العلم يمثل الثورة الكبرى التي نسفت خرافات الكنيسة في أوروبا وأطاحت بعرشها وقوضت وجودها الطاغي إلى الأبد، كما نسفت في الوقت نفسه فلسفة أرسطو ونظرياته في العلم والفن والحياة. وهكذا نكون قد اقتربنا من الثورة الثانية التي هي نتيجة لهذه الأولى، ففي سنة 1789م حدثت الثورة الفرنسية فأضحت معلمًا فاصلًا لا في تاريخ الفكر والأدب فحسب، بل في التاريخ عامة. ومنذ عصر النهضة حتى ظهور الثورة الفرنسية كانت الكلاسيكية هي السائدة على الأدب الأوروبي. وقيمة الأدب الكلاسيكي تتمثل في مضمونه الأخلاقي والتـزامه المدرسي وحديثه الدائم عما ينبغي أن تكون عليه الحياة.
فالنهايات الكلاسيكية -في المسرحية والملحمة سواء- تأتي دائمًا انتصارًا للحق والفضيلة، إنه دعوة إلى الحكمة العملية لكنها لا تخاطب الناس باسم الدين. القرن التاسع عشر قرن التغيرات الكبرى في كل مجالات الحياة الأوروبية.
الثورة الصناعية تعم أرجاء القارة، حاملة الكوارث الاجتماعية مع التقدم المادي الكبير. الرأسمالية بوجهها الكالح تسيطر على أوروبا وتحفز الأوروبيين للتنافس الضاري على خيرات العالم كلها، حيث كان العصر الذهبي للتوسع الاستعماري والاحتكار التجاري. الثورات السياسية تجتاح القارة مزلزلة بقايا الإقطاع والأنظمة الملكية.
الفلسفة المثالية تسود القارة وخاصة ألمانيا والمذهب النفعي يسيطر على إنجلترا. خارطة أوروبا تشهد تغييرات مفاجئة متلاحقة، أمبراطوريات تسقط وولايات تصبح أمبراطوريات، دول تنكمش وأخرى تختفي التعصب القومي يبلغ ذروته الفاشية، النازية، والحركة الصهيونية.
ظهور الحركات المتطرفة كـالماركسية، والعدمية، والفوضوية التي تأثر بها ماو تسي تونغ كما سيأتي. ولعل أكبر الأحداث الفكرية هي ظهور الفلسفة الوضعية التي نادى بها أوغست كونت دينًا جديدًا للإنسانية. ثم تلاها البركان الذي أحدث انقلابًا عامًا في الأفكار والآراء والمعتقدات التي توارثتها أوروبا -بل الإنسانية- قرونًا طويلة، وهو كتاب «أصل الأنواع» لداروين المشتمل على نظرية التطور العضوي والانتقاء الطبيعي. وصلت حمم هذا البركان إلى أرجاء المعمورة كافة نتيجة جهود عظيمة قام بها أناس متعددو الاتجاهات، لكنهم متفقو الدوافع ومن أبرزهم الثلاثة ماركس، فرويد، دوركايم. وهكذا كان الغرور الهائل الذي أوحت به النظرية والثقة في التقدم المطلق في كل المجالات التي أسهمت فيها الاكتشافات العلمية المذهلة حينئذٍ، ليكون نهاية المطاف ظهور النظرية النسبية في أوائل القرن العشرين لاينشتاين عام 1905. ونتج عن ذلك كله تنكر مخيف للماضي بكل ما فيه وقطع لأواصره وثورة شاملة على الأخلاق والتقاليد لم يسبق لها نظير.
لقد كان القرن التاسع عشر قرن بريطانيا العظمى بامتياز كانت أساطيلها البحرية تمخر عباب البحار والمحيطات - مع شقائقها الأوروبيات وأميركا – تنقب عن الثروات وتفتح الأسواق لبضائعها فاستعمرت شبه القارة الهندية وأخضعت الصين وجاراتها لاتفاقات مذلة، وبدأت تتسلل إلى موانئ الخليج العربي لتنسج علاقات معها بعيدًا عن أنظار الصدر الأعظم في الاستانة وكان منطلقها الهيمنة التجارية والاقتصادية، كما أن القرن العشرين قرنًا أمريكيًا بامتياز، ولا ندري لمن سيكون القرن الحادي والعشرين؟ وهؤلاء إذا دخلوا دولة أفسدوها وجعلوا أعزتها أذلة وساموها الخسف والقهر.
وهكذا كانت أسباب الثورة الصينية عام 1911 هي هيمنة الدول الأوروبية وسيطرتها على الصين حتى أصبحت الإمبراطورية الصينية خاضعة ذليلة لنفوذ الدول الغربية الأمبريالية. بدأ المجتمع الصيني يترنح تحت ضربات القوى الاستعمارية على الرغم من أنها كانت واحدة من أكبر القواعد السكانية. عالم النهب الغربي والهزات الاجتماعية والاقتصادية وحروب الأفيون والمعاهدات المذلة مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وتحول هونغ كونغ إلى مستعمرة بريطانية وفتح الموانئ الصينية أمام التجارة الخارجية واحتلال اليابان لأجزاء كثيرة منها وكذلك الاتحاد السوفيتي. هذا الاختراق الاقتصادي والتدخل السافر في شؤونها وخصوصياتها أدت إلى نهوض جديد للمشاعر القومية والكرامة الصينية في وجه الاستكبار الغربي. ازداد سخط الشعب الصيني من السيطرة الأوروبية على أجزاء من بلادهم، وبلغ الحنق مداه من سلالة تشينغ الحاكمة التي حكمت الصين لأكثر من ألفي سنة، وانتشر كره سلالة تشينغ التي لم تحل مشاكل البلد بكفاءة ولم تدفع عنه بكرامة. كانت العقول السياسية الصينية الثائرة مقتنعة بتشكيل جمهورية ذات نظام جمهوري، وإن وجود حكومة جديدة من شأنه أن يساعد الصين على التطور لتصبح دولة قوية وانتشرت هذه الفكرة في جميع أنحاء البلاد بمساعدة كبيرة من قادة بارزين أمثال صن يات صن الذي أصبح أول رئيس للصين بعد السلالات المتعاقبة.
كانت وقود الثورة هي مظالم الإقطاعيين وفسادهم من ملاك الأراضي والمصانع الذين سخروا الفلاحين والعمال كالعبيد في مزارعهم ومصانعهم بأجور زهيدة وساعات عمل طويلة وغير محددة. أما الضرائب فلم يستفد منها المواطن في تحسين أوضاعه وتنمية اقتصاده بل في الغالب كانت تذهب إلى جيوب وكروش مسؤولي الضرائب، هذا الفساد الإداري والمالي مع رواج من يسمونهم Moneylenderالمرابين في عرض البلاد -القطاع المصرفي- كل ذلك أنهك وحطم المجتمع الصيني بالديون والقهر والحرمان حيث يرزح الشعب تحت ذل المرابين. تفجرت الثورة الصينية لفقدهم قيادة رشيدة ترعى مصالحهم وتقضي على البطالة المنتشرة والمخدرات المتفشية بين السكان، أضف إلى ذلك ضعف التعليم وانعدام السكن وافتقاد البيئة الصحية وتفشي الأوبئة والمجاعات وبيع واضطهاد النساء والأطفال وارتفاع الضرائب على العمال والفلاحين مما حطمهم ودفعهم للخروج والتمرد من أغلال العبودية لخدام الإمبريالية التي اغتالت أحلامهم وحطمت آمالهم.

بقلم: د. عبدالرحيم المالكي