يقول أحد الحكماء: «ميدان القول غير ميدان العمل»، وهذه المقولة بالفعل هي ما تميز أساليب التدريب عن غيرها من الأساليب، كما أنها تميز أساليب التدريب ذاتها بعضها عن بعض. وكما اتفقنا بالحلقات السابقة من هذه السلسلة التي تستهدف الشرح التفصيلي لأساليب التدريب لكل من يستهدف توصيل المعلومات إلى الآخرين أو تغيير قناعاتهم أو إكسابهم مجموعة من المهارات، وسواء كان هؤلاء من المدربين أو المربين أو المديرين أو حتى على مستوى الأفراد في سبيل الارتقاء بأنفسهم أو غير هؤلاء من الآباء والأمهات وما إلى ذلك. إن أساليب التدريب المختلفة تهدف لهذه الأهداف الرئيسية الثلاثة والمشار إليها اختصارًا بالأهداف المعرفية والوجدانية والمهارية، والتي يختلف مدى الأهمية النسبية لكل منها عند تطبيق كل أسلوب تدريبي عن غيره من الأساليب، وذلك يعني أن كل أسلوب من الأساليب التدريبية يستهدف تحقيق كل من الأهداف الثلاثة ولكن بدرجات وأوزان نسبية تختلف من أسلوب إلى آخر.
وتستهدف حلقة اليوم من هذه السلسلة الشرح المفصل لأسلوب المشاريع كأحد أحدث الأساليب التدريبية وأسرعها نجاحًا ونموًا بين جموع الشركات والمنظمات العالمية الناجحة لما له من مزايا كبيرة وفعالية مؤثرة كما سيتضح لنا بعد استعراض أهم سماته وخصائصه. ويرى كثير من خبراء التدريب في العالم أن أسلوب المشاريع قد عالج المعضلة التدريبية الكبرى بعناصرها ومتغيراتها المختلفة والتي من أهمها ما يلي:
• الموازنة بين التكاليف اللازمة لتطبيق الأسلوب والعائد المتوقع والمتحقق من تطبيقه.
• الموازنة بين النظرية والتطبيق العملي.
• الموازنة بين تحقيق أعلى إنجاز لأهداف التدريب الثلاثة وبأبعادها المعرفية والوجدانية والمهارية.
مفهوم أسلوب التدريب بالمشاريع
يجب على من يستهدف تعريف مفهوم أسلوب التدريب بالمشاريع أن يدرك جانبين أساسيين، الأول أن التعريفات تمثل جهدًا بشريًا قد يختلف على بعض أو كل فقراته من شخص آخر أو أكثر بخلاف أصحاب تلك التعريفات، والثاني أن أسلوب التدريب بالمشاريع يعتبر الأسلوب الجديد القديم في ذات الوقت، لأنه قديم في محتواه التنفيذي الذي سبق تنفيذه من قبل بأسماء مختلفة غير أنه حديث في تسميته وتطبيقاته المتجددة ونجاحاته الكبيرة بالعصر الحديث لدى الشركات والمنظمات الناجحة في مختلف أنحاء العالم. كما أن اللغة العربية تشير إلى معنى جوهري لمادة «شرع» التي تعني بدأ بالفعل والعمل، ومنها شرع في الكلام أو شرع في الفعل والعمل، كما أن منها شرع بتشديد الراء والتي تعني أوجد قانونًا أو غير ذلك.
إن التدريب الحديث لا يقتصر على الصورة التقليدية للتدريب بالقاعات التدريبية في صورة عروض تقديمية نظرية أو مصورة على الباوربوينت أو غيره وإنما يمتد لأبعد من ذلك ليشمل كلًا من تدريب المديرين والمدربين والمربين والمعلمين والآباء والأمهات، وامتد أيضًا ليشمل التدريب الأفراد على إدارة أعمالهم ذاتيًا وتغيير معارفهم وقناعاتهم الذاتية ومهاراتهم وسلوكياتهم بأنفسهم من خلال التدريب الذاتي، ومن هنا فإن التدريب بالمشاريع لا يستهدف الفئة الأقدم استخدامًا لأسلوب المشروعات مثل مشروعات التخرج وما هو على شاكلة ذلك وإنما يمتد ليشمل كل هؤلاء.
ويرى فريق من خبراء التدريب أن أسلوب التدريب بالمشاريع يمثل ذلك الأسلوب التدريبي الذي يعتمد على تحقيق الأهداف التدريبية من خلال تنفيذ مجموعة من المهام التطبيقية التي تتم بتضافر جهود كل من المدرب والمتدرب (أو المتدربين) ومجموعة الأشخاص الحقيقيين والاعتباريين خلال حدود زمنية محددة ولمفاهيم تدريبية سبق تناولها نظريًا من قبل. ومن خلال هذا التعريف يتبن لنا أن مفهوم التدريب بالمشاريع يتناول مجموعة من العناصر الرئيسية التي من أهمها ما يلي:
•العمل الجماعي، حتى ولو كان المشروع التدريبي فرديًا فإن هناك جهودًا جماعية أخرى تضم خبير التدريب على رأسهم.
•التطبيق والتنفيذ العملي الحقيقي ولو بصورة مبسطة وليس على المدى الموسع، ليتم بذلك التفرقة بين هذا الأسلوب وأساليب التدريب الأخرى كالتدريب بالمحاكاة.
•الفترة الزمنية المحددة التي تفرق بين المشروع التدريبي والتنفيذ العملي الميداني لما بعد التدريب.
• حتمية وجود خلفيات نظرية سبق تناولها بالتدريب، ولا يشترط أن يكون تناولها قد تم من خلال ذات المدرب أو المؤسسة التدريبية.
تصنيفات التدريب بالمشاريع
يعتبر مجموعة من خبراء الإدارة والتدريب أن التدريب بالمشاريع هو الحل المنشود والمقترح لكثير من الصعوبات التدريبية والإدارية في أغلب المنظمات. وهنالك مجموعة من التصنيفات لأنواع التدريب بالمشاريع لعل من أهمها ما يلي:
•التصنيف وفقًا لمدى الالتزام بالعمل الجماعي إلى مشروعات فردية وأخرى جماعية، ومن أمثلة ذلك مشروعات التخرج لطلاب بعض الكليات والمؤسسات التعليمية التي يتم تنفيذها بصورة فردية أو جماعية.
•التصنيف وفقًا لمدى الأخذ بالعالمية إلى مشروعات محلية وأخرى عالمية، والتي من أمثلتها المشروعات التدريبية التي يتم تنفيذها داخل حدود الدولة أو خارجها لمجموعة أو أكثر من المتدربين وبحسب المشروع الذي يتم التدريب عليه كالمشروعات التدريبية العسكرية على سبيل المثال والتي تتم في بعض الأحيان بإمكانات محلية أو بالتنسيق المشترك مع قوات مسلحة لدول أخرى.
•التصنيف وفقًا لحجم الاستثمارات بالمشروع إلى مشروعات كبيرة ومتوسطة وصغيرة، وهي تصنيفات تقديرية تختلف وفقًا لمجموعة من المعايير التي من بينها: الدولة، المؤسسة، النشاط، الفترة اللازمة، أهمية موضوع التدريب والعائد المتوقع.
•التصنيف وفقًا للجهات الراعية للتنفيذ إلى مشروعات ذاتية وأخرى مشتركة، والتي من أمثلتها المشروعات التي يتم تنفيذها برعاية جهة تدريبية واحدة أو بالتنسيق مع واحدة أو أكثر من الجهات الأخرى.
• التصنيف وفقًا لمدى الخروج عن حدود المؤسسة التدريبية إلى مشروعات داخلية وأخرى ميدانية، ومن أمثلة ذلك التدريب بالمشاريع التي يتم تنفيذها بالفعل داخل المؤسسة التدريبية، في حين يتم تنفيذ مجموعة أخرى ميدانيًا خارج نطاق المؤسسة.
كيفية تطبيق التدريب بالمشاريع
يعتمد خبراء التدريب على أسلوب التدريب بالمشاريع لهذه الفئة من المتدربين الذين قضوا وقتًا في التدريب الأكثر اعتمادًا بالسابق على الأهداف المعرفية أو الوجدانية والأقل من حيث الأهداف المهارية والسلوكية وبطريقة يثبت بها هؤلاء المتدربون مدى تمكنهم من المفاهيم والنظريات والمواد التدريبية التي تلقونها. إن المدرب المحترف عليه أن يحدد الهدف الدقيق من وراء التدريب بالمشاريع قبل الاعتماد عليه، لأنه لو تم تطبيقه على مجموعة من غير ذوي الدراية النظرية الكافية لتحول إلى وسيلة محبطة وغير فعالة. وهناك مجموعة من المتغيرات والأبعاد التي قد تضطر المنظمات إلى الاعتماد على التدريب بالمشاريع مع درجة أقل من الساعات التدريبية السابقة على الأهداف المعرفية بدافع أنها قد تتحقق في حالة وجود المحترفين والخبراء ضمن فريق المشروع الذي سيتم تطبيقه وهو ما قد يتحقق فعلًا إذا ما كان مستوى المتدربين مؤهلاً لذلك. وهناك مجموعة من الخطوات الرئيسية والأساسية أمام خبير التدريب لتطبيق أسلوب التدريب بالمشاريع من أهمها ما يلي:
•تحديد خبير التدريب للأهداف التدريبية المعرفية والوجدانية والمهارية المطلوب تحقيقها.
•تحديد الأوزان النسبية لكل نوع من أنواع الأهداف التدريبية الثلاثة المحددة.
•التعرف على الضوابط والقيود المالية والاجتماعية والإدارية والقانونية التي تضعها الدولة والمؤسسات الرقابية والمؤسسة التدريبية الراعية للتدريب.
•اختيار الأنسب من صور التدريب بالمشاريع من حيث كونه (فرديًا / جماعيًا)، (ذاتيًا / مشتركًا)، ( محليًا / عالميًا) بما يتناسب مع قيود وضوابط التدريب المحددة سلفًا.
•تجهيز إرشادات التدريب التي سيتم تقديمها للمتدربين بصورتها المناسبة من الصيغ المختلفة التي منها الورقية والإلكترونية والمسموعة والمرئية وغير ذلك.
•تعريف فريق المتدربين المطالبين بتنفيذ المشروع وإمدادهم بإرشادات التدريب مع الشرح والتوضيح وتلقي استفساراتهم الأولية عنها أو الاستفسارات التفصيلية اللاحقة بعد تفحصهم لتلك الإرشادات وخاصة فيما يخص الضوابط الفنية والمالية والزمنية والإجرائية.
•البدء في تنفيذ التدريب بالمشاريع مع الرقابة المستمرة من خبير التدريب قبل وأثناء وبعد التنفيذ، وعلى خبير التدريب هنا أن يدرك أن التدريب بالمشاريع بالرغم أنه يبدو وكأنه تنافس مشوق بين فرق المشاريع إلا أنه بالتأكيد ليس تحديًا أو تعجيزًا لقدرات المتدربين وإنما هو وسيلة للارتقاء والتطوير وتنمية قدراتهم وتحسينها.
• التقييم الختامي للمشاريع من خلال الخبراء والمتدربين والمراقبين والمؤسسة التدريبية والجهات المختصة الأخرى.
توجيهات لنجاح التدريب بالمشاريع
صدقت الحكمة التي تقول إن العائد على قدر المشقة، والتدريب بالمشاريع تتحمل فيه المؤسسة التدريبية الكثير من الوقت والجهد والتكاليف، وبالرغم من ذلك العائد المتوقع فإن هناك ما يسمى إحصائيًا بالبديل الآخر المحتمل وفقًا لنظرية الاحتمالات المعروفة بأنه قد يتم فقد كل تلك التضحيات دون جدوى! ولذا فإن هناك مجموعة من التجارب والخبرات السابقة التي يمكن تقديمها للمدربين الذين يتجهون لأسلوب التدريب بالمشاريع للحصول على المزيد من الأهداف التدريبية المحققة والتدريب الفعال، ومن أهم تلك التوجيهات ما يلي:
•تأكد من أن التدريب بالمشاريع هو الأسلوب الأمثل لفريق المتدربين لديك، لأنه ليس كل الأساليب تصلح لكل المتدربين.
•تأكد من جدوى أسلوب التدريب بالمشاريع مع الحالة التدريبية لديك، لأنه ليس كل ما يصلح تطبيقه من المفضل تطبيقه.
•على خبير التدريب الإدراك جيدًا أن الوقاية خير من العلاج، ولو تم التوضيح الجيد لإرشادات التدريب بالمشاريع لساعد ذلك كثيرًا في إبعاد صعوبات عديدة كانت قد تحدق لاحقًا في حالة عدم التوضيح المناسب لهم.
•التدريب بالمشاريع يستلزم المتابعة والمراقبة قبل وأثناء وبعد التنفيذ ولا يقتصر دور خبير التدريب على التقييمات البعدية فقط.
• يجب على خبير التدريب أن يضع نصب عينيه الأهداف التدريبية المحددة للعملية التدريبية حتى لا ينشغل فقط بالإرشادات التدريبية والتحديات الميدانية التي قد يواجهها المتدربون مع البعد عن جوهر تلك الأهداف الموضوعة.
التدريب بالمشاريع كأحد الحلول الإدارية
يومًا ما وعلى هامش أحد المؤتمرات العالمية تقابلت مع أحد أكبر رجال الأعمال العرب من حيث حجم الاستثمارات التي لهذا الرجل، فقال لي إنه يحرص على أن يحضر دورة إعداد المدربين مرة كل سنتين على الأكثر! فتعجبت من ذلك سائلاً إياه وبتعجب شديد عن السبب وخاصة أنه ليس بحاجة إلى زيادة دخله أو ما إلى ذلك من الأسباب التي قد تدفع ببعض محترفي التدريب لتعلم وتلقي دورات إعداد المدربين، ولكن الرجل أجابني وبثقة أن السبب في ذلك أنه يدير مجموعة من أكبر الشركات في الوطن العربي والتي تضم عددًا كبيرًا من الموظفين ذوي الجنسيات العربية والأجنبية المختلفة، وهو يرى أنه يحتاج إلى مضاعفة الجهود لتوصيل المعلومات وتغيير القناعات وإكساب المهارات. ومن يومها تعلمت من هذا الرجل الملياردير العربي الناجح أن المدير يحتاج وبشدة لمهارات التدريب ودورات إعداد المدربين كذلك، كما تعلمت منه أن دورات إعداد المدربين لا تؤخذ مرة واحدة في العمر كما يفعلها كثير من المدربين وللأسف الشديد ولعل هذا من الأسباب التي دفعتني لأخذها كل فترة ما بين سنتين إلى ثلاث سنوات تقريبًا خلال الثماني عشرة سنة الأخيرة من العمر. حقًا إن هؤلاء النخب من رجال الأعمال الناجحين لهم قوانينهم وقواعدهم التي أوصلتهم إلى هذا النجاح بعد فضل الله من غير شك.
إن التدريب بالمشاريع قد حل الكثير من التحديات والصعوبات الإدارية التي يقابلها المديرون ولعل من أهمها ما يلي:
•تقلل المشاريع الإدارية المؤقتة من مخاطر تشكيل إدارات جديدة على الهياكل الإدارية.
•تساعد المشاريع في تقليل الفاقد من الاستثمارات طويلة الأجل والمستمرة.
•تسمح المشاريع بتجاوز بعض الإجراءات والعقبات القانونية واللائحية التي قد تحيل بين بعض المهام المشتركة وغير ذلك مما لا تتيحه المشاريع.
•تعتبر المشاريع أكثر فعالية في الاستفادة الأمثل من الوقت والجهد والتكاليف عما يمكن تحقيقه من الأساليب التقليدية السابقة والمثبتة على الهياكل الإدارية بالمنظمات.
•يساهم التدريب بالمشاريع كأحد الأساليب والحلول الإدارية المبتكر والمتبعة بالشركات العالمية الناجحة في تقليل خطورة الاعتماد على القيادات غير المناسبة من خلال التتبع الدقيق لفرق تنفيذ المشروعات قبل توليتهم المهام القيادية والتنفيذية الفعلية بالمراكز الإدارية المختلفة بالمنظمات والشركات بموجب قرارات تعيين وترقية يصعب أو يستحيل تغييرها أو إلغاؤها فيما بعد.