارات الأفراد الأحرار، وإن الحرية في السوق هي حرية الاختيار: مقدرة المنتج على اختيار السلعة التي يصنعها، ومقدرة العمال على اختيار أصحاب الأعمال، ومقدرة المستهلك على اختيار السلع والخدمات للشراء. فالعلاقات في هذه السوق بين صاحب العمل والموظفين، وبين البائعين والمستهلكين علاقات تطوعية أو عقدية.
ويفترض الاقتصاديون الكلاسيكيون أن الأفراد يسعون وراء تحقيق مصالحهم الشخصية ماديا بدافع الرغبة في التمتع باللذة أو السعادة، وذلك عن طريق تكوين واستهلاك الثروة. وتقوم النظرية الاقتصادية لحد كبير على فكرة "الرجل الاقتصادي"، وهي أن الإنسان يسعى إلى أكبر قدر من المنفعة وذلك بالكسب المادي.
وبالرغم من أن الفرد موجه نحو مصالحه الشخصية يعمل الاقتصاد ككل تحت ضغوط غير بشرية ألا وهي قوى السوق التي تتفاعل بذاتها نحو الرخاء والرفاهية الاقتصادية. على سبيل المثال لا يمكن لأي منتج لسلعة أن يحدد ثمنها؛ فالسوق هي التي تحدد الثمن حسب عدد السلع المعروضة للبيع وعدد المستهلكين الراغبين في شرائها؛ فتلك هي قوى العرض والطلب. إن السوق تدير نفسها بنفسها من خلال آلية التنظيم الذاتي؛ فهي لا تحتاج إلى التوجيه الخارجي. ومن ثَم يجب ألا تتدخل الحكومة في السوق؛ لأنها تدار -على حد قول آدم سميث- "بيد خفية". وتعكس فكرة الإدارة الذاتية للسوق المبدأ الليبرالي بأن هناك توافقا طبيعيا بين المصالح المتضاربة في المجتمع. ويعمل أصحاب الأعمال والعمال والمستهلكون نحو تحقيق مصالحهم الشخصية، ولكن قوى السوق تضمن توافق تلك المصالح؛ فمثلا يحقق العمل التجاري ربحا إلا من خلال ما يرغب المستهلك شراءه.
وقد استخدم الاقتصاديون في المراحل اللاحقة فكرة "اليد الخفية" لشرح كيف أن المشكلات الاقتصادية -مثل البطالة والتضخم والعجز في ميزان المدفوعات- يمكن القضاء عليها من خلال آليات السوق؛ فمثلا تأتي البطالة نتيجة زيادة عدد المؤهلين للعمل عن الوظائف المتاحة أي عرض العمال يزيد عن الطلب لها. فتخفض قوى السوق من سعر العمالة أي أجورهم ، فمع انخفاض الأجور يمكن لصاحب العمل تعيين عدد أكبر من العمال وبالتالي تقل البطالة. لذلك تكون قوى السوق قادرة على القضاء على البطالة بدون تدخل الحكومة شريطة أن مستوى الأجور يكون مرنا مثل الأسعار الأخرى. وتؤدي السوق الحرة إلى كفاية اقتصادية، فمن أجل الربح لا بد أن تكون التكلفة منخفضة فالإسراف وعدم الكفاءة لا سبيل لهم في العمل الإنتاجي. في نفس الوقت تمنع المنافسة إمكانية الحصول على أرباح مبالغ فيها. إذا كانت الأرباح عالية بشكل غير عادي في مجال معين فذلك سيشجع المنتجين على دخول ذلك المجال، فبالتالي سيزيد الناتج وينخفض مستوى الأسعار والأرباح. وتنجذب الموارد الاقتصادية نحو أكثر الاستخدامات ربحا أي نحو مجال الإنتاج المتنامي والمزدهر وليس غير ذلك. وتعمل السوق بشكل إيجابي؛ لأنها دائما تسعى لتحقيق رغبات المستهلك، فالمستهلك هو المسيطر على زمام الأمور، ولكي تحافظ المؤسسات على ربحها العالي لا بد أن تعرف جيدا وتوفي حاجات ورغبات المستهلك. وبذلك وبشكل طبيعي تتحرك قوى السوق نحو رفع كفاءة وقوة الاقتصاد الذي يستجيب ذاتيا لأي تغيير في طلب المستهلك.
وأصبحت أفكار السوق الحرة اعتقادا اقتصاديا في المملكة المتحدة وأمريكا أثناء القرن 19. ووصلت مبادئ السوق الحرة ذروتها مع مبدأ laissez faire، أي "دعه يعمل" وذلك يعني أن الحكومة يجب ألا يكون لها دورا اقتصاديا وترك الاقتصاد وحده والسماح لأصحاب الأعمال مباشرة أعمالهم كيفما يروق لهم. ويتضارب هذا المبدأ مع قوانين المصنع مثل منع توظيف الأطفال والحد من ساعات العمل وأي لائحة من لوائح أوضاع العمل. وتقوم تلك الفردية الاقتصادية على فكرة السعي غير المقيد وراء الربح والذي في النهاية يؤدي إلى المنفعة العامة. واستمر مبدأ "دعه يعمل" قويا في المملكة المتحدة على مدى القرن 19 وكذلك في الولايات المتحدة حتى عام 1930، حيث لاقى معارضة حادة. وفي أواخر القرن 20، تم أحياء فكرة السوق الحرة أثناء إدارة ريجن في الولايات المتحدة وحكومات تاتشير وماجور في المملكة المتحدة. فمن المتوقع أن تقوم الدولتان بزيادة كفاءة الاقتصاد وإنمائه ورفع "يد الحكومة الميتة" عنه، والسماح للقوة الطبيعية لآلية السوق أن تثبت نفسها مرة أخرى. ومن المظاهر الأخرى لليبرالية الاقتصادية هي التجارة الحرة.
الحركة النقابية بين المهنية والسياسة
19/04/2001
جمال البنا
قد لا نجد في الكتابات الإسلامية الأولى إشارة إلى "النقابة"، ولكننا نجد في القرآن الكريم إشارة إلى "النقيب"، قال الله تعالى: "ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا" [المائدة:12] مما يعود باللفظ إلى ماض سحيق، وقد أحيا الرسول هذا التقليد عندما أمر الأنصار أن يعينوا له اثني عشر نقيبًا، يمثلون قبائلهم، وقيل في استخدام لفظة "النقيب": إنه هو الذي ينقب عن شئون الآخرين؛ لغرض خدمتهم".
وفي العصر العباسي الأول ظهرت هيئتان تحمل إحداهما اسم "نقابة"، وإن لم تكن نقابة في حكم الاصطلاح، بينما لا تحمل الأخرى اسم نقابة، وإن كانت بحكم طبيعتها نقابة.
أما الهيئة الأولى فهي "نقابة ذوي الأنساب" التي خصها الماوردي في كتابه "الأحكام السلطانية" ببضع صفحات، وهي وإن حملت اسم نقابة فإنها كما يتضح من اسمها بعيدة كل البعد عن طبيعة النقابات، وأما الهيئة الثانية فهي التي حملت اسم "الأصناف"، وهذه هي جذور النقابية في الحضارة الإسلامية، وتماثلها "الطوائف" التي ظهرت في أوروبا قبل النقابات الحديثة.
الأصناف.. نقابة ذات طبيعة ثلاثية
قد تحدث عن الأصناف ابن بطوطة، والخطيب البغدادي والطبري وياقوت، ووصلت هيئات الأصناف إلى أوجها أيام المهدي وهارون الرشيد، وازدهرت في بغداد وسامراء بعدها.
وكان كل أصحاب حرفة يكونون "صنفا" مستقلاً، وقال اليعقوبي: إن أسواق الكرخ كان فيها "لكل تجار وتجارة شوارع معلومة، وصفوف في تلك الشوارع وحوانيت، وليس يختلط قوم بقوم ولا تجارة بتجارة، ولا يباع صنف مع غير صنفه، ولا يختلف أصحاب المهن من سائر الصناعات مع غيرهم، وكل سوق مفردة، وكل أهل صنف منفردين بتجارتهم".
وكذلك روعي التخصص الحرفي في تنظيم أسواق بغداد الأخرى كسوق باب الشام وسوق باب البصرة، وسوق باب الطاق، ونستدل من أسماء أسواق مدينة بغداد الكثيرة التي توردها المصادر على وجود التخصص حيث نجد سوق النحاسين وباعة الدجاج والدباغين والباقلانيين والسماكين وأصحاب النعال والعطارين والصيادلة وأصحاب الدهون والخزازين والجوهرين، وفي بغداد سوق خاصة لبيع أنواع الفواكه سميت بدار البطيخ، وكانت هذه أسواق الجانب الغربي من بغداد.
أما أسواق الجانب الشرقي فنجد أنه لا ينبغي أن يتاجر التاجر في البز إلا إذا عرف أحكام البيع …، فقد قامت أسواق للدقاقين والخبازين والحلاويين وباعة الرياحين والصيارفة والصاغة وسوق السلاح والنحاسين وللصفارين وللحدادين وسوق للوراقين وسوق الرفائين وسوق للحم"[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ].
وكان كل صنف يرتبط بالمحتسب، وهو الموظف المدني الذي يتولى التفتيش على شئون الحرفة، كما كانت ترتبط عادة بأحد شيوخ الصوفية، وهكذا كانت للأصناف علاقة وثيقة بمجتمعها ذات طبيعة ثلاثية: مهنية، وإدارية، وروحية..
وكان للأصناف تقاليد مرعية في ترتيب مستويات ممارسة المهنة، ونقل الصبي إلى صانع، والصانع إلى معلم، وكانت تنظم حفلات لذلك، وتلحظ اعتبارات معينة، ويظن أن هذه التقاليد انتقلت إلى الطوائف الأوروبية؛ لأنها تكاد تكون واحدة، ونحن لا نسمع عنها إلا بعد عودتهم من الحروب الصليبية التي تعرفوا منها على الحضارة الإسلامية"[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ].
الميكنة.. قانون العرض والطلب
على أن الحركة النقابية الحديثة تدين بظهورها وتكوينها إلى الثورة الصناعية التي حدثت في بريطانيا وظلت من عام 1730م إلى 1830م على وجه التقريب، إذ كانت نتيجة هذه السلسلة من الاكتشافات والاختراعات أن ظهر المصنع الآلي الكبير الذي يضم الآلات الحديدية التي لا تكل ولا تمل وتعمل بقوة البخار، فطالما كان هناك فحم، وهناك نار، فإن الآلة تعمل.. ثم ظهرت وسائل الإضاءة الحديثة بدءًا من غاز المصباح حتى الكهرباء بحيث أمكن للمصنع أن يعمل طوال الليل والنهار..
وقضت الصناعة الآلية على الوسائل الحرفية التي كانت هي أسلوب العمل، وتشرد عمالها، وأصبح الملاذ الوحيد أمامهم هو المصنع...
وكان الذي تولى إقامة هذه المصانع هم أصلا من تجار الغزل والنسيج التي ظهرت "الميكنة" فيها أولا، ثم أضيف إليهم كبار الملاك الذين كانوا يملكون مناجم الفحم والحديد.. وكانوا جميعًا لا يستهدفون سوى الربح، وفي سبيل الربح قامت منافسة "لقطع الأعناق" كما يقول تعبير إنجليزي فيما بينهم، فكل واحد يريد أن يستأثر بالربح، وفي هذا السبيل فإنه يحاول أن يبيع منتجاته بأسعار أقل، وكان الهبوط بمستوى أجور العمال هو أسهل طريق أمامهم لضغط التكلفة..
من ناحية أخرى، فإن قانون العرض والطلب كان يسير ضد مصلحة العمال، فتدمير الطرق اليدوية في الحرف، وتشريد عمالها جعل أعدادًا غفيرة تقف على أبواب المصانع الحديثة.. لتعمل كعمال في الوقت الذي كانت الميكنة لا تتطلب إلا عددًا محدودًا منهم، وبقدر ما كانت وسائل الميكنة تتقدم وتتحسن بقدر ما كان الطلب على العمال يقل، وبالتالي يزداد العرض..
وهكذا وجد العمال في أوائل الثورة الصناعية أنفسهم بين قانون لا يرحم هو قانون العرض والطلب، يهبط بمستوى الأجور، وبين منافسة قاتلة ما بين أصحاب الأعمال تجعل الهبوط بالأجور هو السبيل الأول لضغط التكلفة، وكانت النتيجة أن هبطت الأجور حتى وصلت إلى حد الكفاف..
ميلاد الحركة النقابية
استنجد العمال بالحكومة لمواجهة ما يتعرضون له من ظلم، ولكن الحكومة أعطتهم أذانًا صماء؛ لأنها كانت حكومة أصحاب المال (الرأسمالية)، واستنجدوا بالكنيسة فأوصتهم بالرضا بقدرهم والاستسلام له.. وحاولوا الثورة، وتحطيم الآلات؛ فسلطت عليهم السلطة سيف القانون، وجعلت الإعدام عقوبة لتحطيم الآلات..
وسط تلك الظروف التمعت فكرة "ماذا لو اتحد العمال الذين يحترفون حرفه واحدة في "نقابة" تتولى هي عرض العمل، بدلاً من أن يتكوكبوا أمام بوابات المصانع، ويسمحوا
لأصحاب الأعمال بإجراء مناقصة في الأجور؟" إن هذه الوسيلة تقلب قانون العرض والطلب وتجعله كما لو لم يكن هناك سوى عامل واحد. هو النقابة التي "احتكرت" عرض العمل..
وكان الطريق أمامها حافلاً بالأشواك والمثبطات، ولكن العمال كافحوا – لمدة قرنين من الزمان- قبل أن تستطيع الحركة النقابية أن تكتسب القوة التي تمكنها من مجابهة أصحاب الأعمال مجابهة الند للند، وأن تنزلهم من عليائهم ليجلسوا على مائدة المفاوضات التي تنتهي باتفاقية جماعية. وبالطبع فإن الذي جعل أصحاب الأعمال يقبلون الجلوس مع العمال هو أنه إذا فشلت المفاوضات فسيلوذ العمال بالإضراب الذي يشل العمل في المصانع ويوقف سيل الأرباح لأصحاب الأعمال.
ولما كان الإضراب أشبه بحرب على المستوى الصناعي فقد كان على العمال أن يتعلموا بطريقة التجربة والخطأ، وأن يدفعوا ثمن ذلك غالبًا، ولكنهم في النهاية تعلموا الدرس.
وللحركة النقابية جوانب أخرى سياسية، واجتماعية لا يتسع الحال لشرحها. وفي كتاب "الحركة النقابية حركة إنسانية" قلنا بأنها تأتي بعد الأديان، وقبل الديمقراطية والاشتراكية في النهضة بالشعوب والجماهير.. وأنها أدخلت وسائل إنسانية في الكفاح مع أصحاب الأعمال تقوم على الشورى والتعاون وأنها خاضت غمار السياسة، بتكوينها الأحزاب ذات الاتجاهات الشعبية أو بمحاولاتها الخاصة كالتي قام بها عمال بريطانيا خلال المدة من 1838 – 1848 لإصلاح نظام الانتخابات وحملت اسم "الحركة الميثاقية"..
الثورة التكنولوجية والتكتيك النقابي الجديد
وتتعرض الحركة النقابية لتحديات جاء بها التقدم التكنولوجي وظهور الكومبيوتر والإنترنت مما أخل بنوعية العضوية النقابية وانحسار عمال الصناعات الثقيلة وزيادة عمال الخدمات واستخدام الكمبيوتر في المنازل، فضلاً عن حركات الاندماج ما بين المؤسسات العملاقة لتزداد عملقة، وليمكن توفير أعداد من العمال بعد أن قلص التقدم التكنولوجي أعدادهم من قبل.. بحيث ظهرت الحاجة إلى "تكتيك" نقابي جديد حتى لا يتشرد العمال اليوم كما تشردوا في أعقاب الثورة الصناعية الأولى.
ولما كان أسلوب عمل النقابات هو الضمانة الحقيقية للعمال في المجتمعات الحديثة، فإن الهيئات الدولية حمت حق تكوين النقابات والانضمام إليها، واعتبرت ذلك من الحقوق الأساسية للإنسان. فنصت الفقرة 4 من المادة 23 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر من الأمم المتحدة سنة 1948م على حق كل إنسان في تكوين النقابات والانضمام إليها، كما عززت اتفاقيتا الأمم المتحدة الحقوق الاجتماعية والسياسية والاقتصادية هذا الحق.
وفي عهد سابق تكونت "منظمة العمل الدولية" سنة 1919 كجزء من تسوية السلام في آثار الحرب العالمية الأولى، وجعلت همها معالجة قضايا العمل وتسويتها ما بين الأطراف الثلاثة: (الحكومات – العمال – أصحاب الأعمال)، وتنضم اليوم كل دول العالم تقريبًا إلى منظمة العمل الدولية بمقرها في جنيف، ويكون تمثيل كل دولة على أساس ثلاثي. أي بمندوبين من الحكومات وأصحاب الأعمال والعمال.
وتنفرد منظمة العمل الدولية بين المنظمات الدولية بهذه الصفة، وتعقد المنظمة مؤتمرًا سنويًا في يونيو من كل عام يحضره مندوبو الدول الأعضاء بصفتهم الثلاثية لمناقشة قضايا العمل، ولوضع "اتفاقيات" و"توصيات". والاتفاقية تعد معاهدة ملزمة للدول التي تصدق عليها.
وهناك عدد من الاتفاقيات التي أصدرتها المنظمة خاصة بحماية الحرية النقابية، أبرزها الاتفاقية 78 سنة 1948م عن حرية التكوين النقابي، والاتفاقية 98 لسنة 1949م عن حماية حق التنظيم والمفاوضة الجماعية، ومعظم الدول مصدقة على هذه الاتفاقيات التي تعد من أعرق الاتفاقيات ومن الاتفاقيات الخاصة بالحقوق الأساسية للإنسان.
وقد تكونت في السبعينيات منظمة عربية على غرار منظمة العمل الدولية هي منظمة العمل العربية التي أصدرت أيضًا اتفاقية عن الحرية النقابية.
الحركة النقابية في المجتمعات الإسلامية
وفي رأيي أن الفكر الإسلامي التقليدي قابل الحركة النقابية بشيء من التجهم عندما بدأت تظهر في الدول الإسلامية، فربما نظر إليها بعضهم باعتبارها منظمات شيوعية يكونها الشيوعيون، وأنها تؤدي إلى القلق والاضطراب والفتنة.
وكان لا بد لتبديد هذه الشبهات، وقد قام بهذه المهمة الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل الذي تكّون في جنيف عام 1981، وضم عددًا من النقابات في السودان والأردن والمغرب وباكستان وبنجلاديش.
وأهم عمل قام به الاتحاد هو أنه وضع تنظير إسلامي للحركة النقابية يختلف عن تنظيرها في المجتمع الرأسمالي وتنظيرها في المجتمع الاشتراكي، وبرهن على تقبل المجتمع الإسلامي للنقابات بوجود الأصناف في العهد العباسي، فضلاً عن أن هدف النقابات وهو العدل هو نفسه هدف الإسلام.
ووصل عمق دراسات الاتحاد في هذا المجال درجة أثبتت فيها أن الآية "282" من سورة "البقرة" التي تحدث فيها القرآن عن الدَّين بلورت عناصر الاتفاقيات الجماعية دون تطويع أو ابتسار، وشرح الاتحاد ذلك في الكتاب الذي أصدره عن "الإسلام والحركة النقابية"، والذي ظهرت طبعته الأولى سنة 1980م ليكون تحت يد أعضاء المؤتمر التأسيسي. وأعيد طبعه في الجزائر، ثم طبع طبعة ثانية بعد أن نفدت الطبعة الأولى.
وقام الاتحاد بنشاط كبير، ولكنه قوبل بمعارضة من كثير من الاتحادات العمالية التي ربطت مصيرها بالنظم الحاكمة، وما يفرضه ذلك عليها من اتباع لهذه النظم وعدم الخروج عليها، كما أن الاتحادات العمالية ذات الاتجاهات اليسارية ضاقت به أيضًا.. وحدثت آخر معاركه مع الاتحاد الدولي للنقابات الذي يسيطر عليه اتحاد عمال الولايات المتحدة عندما أعلن الاتحاد الإسلامي عن عزمه على عقد مؤتمر لنصرة القدس.
وتضمنت الكتب التي أصدرها الاتحاد مجلدًا عن الحرية النقابية من ثلاثة أجزاء، وسلسلة من الكتيبات، وكتابًا عن أزمة النقابية في المجتمع الرأسمالي والاشتراكي… إلخ.
ومعظم النقابات في الدول الإسلامية ترتبط بالنظم الحاكمة، ويعتمد بعضها في تمويل نشاطاته على الاتحادات العمالية الدولية، ففي فترة الأربعينيات وما تلاها كانت الحركة النقابية في الدول العربية ذات التوجه اليساري تعتمد على الاتحاد العالمي للنقابات (براج) الذي يموله الاتحاد السوفيتي، وكانت النقابات في المجتمعات العربية الرأسمالية تعتمد على الاتحاد الدولي للنقابات الحرة (بروكسل).
ولما تهاوى الاتحاد السوفيتي تهاوى معه الاتحاد العالمي، وانفرد الاتحاد الدولي للنقابات الحرة بالهيمنة على عالم النقابات العربية والإسلامية، ولما كان هذا الاتحاد يخضع للنفوذ الأمريكي فإن توجهاته كثيرًا ما تتعارض مع توجيهات هذه النقابات.
وقد كان للحركة النقابية في بعض الدول كتونس والسودان أثر كبير في السياسات القومية في فترة الأربعينيات والخمسينيات، ولكن هذا الأثر تقلص في الفترة المعاصرة.
ويظل الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل مشكلاً – في رأيي – لبادرة أمل بالنسبة للحركة النقابية؛ إذ يعتبر هو الوحيد الذي يضع تنظيرا نقابيًا فنيًا أصيلاً بعيدًا عن تلفيقات بعض الكتاب، أو استتباع بعض الأحزاب، ويتفق في الوقت نفسه مع وجدان هذه الشعوب وتاريخها وتقاليدها.
(1) استشهد بها في كتاب "الإسلام والحركة النقابية - جمال البنا، الطبعة الثالثة، ص 44- دار الفكر الإسلامي.
(2) وقد عالجنا موضوع الأصناف بتفصيل في كتاب "الإسلام والحركة النقابية"، والذي أصدره الاتحاد الإسلامي الدولي للعمل.
قراءة في مفهوم التنمية البشرية
أصل الموضوع موجود في الرابط التالي:
https://www.tanmia.ma/article-imprim.php3?id_article=18446
لا يأتي تعقد مفهوم التنمية من تعقد ظاهرة التنمية في حد ذاتها... (مشاركات: 5)
التنمية البشرية
التنمية البشرية Human Development هي عملية توسيع اختيارات الشعوب والمستهدف بهذا هو أن يتمتع الإنسان بمستوى مرتفع من الدخل وبحياة طويلة وصحية بجانب تنمية القدرات الإنسانية من خلال... (مشاركات: 6)
:oالتنمية الريفية هى:
هي أسلوب لاستراتيجية تتم لاعداد وتحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لمجموعة محدودة من الناس وهي عملية شاملة ومقصودة ويسود فيها عامل المشاركة.
اقدم لكم هذا العرض وهو... (مشاركات: 0)
د. عبد العزيز بن عبد الله الخضيري
القرن الـ 21 هو قرن الإنسان, من خلال جعل الإنسان بكل إمكاناته وطاقاته أحد الموارد التي يمكن استثمارها واستغلالها بما يحقق التنمية الشاملة التي تسعى إليها كل الدول... (مشاركات: 0)
التنمية .. بالمحاسبة !
بقلم : عماد الحاج
الحياة عبارة عن مجموعة من التجارب التي تنجح بعضها وتفشل أخرى .. فلا يوجد نجاح باستمرار .. ولا يوجد طريق بلا عثرات .. وفي كلتا الحالتين النجاح أو الفشل... (مشاركات: 0)
أول برنامج تدريبي عربي يهدف إلى تدريب المشاركين على معايير جودة الأمن السيبراني في المؤسسات والشركات، كذلك تعزيز وعي المشاركين بتأثير سلامة المعلومات والبيانات الحساسة وتعريفهم بالتهديدات السيبرانية وكيفية التعامل معها، كذلك تعزيز الممارسات الأمنية والإجراءات الواجب اتباعها لحماية الأنظمة والبيانات، ويركز هذا البرنامج التدريبي المتخصص على تعزيز القدرات الفنية للمشاركين فيه مع التركيز على آليات استخدام احدث التقنيات في حماية الأنظمة والبيانات.
كورس تدريبي حول مفهوم الخدمة في المطاعم والاقسام الداخلية في المطاعم ومهام مدير الاغذية والمشروبات ويستعرض تصنيفات وأنواع المطاعم والتحضييرات اليومية للمطعم والادوات المستخدمة في المطاعم
أقوى دبلوم تدريبي يتناول شرح النماذج المالية كأداة للتنبؤ المستقبلي بالاداء المالي للشركات ويتم فيه شرح الطرق المستخدمة في تقييم الشركات بالاضافة الى شرح موضوعات اساسية مطلوبة للشهادة الدولية محلل النماذج المالية والتقييم.
اذا كنت من المهتمين بموضوع تميز الاداء المؤسسي طبقا لنموذج التميز الاوروبي EFQM2020، فأنت امام أول برنامج تدريبي عربي يؤهل المشاركين فيه للإلمام بموضوع تميز الاداء المؤسسي طبقا لنموذج التميز الاوروبي، حيث يقدم هذا البرنامج التدريبي الاونلاين كل المعلومات والمفاهيم حول الاداء المؤسسي وقياس الاداء المؤسسي وطرق تحسين وتطوير الاداء المؤسسي، وذلك طبقا لنموذج التميز الاوروبي EFQM 2020 وخارطة الطريق الخاصة به وشرح لمنهجية RADAR