أشهر النقلة في القرن الثالث الهجري:
أما عن أشهر النقلة في القرن الثالث الهجري فإننا نستطيع أن نسرد الكثير من نجوم
التعريب في هذا القرن والوقوف على الأثر الذي تركه كل واحد في تعريب كتب القدماء، إذ
تزخر المصادر بأخبار هؤلاء، وسوف يجد القارئ في سياق تناولنا للنهضة العلمية التي شهدتها
بغداد في مجال العلوم التجريبية أمثال عديدة للكتب التي قام هؤلاء النقلة بترجمتها وتنقيحها. ولا
بأس أن نشير هنا إلى عدد من القمم البارزة، فمنهم: يوحنا بن البطريق وحنين بن إسحق العبادي
(ت ٢٦٠ ه) وولده إسحق بن حنين بن إسحق (ت ٢٩٨ ه) ويعقوب بن إسحق الكندي
الفيلسوف (ت ٢٥٥ ه) وثابت بن قرة الحراني (ت ٢٨٨ ه) وعمر بن الفرخان الطبري
البغدادي وحبيش بن الحسن الأعسم تلميذ حنين وابن أخته وقسطا بن لوقا البعلبكي (ت
٣٠٠ ه) وغيرهم. وأربعة من هؤلاء كانوا حّذاق الترجمة في الإسلام كما يقول أبو معشر
البلخي البغدادي، وهم: حنين بن إسحق والكندي وثابت بن قرة وعمر بن الفرخان.
حنين بن إسحق عميد المترجمين :
كان حنين ملمًا بجميع علوم عصره، وخاصة الطب، عمل طبيبًا في بلاط المتوكل، كما كان
يدرس الطب في بغداد، وكان على معرفة جيدة باليونانية، قام برحلة طويلة في أرجاء
الإمبراطورية البيزنطية، جمع خلالها المخطوطات العلمية والفلسفية، وعلى هذا النحو، كان
حنين مهيئًا، بصورة ممتازة، لممارسة عملية التنظيم اللاحق للترجمة، وتدريجيًا، تج  مع حوله
حلقة من المترجمين، كان في عدادها ابنه إسحق، وابن أخته حبيش، وغيرهما من العلماء
الشباب.
ومن بين التراجم التي ُتنسب إلى حنين، هناك عدد كبير من مؤلفات أبقراط وجالينوس
وأعمال أرسطو ،« طيماوس » و « النواميس » و « الجمهورية » - الطبية، وكذلك مؤلفات أفلاطون
في المنطق، وأبحاث أرخميدس وإقليدس الرياضية، وغيرها، ومن المحتمل جدًا، أن ترجمة
بعض هذه الأعمال كانت جهدًا مشتركًا لمجموعة بكاملها، لا لحنين وحده، وبفضل أعمال هذه
المجموعة بلغت التراجم مستوى عاليًا، لأن حنين كان يدرك أهمية تمحيص النصوص قبل
ترجمتها.
واستطاع حنين أن ينقل إلى اللغتين السريانية والعربية أهم تراث اليونان في الطب والفلسفة،
وإن نظرة سريعة على أسماء المصنفات التي ترجمها تبين لنا ذلك العمل الذي أنجزه في هذا
أو « عميد المترجمين » أو « حامل لواء الترجمة » المجال، الأمر الذي استحق معه أن يحمل لقب
أعظم » إلى غير ذلك من ألقاب أطلقها الباحثون عليه. بل ووصف بأنه « شيخ المترجمين »
لم » : ويقول عنه القفطي ،« شخصية علمية أنجبتها الحضارة الإسلامية في المائة الثالثة للهجرة
يزل أمره يقوى وعلمه بتزايد وعجائبه تظهر في النقل والتفاسير (أي الشروح) حتى صار
وقد أتقن حنين العبادي أربع لغات، هي: السريانية واليونانية .« ينبوعًا للعلم ومعدنًا للفضائل
والفارسية والعربية، وكان بها ناق ً لا مجيدًا إلى أقصى درجات الدقة والجودة. وترجم وحده - كما
يقول هو نفسه - إلى اللغة السريانية مائة رسالة من رسائل جالينوس ومدرسته، وترجم إلى
اللغة العربية تسعًا وثلاثين رسالة أخرى، وبفضل ترجماته هذه نجت بعض مؤلفات جالينوس من
الفناء.
وبالرغم من أن القرن الثالث الهجري - عصر الترجمة الحقيقي - كان قد استوفى أهم
أغراضه في هذا الميدان؛ حيث أدخل إلى اللغة العربية أهم ما في تراث الأوائل من أمهات
المصادر في مختلف فروع العلم التجريبي وبعض جوانب فروع الأدب والتاريخ - بالرغم من
ذلك فإن المد التعريبي لم ينقطع بعد ذلك، ولكن استمر قائمًا حتى أواسط القرن الرابع الهجري
تقريبًا.
٤ - الترجمة في القرن الرابع الهجري:
ويعد النصف الأول من القرن الرابع الهجري هو المكمل المباشر لنظيره النصف الأول من
القرن الثالث في مجال الترجمة، وعلى الرغم مما قيل في هذا القرن الجديد من حيث ازدهار
حركة الترجمة فيه فإن القرن السابق عليه - الثالث الهجري - كان أفضل في هذه الناحية من
وجوه عديدة؛ أهمها أن القرن الثالث قد شهد رعاة كثيرين لحركة الترجمة هذه وعلى مختلف
المستويات، سواء كان ذلك من جانب الخلفاء أو من جانب بعض الشخصيات العلمية البارزة في
الدولة ممن عضدوا هذه الحركة وآزروها. ومن جهة ثانية فإن القرن الثالث الهجري كان قد
شهد نشاطًا غير محدود في هذا الميدان أسفر عن قيام حركة ثقافية في التدوين والتأليف، ولكنها
كانت أقل اتساعًا من حركة الترجمة ذاتها. في حين انبثقت في القرن الرابع حركة واسعة في
التدوين والتأليف على حساب حركة الترجمة وكنتيجة مباشرة لها. وفي هذا السياق يقول الدكتور
شغل علماء بغداد وغيرها من الحواضر الإسلامية في القرنين الثاني » : محمد جمال سرور
والثالث الهجري بنقل وترجمة العلوم الأجنبية إلى العربية، ولكنهم في القرن الرابع انصرفوا إلى
وهذا يعني - كما يقول أحد الباحثين - أن القرن الرابع ما كاد يستهل حتى ،« الإنتاج الشخصي
أخذت الحركة العلمية (ببغداد - المشرق) في النضج، وغدت الترجمات مردفة بالتعليقات
والشروح، وبدأت المؤلفات تظهر أو ً لا بصورة دراسات قصيرة في موضوعات محدودة، ثم
بشكل مؤلفات جامعة فيها اقتباس واجتهاد وتحليل ونقد، وتنظيم وتبويب واستنباط.
ومع أن القرن الرابع الهجري يتميز بهذه الخصوصية فإنه كان قريب الشبه بالقرن السابق
عليه من حيث كثرة عدة النقلة الذين قدموا للعلم والحضارة خدمات جليلة، ومن أشهرهم: الطبيب
البارز سنان بن ثابت بن قرة الحراني ( ت ٣٣٢ ه) وأبو بشر متى بن يونس (ت ٣٣٩ ه)
ويحيى بن عدي التكريتي البغدادي (ت ٣٦٤ ه) وعيسى بن إسحاق بن زرعة (ت ٣٩٨ ه ) وغيرهم.
ولا بد أن نشير من جهة ثانية عناية رجال الأندلس - من خلفاء وأمراء وعلماء وذوي
وجاهة وثروة - بتشجيع حركة النقل والترجمة والتأليف، فترجموا كتبًا جديدة وأصلحوا الترجمة
التي قام بها الأمويون والعباسيون.
ولقد تك  ون من الأندلسيين الخبيرين باللغة اللطينية (اللاتينية) ومن الراهب نقولا ومن عّلمهم
اللغة اليونانية ومن بعض علماء ذلك العصر مدرسة للترجمة شابهت زميلتها في بغداد، دار
السلام.
كان للأندلس العربية أثر رائع في تاريخ العلم والفن والطب بما في ذلك العمران، فقد حملت
تراث العلوم والفنون القديمة فحافظت عليه ونفحته بإضافات عظيمة الشأن كبيرة الأثر، وقد
بلغت الأندلس قمة المجد في عهد الأمويين ما بين سنة ١٣٩ وسنة ٤٢٢ ه.
ازدهر العلم في قرطبة في عهد الحكم الأول وعبد الرحمن الثاني؛ وكان كل منهما محبًا
للعلوم والآداب والفنون، مشجعًا للعلماء والأدباء ورجال الفن، وقد أرسل عبد الرحمن أحد علماء
قرطبة عباس بن ناصح إلى العراق لشراء المؤلفات العربية واليوناينة والفارسية أو استنساخها
إذا تعذر ابتياعها. وقد أصبحت قرطبة في عهد عبد الرحمن الثالث مركزًا ثقافيًا ومصرًا معمورًا
لا تحاكيه بعظمته إلا بغداد ودمشق.
وقد سار الحكم على غرار والده عبد الرحمن الثاني بإيفاد رسله إلى المدن الكبرى لشراء
المخطوطات مهما عز الثمن، وأوصاهم باستنساخها إذا لم يتيسر ابتياعها. وقد بلغ في أيامه عدد
الكتب في مكتبة قرطبة العامة ستمائة ألف كتاب، عّلق بنفسه على عدد كبير منها، وكثيرًا ما
كانت تنتهي إليه المؤلفات قبل أن يقرأها أحد وقبل أن يباشر مؤلفها بنشرها.
وبالإمكان ذكر بعض طبقات النقلة الذين عرفوا في أواخر العصر الأموي وحتى العصر
العباسي غير الذين ذكرناهم أو من ذكرناهم ولكن نوردهم هنا ضمن طبقاتهم:
١- فقد كان هناك أفراد منذ العصر الأموي نقلوا الكتب ابتداء من أنفسهم أو بطلب من
غيرهم، من هؤلاء اصطفن القديم وهو اصطفن الإسكندراني ثم عبد الله بن المقفع.
٢- آل ماسرجويه: أولهم ماسرجويه الطبيب، وكان يهودي الدين سرياني اللغة بصري
الدار. ويقال إنه بدأ بالنقل منذ أيام الدولة الأموية قبل خلافة عصر بن عبد العزيز ( ١٠١ ه)،
وعمر ماسرجويه حتى أدرك أبا نواس، وقد نقل كتاب القس أهرون بن أعين الإسكندراني،
ولماسرجويه أيضًا كناش (مجموع) في الغذاء، وكتاب في العين.
٣- آل بختيشوع : وهم نصارى نساطرة كانت لغتهم السريانية؛ وقد اشتهر منهم في صناعة
الطب ستة أجيال، فمنهم:
أ- جورجيس بن بختيشوع : كان جورجيس طبيبًا ماهرًا، وكان رئيسًا للأطباء في مارستان
جنديسابور، استقدمه المنصور سنة ١٤٨ ه إلى بغداد ليداويه، ثم جعله طبيبه الخاص. وكان
جورجيس ناق ً لا من اللغة اليونانية إلى اللغة السريانية، ويقال إن له كناشًا مشهورًا (مجموعًا في
الطب) نقله حنين بن إسحق إلى العربية.
ب - جبرائيل بن بختيشوع بن جورجيس: كان طبيبًا كأبيه، خدم هارون الرشيد ثلاثًا
وعشرين سنة ثم خدم الأمين والمأمون، وله كتب منها: رسالة في المطعم والمشرب، رسالة
مختصرة في الطب، كتاب في صنعة البخور.
ثم توالى نفر من آل بختيشوع اشتغلوا بالطب وبالنقل، منهم: بختيشوع جبرائيل
(ت ٢٥٦ ه)، جبرائيل بن عبيد الله (ت ٣٩٦ ه)، عبد الله بن جبرائيل (ت بعيد ٤٥٠ ه).
٤- آل ماسويه: كان ماسويه تلميذًا (يعني متمرنًا) في مارستان جنديسابور، فغضب عليه
جبرائيل بن بختيشوع وأخرجه منه، فجاء ماسويه إلى بغداد واختص بالتكحيل (تطبيب العيون)
ولقي توفيقًا عظيمًا، وكان مسيحيًا سريانيًا.
وجاء بعد ماسويه ابنه أبو زكريا يوحنا بن ماسويه، وكان فاض ً لا خبيرًا بصناعة الطب، وّلاه
الرشيد ترجمة كتب يونانية وجدها في أنقرة وعمورية، وقد توفي يوحنا بن ماسويه في سامراء
٢٤٣ ه)، ولابن ماسويه تصانيف منها: كتاب البرهان، كتاب الحميات، كتاب الأغذية )
والأشربة، كتاب في الجذام، وهذا لم يسبقه أحد إليه، كتاب الأدوية المسهلة، كتاب السموم
وعلاجها، كتاب تدبير الأصحاء، كتاب تركيب خلق الإنسان (التشريح)، كتاب الحيلة للبرء.
وكان ميخائيل بن ماسويه (أخو يوحنا) طبيبًا مقتدرًا معتدًا بنفسه لا يقيم وزنًا لغيره من
الأطباء، ولكنه كان يصيب التطبيب.
وهنالك عدد من النقلة أكثر شهرة من أصحاب تلك الطبقات كآل حنين وآل ثابت بن قرة وآل
موسى المنجم، وقد تحدثنا عنهم.
رابعًا - الملامح العامة لحركة الترجمة والنتائج التي تمخضت عنها:
١- كانت حركة الترجمة إلى اللغة العربية واسعة النطاق، وشملت أكثر ما أنتجه الأقدمون
في الفلسفة والطب والرياضيات والفلك والكيمياء والنبات وغيرها، حتى لنكاد نظن أنه لم يبق
شيء من هذا التراث لم ينقل إلى العربية. ولم تمض مائة عام تقريبًا على تأسيس بغداد حتى
كان العرب والمسلمون يقرءون بلغتهم معظم ما كتبه اليونان والفرس والهنود.
٢- لقد قام النقلة بالترجمة عن اللغات اليونانية والسريانية والفارسية والهندية (السنكسريتية)
بالدرجة الأولى، كما ترجموا أحيانا عن النبطية واللاتينية وعن القبطية (في مطلع أيام التعريب).
وهذه هي تقريبًا كل اللغات الحضارية التي كانت موجودة في القرون الأولى من العهد
الإسلامي، وكتبت بها مختلف علوم الأوائل. غير أن أكثر ما نقل إلى العربية في تلك النهضة
هي الكتب اليونانية (سواء المكتوبة باليونانية أو السريانية)، وأكثرها في ميادين الفلسفة والطب
ويبدو جليا » : والرياضيات والفلك وفروع العلم الطبيعي. وبهذا الخصوص يقول كراتشكوفسكي
أن شمول التراث الهلنستي واتساع مداه واستيعابه المنظم لدى العرب هو الطابع المميز في
تاريخ نفوذ العلم اليوناني إلى العرب لدى مقارنته بالهندى والإيراني (الفارسي). ففيما يتعلق
بالتراث الهندي والإيراني نلتقي بمصنفات منفردة تدين بظهورها لمجهودات فردية، وذلك بعكس
التراث اليوناني الذي بدأ العمل فيه بطريقة منظمة. وفي زمن قصير انتشرت بين العرب
مؤلفات أبقراط وجالينوس وأقليدس وأرخميدس (أرشميدس) ومينلاوس وأبولونيوس ومارينوس،
وهي تمثل في مجموعها القاعدة الأساسية للعلم اليوناني
٣- شملت عملية التعريب كل ما كان بين الأيدي من تراث الأوائل - لا سيما التراث
اليوناني كما ذكرنا - إلا في ميدان الأدب والتاريخ، فقد كانت عملية التعريب في هذا الباب
انتقائية؛ أي أن الحضارة العربية الإسلامية اختارت ما يتفق وحاجاتها. ومع كثرة ما نقل عن
اليونان أهملت تماما ترجمة كتبهم التاريخية والأدبية إلا في القليل النادر، بينما نقل ما يقابلها عند
الفرس والهنود، حيث ترجمت جملة صالحة من تواريخ الفرس وأخبار ملوكهم وسيرهم وبعض
كتب السياسة والقصص؛ وترجمت عن الهنود بعض كتب السحر والطلسمات.
٤- أما عن عدد الكتب التي نقلت فهي بضع مئات، فمجموع كتب الطب - مث ً لا - التي
ترجمت عن اليونانية وحدها يبلغ حوالي تسعين كتابًا على الأقل. وقد قام جرجي زيدان في كتابه
(تاريخ التمدن الإسلامي) بعمل حصر للكتب المترجمة التي كان عليها معول علماء العرب
والمسلمين فيما صّنفوه، وعلى كثرة ما ذكر الباحث من أسماء هذه الكتب موزعة على فروع
كما يقول. « لتشتت أخبارها وضياع كثير منها ، العلم المختلفة فإن عمله هذا كان محددًا
وعلى الرغم من هذه الكثرة فقد بذلت في الترجمة جهود مضاعفة في كثير من الأحيان
جعلت العديد من الكتب تترجم مرتين، أو ترجمت - أحيانًا - ثلاثًا أو أربعًا، أو تصحح مرة بعد
مرة. ومن هنا كان من أعمال التعريب خلال القرنين الثالث والرابع الهجريين ما نقرؤه في
ترجمات غيرهم، وعن ترجمة الكتاب الواحد « صححوا » تراجم كثير من كبار النقلة من أنهم
أكثر من مرة. وقد يتعاون بعض التراجمة على كتاب واحد معًا، أو قد ينقلونه إلى السريانية أو
الفارسية أو ً لا تمهيدا لنقله إلى العربية في عملية من الترجمة المزدوجة. ولا يمكن أن ينظر إلى
هذه الأعمال إلا على أنها مراحل متتالية من الجهد المنظم المتعمد للوصول لا إلى النصوص
الصحيحة الأصلية فقط، ولكن إلى أمرين آخرين في وقت واحد: الاتصال المباشر بعلوم الأوائل
في لباب العمليات الفكرية التي أبدعها من جهة، والوصول باللغة العربية - بالمقابل - إلى
مستوى التعبير العلمي اللازم لاستيعاب تلك العمليات الفكرية والتفاعل معها وتجاوزها.
ومن ناحية أخرى لم يكن عامة المترجمين آلة للنقل في مترجماتهم لمصنفات الأمم الأخرى
إلى اللغة العربية، وإنما كانوا متخصصين في العلوم التي يقومون بترجمتها، وكثيرًا ما كانوا
يقومون بعمل ملخصات وتفاسير وشروح لعدد من الكتب المترجمة، بالإضافة إلى تآليفهم العديدة
في مختلف العلوم العقلية والتجريبية التي عرفوها من خلال ترجماتهم، أو ما كان موجودًا منها
قبل ذلك، أو ما أوجده البعض منهم بالفعل ولم يكن معروفًا من قبل.
٥- وعادة ما كان يقوم بالترجمة جماعات من المترجمين، يشرف على كل منها رئيس
يراجع أعمالهم، ويصحح أخطاءهم، ويقف وراء حركتهم الخلفاء والأمراء وأهل اليسار من
محبي العلم، يغذونها بالمال، ويتعهدون أهلها بالرعاية والتقدير، بقطع النظر عن مللهم أو نحلهم
أو أنسابهم.
ولعل من نتائج هذا أن أضحت الترجمة حرفة أو صنعة من صناعات الراغبين في خدمة
البلاط العباسي وقصور الكبراء ونشدان الثروة والجاه، أو كانت على الأقل باب رزق لهم. و
لحقها ما لحق الأمور الأخرى ضمن النظام العباسي؛ فكما صارت الوزارة والكتابة والحجابة
أعما ً لا وراثية كذلك صارت الترجمة عم ً لا وراثيًا يتوالى عليه من الأسرة الواحدة أكثر من جيل،
ويكفى أن نتذكر في هذا الصدد آل بختيشوع، وآل حنين بن إسحق، وآل البطريق، وآل قرة،
وغيرهم
٦- ومن الملاحظ أن المترجمين كانوا - في كثرتهم الساحقة - من غير العرب، ووجود
بضعة أسماء معدودة عربية لا يمنع من تعميم هذه الظاهرة. وكان أكثر العاملين بالترجمة
نساطرة من المسيحيين، ثم يأتي من بعدهم في الكثرة اليعاقبة، وكلا الفريقين ظل على دينه إلا
القليل. وقد اختص هؤلاء جميعًا بالتراث الإغريقي. وأما التراث الفارسي فالفرس الذين تحولوا
إلى الإسلام خاصة هم الذين عملوا على نقله إلى العربية. وأما ما نقل عن الهند فالهنود بدورهم
هم الذين نقلوه.
وقد يقال: إن جمهرة المترجمين كانوا من الأجانب غير المسلمين، بل ومن غير العرب، فإذا
صح أن يكون لأحد فضل في حركة نقل العلوم فإلى هؤلاء يرجع الفضل. والرد على هذه
المقولة يتلخص في أن الفضل مشترك، والسبب الذي من أجله كانت غالبية المترجمين من غير
العرب هو أن الترجمة تحتاج إلى معرفة عدد من اللغات، ولم يكن هذا متوافرًا للعرب، ولكن
ذلك لا يكفي، فلا بد - لكي يقوم هؤلاء النقلة من غير المسلمين والعرب بمهمتهم - لابد من
وجود من يحرص على إتمام هذه المهمة ويتكفل بنفقاتها، وقد كان قادة العرب على استعداد
للبذل وحرص على تحقيق النهضة العلمية التي يرجع إليهم - لا إلى سواهم - فضل بدئها
والاستمرار فيها ونجاحها.
٧- وقد انحصرت عملية التعريب كلها - بعد غياب دمشق في القرن الأول الهجري -
انحصرت في العراق، وفي بغداد منها بالذات، فإليها كان يهرع المترجمون - على اختلاف
جنسياتهم وأديانههم - من حران وجنديسابور والرها وأنطاكية وغيرها من المدن. ولا نكاد
نسمع عن تعريب في الشام أو مصر أو فارس في بداية العصر العباسي. وبالرغم من أننا لا
نشك في أن هذه الأقطار لم تكن بعيدة عن ما يحدث في بغداد من بناء للحضارة إلا أننا لا نشك
في الوقت نفسه أن بغداد كانت المركز الأكثر حيوية وحركة وإنتاجًا، وأن هذا التمركز خدم
عملية التعريب، وسمح لها على الأقل أن تلتقي في بؤرة واحدة، وأن تتبادل الخبرات، وأن
ينطلق منها العلماء لنشر الحضارة والمدنية في ربوع الدولة الإسلامية كلها.
لقد تقاطر العلماء النقلة من الأنحاء المختلفة إلى بغداد من أجل تجسيد هدف واحد، ألا وهو
خدمة العلم عن طريق المسلمين بنقل ما خلفته أمم اليونان والفرس والهند من تراث إلى اللغة
العربية. وعلى الرغم من اختلاف أهميتهم وقدرهم في هذا السبيل فإنهم هم الذين يقفون وراء ما
وصل إليه العرب والمسلمين من تقدم وازدهار في شتى مجالات الحضارة.
خامسًا- لمحة عن أهم الكتب المترجمة :
كتاب السند هند :
إن الذي دعا الخليفة المنصور إلى ترجمة هذا الكتاب - كما يذكر الرواة - أن رجلا هنديًا
حضر إلى بغداد سنة ١٥٤ ه(وفي رواية: سنة ١٥٦ ه) في جملة وفد من السند ، وهذا الرجل
وكان عالمًا بالفلك على مذهب علماء الهند ، وقد ،(Kanka أو (كانكا (Manka يدعى (مانكا
« السد هنتا » اصطحب معه إلى بغداد كتابًا في الفلك باللغة السنسكريتية (الهندية القديمة) يسمى
« براهما غبتا » أو « برهمكبت » ومؤلفه هو الفلكي والرياضي ،(Siddhanta) « السدهانت » أو
.(Brahmgupta)
تحول - أو  ح  رف - في الوسط العربي تحت تأثير الاختصار أو « السد هانتا » ولفظ
الذي تنعكس فيه التسمية العربية لشطري الهند: أي الهند والسند، « السند هند » الاشتقاق إلى لفظ
في الأصل: المعرفة والعلم والمذهب، ثم لم يلبث أن أُطلق اصطلاحًا على « السد هانتا » ومعنى
كل مصنف في الفلك على طريقة الهند. ويحتوى الكتاب على مقدمة وجيزة أُرفق بها عدد من
الجداول الفلكية في تحركات الأجرام السماوية وطلوع ومغيب البروج، وقد حسبت هذه الحركات
.(Kalpa) على أساس دورات زمنية تضم آلاف السنين، وهي ما تسمى بالكالبا
وقد كّلف المنصور العالم الهندي الذي نزل بغداد بإملاء مختصر لذلك الكتاب المذكور، ثم
أمر بترجمته إلى العربية، وباستخراج كتاب منه تتخذه العرب أص ً لا في حركات الكواكب،
والذي تولى الترجمة هو: محمد بن إبراهيم بن حبيب الفزاري، وقد س  مى العمل الذي قام به
واستخرج منه زيجًا عرف بزيج الفزاري، وهذا الزنج نقل عنه ،« السند هند الكبير » كتاب
البيروني في مواضع شتى من كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة...) وبين أنه مستنبط مما أملاه
الحكيم الهندي في حركات الكواكب على مذهب السند هند.
كتاب الزيج على سني » ومن الملاحظ أن ابن النديم والقفطي يسميان زيج الفزاري باسم
وهذا يعني أن الفزاري ح  ول سني الأدوار الهندية (وهي سنون نجومية) إلى سنين ،« العرب
هلالية؛ أي بالتاريخ العربي.
ولم ينفرد الفزاري بالاشتغال بالسند هند ونشر تعاليمه في زمن أبي جعفر المنصور ومن
بعده؛ فقد كان هناك عالم آخر عني أيضًا بالمذهب الهندي، وهو يعقوب بن طارق الذي قال عنه
كان مشهورًا بين أهل هذه الصناعة، » : وقال القفطي ،« من أفضل المنجمين » : صاحب الفهرست
ومن بين مؤلفاته في الفلك كتاب: ،« مذكورًا من أفاضلهم وله تصانيف جياد في هذا النوع
أي مستخرج منه. - « الزيج محلول في السند هند »
جمع بين دفتيه المعلومات التي استقاها من « تركيب الفلك » ويبرز من بين كتبه أيضًا كتاب
العلماء الهنود أعضاء السفارة الثانية إلى بلاد العباسين ببغداد عام ١٦١ ه، أي بعد خلافة
المنصور. واعتمادا على بعض المعلومات التي ذكرها البيروني يمكن أن نفترض - كما يقول
نلينو - أن المعين الذي استقى منه يعقوب بن طارق مادة كتابة كان أوسع، ولم يقتصر على
السند هند - وحدها، وإنما شمل عددًا من الآثار الأخرى، مما يدل على - « براهماغوبتا » رسالة
أنه كان أوسع من الفزاري معرفة بكتب الهند وأكثر اطلاعًا على أخبارهم.
ومع أن كتبًا هندية أخرى في علم الفلك ُترجمت في بغداد في مطلع العصر العباسي مثل
فإنها لم تنل عند ،« الأرجبهر » وهو عبارة عن زيج صغير)، وكتاب ) Arkand « الأركند » كتاب
الذي عني به الفزاري، فلم يزل أساس لأزياج العرب « السند هند » العرب شهرة مثلما ناله كتاب
- والعمل به، وبقي سائدًا سيادة مطلقة حوالي الخمسين عامًا إلى ابتداء عصر المأمون ( ١٩٨
.« المجسطي لبطليموس » ٢١٨ ه)، حيث بدأ المذهب اليوناني يزاحمه بترجمة كتاب
غير أنه لا يمكن القول بأنه قد اختفى العمل بالسند هند مرة واحدة بأجمعه - أي بعد ترجمة
كتب اليونان - وإنما اتبع مذهبه عدد من علماء الفلك في بغداد، وعنوا بإصلاحه وتهذيبه
والإضافة إليه، ففي أيام المأمون وضع محمد بن موسى الخوارزمي (القائم على خزانة بيت
المسمى (السند هند الصغير)، وقد اعتمد فيه على النظام الهندي، إلا « زيجه » ( الحكمة في بغداد
أنه غير بعض المسائل لتتفق مع مذاهب الفرس واليونان، وأضاف إليه أبوابًا حسنة.
٣ كتاب المجسطي لبطليموس:
وكان أهم كتاب اعتمد عليه العرب والمسلمون في بداية نهضتهم العلمية في علم الفلك هو
لبطليموس القلوذي، بل ربما كان هذا الكتاب هو الكتاب الوحيد الذي دارت « المجسطي » كتاب
من حوله جميع البحوث الفلكية، واستقى منه كل الفلكيين في العصور الوسطى.
وهذا الكتاب هو أهم ما خّلفته حضارة الإغريق في علم الفلك، ذلك أن مؤلفه انتهت إليه علم
حركات النجوم ومعرفة أسرار الفلك، وعنده اجتمع ما كان متفرقًا من هذه الصناعة بأيدي
اليونانيين والروم وغيرهم، وبه انتظم شتاتها وتجلى غامضها. ولا يعرف كتاب أُلف في علم من
العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب:
أحدها كتاب المجسطي في علم هيئة الفلك وحركات النجوم. والثاني: كتاب أرسطوطاليس في
علم صناعة المنطق. والثالث: كتاب سيبويه البصري في علم النحو العربي.
وأول من عني بتفسيره » : إلى العربية عدة مرات، يقول ابن النديم « المجسطي » وقد ترجم
وإخراجه إلى العربية: يحيى بن خالد بن برمك (ت ١٩١ ه)، ففسره له جماعة فلم يتقنوه ولم
يرض ذلك، فندب لتفسيره أبا حسان وسلم صاحب بيت الحكمة - ببغداد - فأتقناه، واجتهدا في
.« تصحيحه بعد أن أحضرا النقلة المجودين، فاختبرا نقلهم، وأخذا بأفصحه وأصحه
ولم يقف الجهد عند هذا الحد؛ فقد شارك في ترجمة المجسطي عميد المترجمين في بغداد:
حنين بن إسحق العبادي (ت ٢٦٠ ه)، وقام بمراجعة هذه الترجمة عالم الفلك الشهير في
عصره: ثابت بن قرة الحراني (ت ٢٨٨ ه).

٤- كتاب أوقليدس في علم الهندسة:
أو ،« الأصول الهندسية » وترجمته بالعربية .(Stroicheia) « الاسطروشيا » واسمه باليونانية
وهذا الكتاب أهم الكتب المترجمة عن اليونان في علم الرياضيات، وصفه .« الأركان الهندسية »
كتاب جليل القدر، عظيم النفع، أصل في هذا النوع، لم يكن لليونان قبله كتاب » : القفطي بقوله
جامع في هذا الشأن، ولا جاء بعده إلى من دار حوله وقال قوله. وقد عني به جماعة من
رياض  ي يونان والروم والإسلام، فمن بين شارح له، ومشكل عليه، ومخرج لفوائده. وما في
.« القوم إلا من سّلم إلى فضله، وشهد بغزير نبله
ويحتوى كتاب أوقليدس على قرابة ( ٤٦٥ ) نظرية تقع في خمس عشرة مقالة، وقد ُنقل إلى
اللغة العربية عدة مرات. وكان أشهر المترجمين له:
أ - الحجاج بن يوسف بن مطر الكوفي نزيل بغداد (ت في حدود عام ٢٢٠ ه)، ترجمه
والثانية في عصر المأمون، ،« الهاروني » مرتين، الأولى في عصر هارون الرشيد، وتسمى
والترجمة الثانية هي التي كانت معتمدة كما يقول ابن النديم. .« المأموني » وتسمى
ب - شيخ المترجمين في بغداد: حنين بن إسحق العبادي (ت ٢٦٠ ه) والنسخة التي
ترجمها هذا العالم قام بمراجعتها تلميذه ثابت بن قرة الحراني (ت ٢٨٨ ه) وهو أحد كبار
المترجمين في بيت الحكمة ببغداد.
٦- شروح علماء بغداد لكتاب أوقليدس في الهندسة:
في علم « أوقليدس » كانت الخطوة الأولى التي أخذها العلماء في بغداد هي ترجمة كتاب
كما يقول ابن « هو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق » إذ « بالأصول الهندسية » الهندسة المسمى
خلدون، وهو البوابة العظمى التي دخل منها العقل الإسلامي إلى عالم الهندسة.
وقد أعطى علماء العرب والمسلمين هذا الكتاب اهتمامًا واسعًا، فكتبوا عليه شروحًا كثيرة،
واختصروه مرات عديدة، وصنفوا كتبًا على نسقه، وأدخلوا فيها قضايا وبحوثًا جديدة لم يتناولها
أوقليدس أو غيره من القدماء. ويمكن القول:لم يعد ثمة فيلسوف أو رياضي يمضي دون أن
يضيف رسالة أو أكثر حول ناحية أو أخرى من هندسة أوقليدس، فكثرت شروح (أصول
الهندسة) والتعليقات عليه ومناقشاته، وأيضًا مختصراته.
وقد اعتمد علماء بغداد في مجال الصيدلة على معارف اليونان أيضًا، ونقلت هذه المعارف
.« ديسقوريدس » و « جالينوس » إلى اللغة العربية عن طريق الترجمات السريانية للكتب التي أّلفها
ويقع في سبع ،« تركيب الأدوية » ومن أهم الكتب التي صنفها جالينوس وُنقلت إلى العربية: كتاب
في إحدى عشرة مقالة، وهو « الأدوية المفردة » عشرة مقالة، وترجمه حبيش بن الأعسم، وكتاب
الذي ترجمه عيسى بن يحيى، وهو « الأدوية المقابلة للأدواء » كتاب ذو أهمية كبيرة، وكتاب
تلميذ حنين بن إسحق (ت ٢٦٠ ه) أبرز المترجمين في بغداد.
أو دياسقوريدوس - الحكيم اليوناني الذي عاش في الدور الأول أو « ديسقوريلس » ويعد
الثاني من التاريخ المسيحي، ولا يعرف وقته تمامًا - أعلم من تكلم من اليونانيين في علم
٣٦٥ ق.م)، - بالشام، وجاء بعد أبقراط ( ٤٦٠ « عين زربة » العقاقير المفردة، وهو من أهل
الخمس » أو « هيولى علم الطب » أو « الحشائش » الملقب بكتاب « الأدوية المفردة » وصّنف كتاب
تصفحت أربعة عشر مصحفًا (أي كتابًا) في » : وهذا الكتاب أثنى عليه جالينوس بقوله ،« مقالات
وترجع أهميته في أنه .« الأدوية المفردة لأقوام شتى، فما رأيت فيها أتم من كتاب ديسقوريدس
يشتمل على ما يربو على ستمائة عشب، وعدد من الأدوية المعدنية والزيوت والأدهان ذات
الفائدة الطبية، كما أنه يتميز بالوصف الدقيق للمواد الطبية وصفًا يدل على قوة ملاحظة غير
عادية، إضافة إلى أن مؤلفه جمع فيه كل ما ورد في مؤلفات من سبقوه من الأطباء في هذا
الباب، ومن هنا كان هذا الكتاب أهم مصدر للصيدلة الإسلامية، والمرجع الأول في موضوعه،
وما من طبيب ذي قدر إلا ودرسه درسًا مطو ً لا وعلق عليه منذ جالينوس إلى ابن سينا
٤٢٨ ه) وداود الأنطاكي ( ١٠٠٨ ه). )
وقد ُترجم كتاب ديسقوريدس من اليونانية إلى اللغة العربية بمدينة السلام في أيام الخليفة
٢٤٧ ه)، ومترجمه هو: اصطفن بن بسيل الترجمان، وقام عميد المترجمين - المتوكل ( ٢٣٢
حنين بن إسحق العبادي (ت ٢٦٠ ه) بتصحيح هذه الترجمة وإجازتها.

الفصل السابع
علماء الحضارة العربية الإسلامية وإنجازاتهم
ابن سينا :
أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا البلخي البخاري.
ولد عام ٣٧٠ ه = ٩٨٠ م في أفشنة، وهي قرية مشهورة من قرى بخارى، توفي في همذان
عام ٤٢٨ ه = ١٠٣٧ م، ولا يزال قبره فيها حتى اليوم.
ومما يدل على عبقرية ابن سينا النقاط التالية:
- حفظه للقرآن وإجادته للغة العربية في سن العاشرة.
- نبوغه وإتقانه للطب والفلسفة والكيمياء والموسيقى في سن السادسة عشرة.
- تفوقه على أستاذه في الطب (أبي سهل المصيبي) ولم يكن قد بلغ سن العشرين.
- بدؤه التأليف في الواحدة والعشرين من العمر.
ثم أتيحت له فرصة ذهبية عندما اسُتدعي لمعالجة سلطان بخارى، حيث وضع السلطان مكتبته
تحت تصرفه لكي ينهل من علومها ما يشاء.
ونال ابن سينا في حياته وبعد موته شهرة لم ينلها طبيب غيره، ولذلك كثرة ألقابه التي ُلقب بها،
فعرف بالشيخ الرئيس، والمعلم الثالث بعد أرسطو والفارابي، ومصدر التأسيس، وشرف الملك،
وحجة الحق، والدستور، وأرسطو الإسلام وأبقراطه، والحكيم الوزير، وفيلسوف الدهر.
وأهميته هذه في الفكر الإنساني جعلت الجنسيات المختلفة تتجاذب شخصيته، فالفرس عدوه
فارسيًا، والأتراك عدوه تركيًا، والعرب عدوه عربيًا، ومهما يكن فإن ابن سينا هو محصلة ثقافة
إسلامية وعلم إسلامي نهل من معينه وأبدع.
وهو من أشهر أعلام التاريخ، وإنجازاته تتصف بالعالمية، وهنا سنذكر أبرزها، وفيما
يختص به هذا الكتاب، لأن الحديث عن معظمها يحتاج مّنا إلى مجلدات.
فمن يبحث في كتب ابن سينا الكثيرة والمتنوعة؛ يجد أنه قد عرف الكثير من الأمراض،
ومن ذلك اكتشافه لمرض السكري، وذكر من هذا المرض وصفه، وأعراضه، ومما قال في
فصل في ديابيطس: ديابيطس هو أن يخرج الماء كما يشرب في زمان قصير، ونسبة هذا » : ذلك
المرض إلى المشروب وإلى أعضائه نسبة زلق المعدة والأمعاء إلى المطعومات... وصاحبه
ثم يوجهنا إلى ،« يعطش فيشرب ولا يروى، بل يبول كما يشرب غير قادر على الحبس البتة
أكثر علاجه بالتبريد والترطيب بالبقول و الفواكه والربوب » : بعض علاجات هذا المرض قائ ً لا
.« الباردة مما لا يدر مثل الخس والخشخاش
تحدث ابن سينا عن علم الجنين، إذ بين في كتابه القانون في الطب، و تحت عنوان
روائع تفصيلية في كيفية تشكل أعضاء الجنين في بطن أمه، وهذه « فصل في تولد الجنين »
إذا اشتملت الرحم على المني، فإن أول الأحوال أن » : بعض التفاصيل السريعة من قانونه، يقول
تحدث هناك زبدية المني، وهو من فعل القوة المصورة، والحقيقة من حال تلك الزبدية، تحريك
من القوة المصورة لما كان في المني من الروح النفساني، والطبيعي والحيواني إلى معدن كل
واحد منها، ليستقر فيه، ويتخلق ذلك العضو منه على الوجه الذي أوضحناه وبيناه في كتب
الأصول، ولذلك يوجد النفخ كله يندفع إلى وسط الرطوبة إعدادًا لمكان القلب، ثم يكون على
جانبه الأيمن وجانبه الأعلى نفخان كالمتسعين منه يماسانه إلى حين، ثم يتنحيان عنه ويتميزان،
ويصير الأول علقة للقلب، والأيمن علقة للكبد، ويمتلئ الآخر من دم إلى بياض، وينفذ إلى ظاهر
الرطوبة المبثوثة نفذ نفخ ريحي يثقبه، لينال منه المدد من الرحم من الروح والدم، وتتخلق
السرة، وأول ما تتخلق السرة تتبين، إلا أن نفخات القلب، والكبد، والدماغ، تتقدم خلق السرة،
وإن كان استمام هذه الثلاثة يتأخر عن استمام جوهر السرة، وهذا شيء قد حققناه وبينا الخلاف
فيه في كتب الأصول من العلم الطبيعي.
وكما يستقر المني ويزبد وينفذ الزبد على الغور نفخًا للقلب، يتولد غشاء من حركة مني
الأنثى إلى مني الذكر، ويكون متبرئاً، ثم لا يتعلق من الرحم إلا بالنقر لجذب الغذاء، وإنما
يغتذي الجنين بهذا الغشاء ما دام الغشاء رقيقًا فيها، فكانت الحاجة إلى قليل من الغذاء، وأما إذا
صلب فيكون الاغتذاء بما تولد في مسامه من المنافذ الواضحة العرقية، ثم ينقسم بعد مدة أغشية.
والحق أن أول عضو يتكون هو القلب... هذا والحال الأخرى ظهور النقطة الدموية في
الصفاق، وامتدادها في الصفاق امتداد ما، وفي هذه الحال تكون النفاخات قد استحال الرغوي
منها إلى دموية ما، واستحالت السرة إلى هيئة السرة استحالة محسوسة، وثالث الأحوال استحالة
المني إلى العلقة وبعدها استحالة إلى المضغة، وهناك تكون الأعضاء الرئيسة قد ظهر لها
انفصال محسوس، وقدر محسوس، وبعدها استحالته إلى أن يتم تكون القلب، والأعضاء الأولى
ويبتدئ تنحي الأعضاء بعضها عن بعض، وتليها الوشائج العلوية، وتكون الأطراف قد
تخططت، ولم تنفصل تمام الانفصال وأوعيتها، ثم إلى أن تتكون الأطراف، ولكل استحالة أو
استحالتين مدة موقوف عليها، وليس ذلك مما لا يختلف، ومع ذلك فإنها تختلف في الذكران
.« … والإناث من الأجنة، وهي في الإناث أبطأ
ومن الأمور الطبية التي عرفها ابن سينا؛ التشريح، إذ ذكره بمواضع كثيرة من قانونه مما
يدل على ممارسته للتشريح، إذ أنه يشرح الأجزاء الدقيقة في أعضاء جسم الإنسان عضوًا
عضوًا
كما خصص ابن سينا فص ً لا كام ً لا عن قضية العشق، فوصف طريقته المشهورة في
تشخيص العاشق وعلاجه، وهي تشبه ما نسميه اليوم بجهاز كشف الكذب، يقول ابن سينا في
ويتغير نبضه وحاله عند ذكر المعشوق خاصة، وعند لقائه بغتة، ويمكن من ذلك أن » : ذلك
يستدل على المعشوق أنه هو إذا لم يعترف به، فإن معرفة معشوق أحد تسهل علاجه، والحيلة
في ذلك أن يذكر أسماء كثيرة تعاد مرارًا، وتكون اليد على نبضه، فإذا اختلف بذلك اختلافًا
عظيمًا، وصار شبه المنقطع ثم عاود، وجربت ذلك مرارًا علمت أنه اسم المعشوق، ثم يذكر
كذلك السكك والمساكن والحرف والصناعات والنسب والبلدان، وتضيف ك ً لا منها إلى اسم
المعشوق، ويحفظ النبض حتى إذا كان يتغير عند ذكر شيء واحد مرارًا جمعت من ذلك خواص
معشوقه من الاسم والمحلة والحرفة وعرفته، فإنا قد جربنا هذا واستخرجنا به ما كان في
الوقوف عليه منفعة، ثم إن لم تجد علاجًا إلا تدبير الجمع بينهما على وجه يحله الدين والشريعة
.« فعلت
كما كان لابن سينا الأسبقية في إبداع الطب النفسي، وقد سبق بذلك العالم النمساوي
الشهير سيغموند فرويد بالعلاج بطريقة التحليل النفسي، وقد نسب العلماء إبداع الطب النفسي
خطأً لفرويد بدل ابن سينا.
إن إسهامات أخرى (لابن سينا) كالمعالجة النفسية البدنية بما فيها » : يقول خوان فيرنيت
النفسانية لحالات معينة، لقيت من طيب الاستقبال ما جعل (السينوية) الطبية تسود في الجامعات
.« الأوروبية حتى نهاية القرن السادس عشر
،« القانون في الطب » فابن سينا تناول بشكل واضح هذه المسألة في كتابه الشهير
وخصص فص ً لا كاملاً عن قضية العشق، فوصف طريقته المشهورة في تشخيص العاشق
وعلاجه، وهي تشبه ما نسميه اليوم بجهاز كشف الكذب كما مر معنا قبل أسطر.
وتؤكد المستشرقة الألمانية هونكه على ذلك، إذ تقول أن المسلمين هم الذين أبدعوا
لذلك طالب ابن » : المعالجة النفسية التي مثلت دورًا مهمًا في مداواتهم الآلام الجسدية، ثم تقول
سينا بضم الوسائل النفسية إلى التداوي بالعقاقير لزيادة مفعولها، وإزالة الخوف عن المريض
قائ ً لا: ( علينا أن نعلم أن أحسن العلاجات وأنجعها هي العلاجات التي تقوم على تقوية المريض
النفسانية والروحية، وتشجيعه ليحسن مكافحة المرض، وتجميل محيطه... وجمعه بالناس الذين
.(« يحبهم
لقد بادر ريمون، مطرا  ن طليطلة، إلى ترجمة كتاب ابن سينا في » : يقول جاك ريسلر
النفس، إلى اللاتينية، ومعه، صارت طليطلة في القرن الثالث عشر ملقى العقول الغربية الكبرى:
ادلار دي باث، هرمان الدلمطي، روير دي رتين، كانوا كلهم متعطشين للمعرفة وكانوا قد
.« جاؤوها بحثًا في إسبانيا المسلمة عما كان مفقودًا لديهم
« الفصول » وترك لنا ابن سينا أيضًا مقالة كشاهد عيان على تمرسه بالطب النفسي وهي
وتتحدث عن الطب النفسي، وبالتالي عرف ابن سينا الاضطرابات العصبية ودرسها، وعرف
بعض الحقائق النفسية والمرضية عن طريق التحليل النفسي، وكان يرى أن في العوامل النفسية
والعقلية، كالحزن والخوف والقلق والفرح وغيرها تأثيرًا كبيرًا على أعضاء الجسم ووظائفه،
ولهذا لجأ إلى الأساليب النفسية في معالجة مرضاه.
كما أشار ابن سينا إلى دور الذاكرة المختزنة في العقل الباطن والمخيلة التي تعالج ذلك،
ليكون الحلم في النهاية تحقيق رغبة قديمة أو حديثة، وقد ظهرت هذه النظرة التحليلية العميقة
للأحلام بعد أكثر من تسعة قرون في كتاب ( تفسير الأحلام ) لعالم النفس الشهير سيغموند
فرويد، الذي  عد رائد مدرسة التحليل النفسي، ومؤسس مدرسة علم النفس الحديث.
وتكثر إنجازات هذا العالم الفذ، والتي كان معظمها أصول الطب الحديث اليوم، ونتابع
نحن أيضًا ذكر أكثرها من غير ملل ولا سآمة، ومن ذلك:
سار ابن سينا في تشخيص المرض ومعالجته لمرضاه على الطريقة الحديثة المتبعة الآن،
وهي الاستدلال بالبول والبراز والنبض.
هو أول من وصف الالتهاب السحائي.
هو أول من ف  رق بين الشلل الناتج عن سبب داخلي في الدماغ والناتج عن سبب خارجي.
وصف السكتة الدماغية الناتجة عن كثرة الدم، فخالف بذلك الوصف اليوناني السائد آنذاك.
ش ّ خص بدقة حصر المثانة السريرية حتى قال أحد المختصين بأنه يصعب علينا في هذه
الأيام أن نضيف شيئًا جديدًا إلى وصف ابن سينا لأعراض حصر المثانة السريرية.
هو أول من أشار ضمنًا إلى وجود البكتيريا والجراثيم حين قال بوجود حيوانات دقيقة لا
ترى بالعين، يتناولها الإنسان مع الماء دون أن يشعر بها، وهي التي تسبب بعض الأمراض.
هو أول من ف  رق بين اليرقان الناشئ عن انحلال الكريات الدموية واليرقان الناشئ عن
انسداد القنوات الصفراوية.
هو أول من اكتشف مرض السل الرئوي، وأشار إلى أنه ينتقل بالعدوى.
ش ّ خص كثيرًا من الأمراض الجلدية.
هو أول طبيب قام بحقن الدواء بالإبر تحت الجلد.
وصف بالتفصيل الأمراض التناسلية، ولا سيما الأمراض النسائية كالعقم وانسداد المهبل،
والإسقاط، وممارسة التوليد، والبواسير والتعليل السليم للذكورة والأنوثة في الجنين، ونسبتها إلى
الرجل دون المرأة.
درس لمدة طويلة سبب تعفن الرحم وعلاجه، وأدرك أن الحمى التي تنتاب النفساء أحيانًا
قد يكون سببها حدوث تعفن الرحم.
رائد » إلى علم التجميل، مما جعل العلماء يسمونه « القانون في الطب » تطرق في كتابه
.« التجميل الإسلامي
انتبه إلى أهمية الرياضة للسلامة البدنية والنفسية.
كان يرى أن أفضل مياه للشرب هي مياه العيون والينابيع.
هو أول من استخدم أكياس الثلج كنوع من الكمادات في معالجة الحميات.
استخدم التخدير عن طريق الفم.
أدرك أهمية الرضاعة الطبيعية بالنسبة للأم وطفلها معًا، وأوصى بوجوب تعيين مرضع
للطفل في حال عدم وجود لبن كاف في صدر الأم.
استخدم طريقة تداعي الأفكار لمعالجة الأمراض النفسية.
أدخل العقاقير عن طريق مجري البول.
اختبر مدى قوة العقار بالتجربة عن طريق الشرج، ويقال إنه أول من استخدم الحقنة
الشرجية.
هو أول من قال بالعدوى وانتقال الأمراض المعدية عن طريق الماء والتراب، وخاصة
مرض السل.
هو أول من ذكر ألم العصب ذي الثلاث شعب.
أول من أشار إلى تلف العصب البصري وأثره في فقدان البصر.
بحث ابن سينا في فيزيولوجيا النوم، وذكر العوامل المؤثرة في نشوء الأحلام؛ الفيزيائية
منها كالبرد و الحر، وغير ذلك من الظروف المحيطة بالنائم، والعضوية كالجوع والعطش
والمرض.
أصر على أن دور الحالة المعنوية للمريض هام في شفائه، وركز على أهمية دور
وينبغي للطبيب أن يكون دائمًا مبشرًا بالصحة، » : المريض في هذا المجال، ومما قاله في ذلك
.« فإن للعوارض النفسانية تأثيرات عظيمة
هو أول من اكتشف وصف تركيب العين الداخلية، وهو أول من قال إن مركز البصر هو
في العصب البصري، وليس في الجسم البلوري للعين كما كان يعتقد من سبقوه، وكشف
عضلات العين الداخلية.
يعد ابن سينا من أعلام المسلمين الذين سبقوا إلى وضع أصول المنهج التجريبي وقواعد
» البحث في العلوم الطبيعية، وقد امتدت أفكاره العلمية من الشرق إلى الغرب، وكان كتابه
من أوائل الكتب التي ُنقلت إلى اللاتينية، وما إن ترجم هذا الكتاب حتى تلقفته الأيدي « الشفاء
بمختلف العواصم الأوروبية، وبلغت النسخ المتداولة من بعض أجزائه نحو الخمسين نسخة،
وكان لهذا التداول شأنه في إثارة حركة فكرية بلغت مداها في القرن الثالث عشر، حتى لقد
وصل الأمر ببعض مؤرخي الفلسفة المدرسية على أن قالوا بوجود مذهب سينوي لاتيني إلى
جانب مذهب ابن رشد اللاتيني.
آثار عميقة في الحياة « القانون » لابن سينا، ولكتابه « الشفاء » كانت ترجمة كتاب
الفكرية اللاتينية، فبعثت هذه الكتب آراء ونظريات علمية ساهمت بدون أدنى شك في النهضة
الأوروبية الحديثة، فكان لآراء ابن سينا وزن كبير عند مفكري الغرب، أمثال ألبير الأكبر،
وروجر بيكون وغيرهم.
وكل أفكار ابن سينا في كتبه هذه كانت في ملاحظة صادقة وتجربة منظمة، وكثيرًا ما
استشهد فيها على الرأي الذي يرتئيه بتجاربه الخاصة وملاحظاته الشخصية، وفي اختباره
للأدوية وتشخيصه للدواء يضع طائفة من القواعد التي لابد أن يكون قد أفاد منها المنهج
التجريبي الحديث.
فعنده أن الدواء يجب أن يختبر في الأمراض المتعارضة، وأن تثبت صلاحيته في حالات
عدة، وأن يختلف كمه ونوعه تبعًا لشدة المرض وضعفه، وأن لا يكتفى بتطبيقه على الحيوان بل
يجرب في الإنسان.
وفي تشخيص الداء ينبغي أن يستعان بأماراته وأعراضه المختلفة، مع ملاحظة أن من
بينها ما هو ظاهري وحقيقي، وما هو مؤقت ودائم، وما يدل على نوع المرض، أو على منشئه،
وللمس والسمع والبصر والشم والذوق دخل كبير في الكشف عن هذه الأعراض، فمن هذه
التجارب الطبية نشأت نزعته التجريبية العامة التي تبدو واضحة في بحوثه الطبيعية.
ونأتي الآن إلى ذكر أهم كتاب لابن سينا التي وردت فيها الإنجازات المتقدمة:
وكان تأثير أفكار ابن » : القانون في الطب: يقول خوان فيرنيت عن أثر هذا الكتاب
سينا الأساسية في تعاظم مستمر، وقد عرفت من خلال كتابه (القانون في الطب)، الذي ترجمه
جيرارود الكريموني في القرن الثاني عشر الميلادي = السادس الهجري، و(الأرجوزة في
الطب) التي ترجمها وفق شرح ابن رشيد أرمنكاود دي بلاسي – طبيب كل من خايمة الثاني
وقد امتد تأثير هذه ،Avicennae cantica ملك آراكون وكليمنته الخامس – تحت عنوان
الأعمال طوال قرون عدة، وظهرت انعكاساتها في مذاهب كثير من الأطباء اللاحقين، ومنهم –
على سبيل المثال – الدروتي وبراندون وبيرينكاريو داكاريي، وإدواردز وأوستاشي... وفي
.« كتاب اليهودي الغرناطي موسى هامون، طبيب السلطان سليمان العظيم القانوني
ولذلك اشتهر هذا الكتاب كثيرًا ولا يزال، وامتاز بالدقة والتنظيم، وإحكام الترتيب وحسن
التبويب، ق  سمه ابن سينا إلى خمسة أجزاء مقسمة إلى أبواب، والأبواب مقسمة إلى مقالات،
والمقالات مقسمة إلى فصول، وعالج فيه المواضيع التالية:
في الجزء الأول أفاض في الحديث عن حدود الطب، وموضوعاته وأركانه والأمزجة
والأخلاط، وماهية الأعضاء وأقسامها، والعظام والعضلات، وتصنيف الأمراض وأسبابها،
والطرائق العامة للعلاج.
وفي الجزء الثاني تحدث عن المفردات الطبية، فدرس ماهية الدواء وصفاته، ومفعوله
على كل عضو من أعضاء الجسم، ثم سرد هذه المفردات بترتيب أبجدي.
خصص الجزء الثالث لأمراض كل جزء من أجزاء الجسد، وتناول في الجزء الرابع
الأمراض التي تقتصر على عضو واحد كالحميات، وعرض للأورام والبثور والجذام والكسور
والجبر.
خصص الجزء الخامس والأخير لدراسة تركيب الأدوية.
وقد انتشر هذا الكتاب في جامعات أوروبا، وأقر الكثير من أطباءها بأن الطب كان ناقصًا
حتى أتمه ابن سينا، وقد تمت ترجمته باللغة اللاتينية منذ القرن الثاني عشر للميلاد = السادس
للهجرة على يد جيرار الكريموني الذي عرف بأبي الترجمة والمترجمين، وقد أشار إلى قصته
لقد قضيت نحوًا من نصف قرن في تعلم اللغة العربية، والتوفر على » : مع هذا الكتاب فقال
ترجمة نفائس المكتبة العربية، وكان قانون الشيخ الرئيس أعظم كتاب، وأعظم كتاب لاقيت في
.« نقله مشقة وعناء، وبذلت جهدًا جبارًا
ثم ترجم القانون (ألباجوس) إلى اللاتينية في القرن الثالث عشر للميلاد= السابع للهجرة،
كما ُترجم إلى اللغة العبرية خلال هذا القرن أيضًا في عام ١٢٧٩ م = ٦٧٨ ه.
وبعد اختراع المطبعة كان هذا الكتاب هو الكتاب الثاني في تاريخ طبعه بعد الكتاب
المقدس ( التوراة والإنجيل)، حيث تم طبعه في عام ١٤٧٣ م = ٨٧٨ ه، أي قبل انقضاء ربع
قرن على اختراع الطباعة، وتم في خلال القرنين من الزمان ( ١٤٧٣ ١٦٦٥ م =
٨٧٨ ١٠٧٦ ه) طبع هذا الكتاب أكثر من ثلاثين مرة باللغة اللاتينية ناهيك عن اللغات
الأوروبية الأخرى.
ويدلل لوسيان لوكليرك أحد أهم مؤرخي علم الطب في العصر الحديث على أهمية قانون
إن الشرق لم ينقطع عن دراسة هذا الكتاب وشرحه كليًا » : ابن سينا على الشرق والغرب بقوله
أو جزئيًا، والغرب اتخذه أساساً لتعليم الطب خلال عدة قرون وذلك بعد ترجمته إلى اللغة
.« اللاتينية
ثانيًا جابر بن حيان:
جابر بن حيان بن عبد الله الكوفي الأزدي. ولد في مدينة طوس بخراسان، حيث نزح والده إلى
هناك، وهناك من يقول بالأدلة أنه عربي الأصل من قبيلة الأزد العربية التي قطنت جنوبي شبه
الجزيرة العربية.
عاش أبوه في الكوفة في أواخر عصر بني أمية حيث كان يعمل صيدليًا، ثم انتقل إلى طوس
كما ذكرنا و  ولد له جابر هناك، وكان من المخلصين للدعوة العباسية، لذلك قتله الأمويون،
فعادت عائلته من جديد إلى أراضيها الأزدية، وهناك ترعرع جابر.
ولما تولى العباسيون الخلافة سنة ١٣٢ ه= ٧٤٩ م، رجع جابر بن حيان إلى الكوفة،
وانخرط في حلقات التعليم التي كان يعقدها جعفر الصادق، ثم اتصل به ولازمه، ودرس على
يديه بعض علوم الفقه والدين، إلا أنه تميز في الكيمياء وحّلق في سمائها.
عاش جابر في بلاط هارون الرشيد، واتصل بالبرامكة عن قرب، وخاصة يحيى البرمكي وابنيه
الفضل وجعفر.
عاش جابر تقريبًا في الفترة ما بين ١٠١ ٢٠٠ ه= ٧٣٧ ٨١٣ م.
هو مؤسس الكيمياء الحديثة، مع أنه عاش في القرن الثاني الهجري = الثامن الميلادي،
هذا ما اعترف به علماء الغرب.
إن جابرًا بن حيان من أعظم الذين برزوا في » : يقول المؤرخ العالمي جورج سارتون
إن جابرًا من أكبر العلماء في القرون » : ويقول ليكلرك ،« ميدان العلم في القرون الوسطى
.« الوسطى، وأعظم علماء عصره
فلهذا العالم إبداعات ُتذهل العقول، فقد توصل إلى إبداع مداد مضيء اسُتخدم في كتابة
المخطوطات الثمينة لإمكان قراءتها في الظلام، واستخدم لأجل ذلك المرقيشيا الذهبية (بيريت
الحديد، أو كبريتد النحاس)، واستخدمه بدل الذهب الغالي الثمن.
لقد كان جابر يلجأ إلى الأواني: يضع بعضها على النار، ويخلط في بعضها الآخر
مختلف المواد بعد وزن كل مادة منها في ميزان، وإذا احتاج الأمر إلى سحق بعض هذه المواد
فيسحقها في هاون من الذهب الخالص والذي لا يزن أقل من مائتي رطل.
ونقل جابر علم الكيمياء من مجاهل الخرافات إلى حقائق العلم التجريبي في
المختبرات.
هو أول عالم في العالم على وجه الإطلاق استعمل الميزان في تجاربه العلمية إذ اهتم
بوزن المقادير التي يستخدمها، وأصغر الأوزان التي استعملها الحبة، وهي تساوي جزءًا من
٦٤٨٠ جزءًا من الرطل، وهذا المقدار لا يمكن وزنه إلا بميزان حساس يقارب ما نستعمله
حاليًا، وقد استعمل علماء الكيمياء في أوروبا الميزان في تجاربهم بعد استعمال جابر للميزان
بأكثر من ستمائة سنة.
فحص جابر ما خّلفه الأقدمون، فخالف أرسطو في نظريته عن تكوين الفلزات، ورأى
أنها لا تساعد على تفسير بعض التجارب، فعدل هذه النظرية وجعلها أكثر ملائم ً ة للحقائق
العلمية، وخرج من هذا التعديل بنظرية جديدة عن تكوين الفلزات، وظلت هذه النظرية معمو ً لا
بها حتى القرن الثامن عشر الميلادي = الثاني عشر الهجري.
هو أول من استحضر حامض النتريك بتقطيره من الشبة، وسماه زيت الزاج، كما
استخرج حامض النتريك.
هو أول من كشف الصودا الكاوية.
هو أول من أدخل طريقة فصل الذهب عن الفضة بواسطة الحامض.
هو أول من قام بأول محاولة من نوعها في العالم تهدف إلى تحقيق الأمل الذي كان
يراود علماء الكيمياء حتى الآن، ألا وهي تحضير الذهب من مواد أولية، وقد تمكن من تحضير
معدن من لون أصفر ب  راق يتعذر التمييز بينه وبين الذهب، وليس أدل على متانة أخلاقه وما
يتصف به من عدم حب الذات أو الأنانية وبيان رغبته الشديدة في نشر العلم من أنه وّثق هذه
وشرح دقائقها وتفاصيلها. « الخواص » التجربة في كتابه
هو أول من لاحظ أن ما يحدث من رواسب كلورور الفضة عند إضافة محلول ملح
الطعام إلى محلول نترات الفضة.
ح  ضر مركبات كثيرة لكربونات البوتاسيوم، وكربونات الصوديوم، واستعمل ثاني
أكسيد المنغنيز في صنع الزجاج، ودرس خصائص الزئبق واستحضرها، واستعمل بعضها فيما
بعد في تحضير الأوكسجين، ولا يخفى على أحد أن هذه المركبات ذات أهمية كبيرة في عالم
الصناعة، فبعضها يستعمل في صنع المفرقعات والأصباغ، وبعضها الآخر في السماد الصناعي
والصابون والحرير الصناعي.
ولعل أروع ما ُ كتب في ،« السموم ودفع مضارها » بحث في السموم، وله فيها كتاب
هذا الموضوع أن جابرًا بن حيان سار في معالجة بحوث هذا الكتاب على الطريقة العلمية، فأتى
فيه على أسرار وأقوال الفلاسفة اليونان في السموم وأفعالها، ثم ضمنه آراء جديدة وتقسيمات
لأنواع السموم وأدويتها وتأثيرها وأفعالها في الأجسام.
قام جابر بالكثير من العمليات المخبرية، كالتبخير والتكليس والتصعيد والتقطير
والتكثيف والترشيح والإذابة والصهر والبلورة، وح  ضر عددًا كبيرًا من المواد الكيماوية بالإضافة
إلى التي ذكرناها، مثل أوكسيد الزئبق، وكبريتيد الزئبق، وحامض النتريك، وحامض الأوزيتك،
والماء الملكي الذي يذيب الذهب.
ح  ضر حامض الكبريتيك، و  سمي: زيت الزاج، أو الزيت المذيب، وذلك نسبة إلى
المادة الأولية التي استعملها في تحضيره، وهي الزاج الأزرق (أي كبريتات النحاس).
ح  ضر أبيض الرصاص، أي كاربونات الرصاص.
اكتشف طريقة فحص أيون النحاس فحصًا نوعيًا، فقد عرف أن مركبات النحاس ُتكسب
اللهب لونًا أزرق.
ينسب إليه تحضير الكحول، وحامض الخليك، وحامض الليمون بصورها النقية.
صّنف وشرح أفضل الأجهزة والأدوات المخبرية المهمة، كالمرقد والأفران، وتعديل
الحرارة بحيث تلائم التجربة.
أوجد أصباغ مستخلصة من النباتات لصنع الجلود، ومواد جيدة النوعية للدباغة نفسها.
عمل في حقل الأصباغ الصناعية، وعرف ماهية استعمال الشب في تثبيت الصبغ على
النسيج.
يقال إنه توصل إلى تحضير بعض أنواع الطلاء التي تقي الثياب من البلل وتمنع
الحديد من الصدأ.
استنبط طرقًا صالحة لتحضير الفولاذ وتنقية المعادن.
بحث في المواد المعدنية والنباتية والحيوانية الشائعة، وتعرف على فوائدها في مداواة
بعض الأمراض.
ومن الأبحاث الملفتة التي قال بها جابر وطبق فيها التجارب؛ موضوع الاستنساخ، إذ
كان يؤمن بالتوالد الذاتي، وممن درس هذه القضية الغريبة العالم المصري الدكتور عكاشة
وعندما  سئل: كيف ذلك؟ قال ،« أول من تحدث عن الاستنساخ » : الدالي، حيث قال عن جابر أنه
تحدث جابر عن كيفية إنشاء فأر من خلية توضع في التراب لفترة معينة، ثم يولد من هذا » :
ولجابر بن حيان إنجاز ثان غير مسبوق أيضًا، » : ويتابع الدكتور عكاشة ،« الإنشاء فأرًا كام ً لا
فقد كان أول من لاحظ أن السمكة هي حلقة من حلقات التطور البشري، وقال إن الناس اعتقدت
أنه مجنون عندما أثار هذه المسألة في أحد كتبه، ومؤخرًا بدأ الكلام يتناول إنجاز جابر بن حيان
.« هذا
وأمام كل إبداعات جابر التي ذكرناها، لا بد من منهج دقيق كان يتبعه حتى وصل إلى
إن التأمل غير المفيد والبعد عن الملاحظة لم » الادارة والحضارة العربية الاسلامية 3 هذه الدرجة من الإبداع؛ يقول (هولميارد
نشهدها في عبقرية جابر، الذي كان يفضل العمل داخل المعمل تاركًا مجال الخيال، لقد كانت
وجهات نظره واضحة ومتقنة، وبسبب أبحاثه الدقيقة استحق لقب المؤسس الأول للكيمياء على
.« قواعد سليمة وأسس راسخة
لقد نمت في علم الكيمياء الطريقة التجريبية العلمية، وهي » الادارة والحضارة العربية الاسلامية 3 ويقول (ول ديورانت
أهم أدوات العقل الحديث وأهم مفاخره، ولما أن أعلن روجر بيكون هذه الطريقة إلى أوروبا بعد
أن أعلنها جابر بخمسمائة عام، كان الذي هداه إليها هو النور الذي أضاء له السبيل من عرب
.« الأندلس، وليس هذا الضياء نفسه إلا قبسًا من نور المسلمين في الشرق
إذًا؛ استند جابر في أبحاثه على منهج علمي سليم، مثل منهج الاستنباط والاستقراء معًا،
ولقد تبنى فرنسيس بيكون (ت ١٦٢٦ م = ١٠٣٦ ه) الملاحظة الخارجية التي وجدها في منهج
جابر، بينما كان ديكارت (ت ١٦٥٠ م = ١٠٦٠ ه) ممن احتضن الاستنباط العقلي وحده مقلدًا
بذلك أبا الكيمياء جابر بن حيان، أما جون ديوي (ت ١٩٥٢ م = ١٣٧٢ ه) فقد جمع بين
الملاحظة الخارجية والاستنباط، فهو بهذه الحالة التزم بمنهج عالمنا الكبير جابر بن حيان.
وهذه أمثلة حية من كتب جابر تعكس اتباعه الدقيق للمنهج العلمي:
قد عملته بيدي وعقلي من قبل، وبحثت عنه حتى صح وامتحنته فما » : يقول مث ً لا
.« كذب
الخوارزمي :
محمد بن موسى الخوارزمي ، (عاش في بغداد فيما بين عامي ١٦٤ و ٢٣٥ ه= ٧٨٠
٨٥٠ م). -
وهو إن ُذكر علم الرياضيات اليوم يذكر مقرونًا باسمه دون شعور، عاش في بغداد في عهد
المأمون بن هارون الرشيد، وكان ذا مقام كبير عنده، وأحاطه بضروب الرعاية والعناية، ووّلاه
إدارة بيت الحكمة، وجعله على رأس بعثة إلى الأفغان بقصد البحث والتنقيب.
يعود أصل الخوارزمي إلى خوارزم، ولكن إقامته كانت في بغداد عاصمة الدولة العباسية
حيث اشتهر هناك.
أشهر  علم في الرياضيات، عربيًا وإسلاميًا وعالميًا، وأحد أشهر الرجال العلماء الذين
أنجبهم الإسلام، وهو الذي وضع معظم أسس علوم الرياضيات، والتي سنأتي على ذكر جلها هنا
لا كلها.
في بداية الأمر ابتكر الخوارزمي علم حساب » : يذكر الدكتور علي عبد الله دفاع
.« اللوغاريتمات وعمل لها جداول تعرف باسمه محو ً لا عند الغربيين إلى اللوغاريتمات
للعلم المعروف الآن بهذا الاسم، حيث « الجبر » فالخوارزمي هو أول من استعمل كلمة
إن الرياضيات التي ورثها المسلمون عن اليونان تجعل التقسيم الشرعي للممتلكات بين الأبناء
معقدًا للغاية، إن لم يكن مستحي ً لا، وهذا ما قاد الخوارزمي للبحث عن طرق أدق وأشمل وأكثر
قابلية للتكيف، فابتدع علم الجبر.
في علم يعد من أعظم ما « الجبر والمقابلة » وهو أول من أّلف كتابًا في الجبر وهو
وضع العقل البشري، وعليه اعتمد علماء الحضارة العربية الإسلامية في دراساتهم عن الجبر،
ومنه عرف الغربيون هذا العلم، وقد نشر هذا الكتاب فريدريك روزن، كما نشر ترجمته في لندن
عام ١٨٣١ م = ١٢٤٧ ه، ونشر في سنة ١٩١٥ م = ١٣٣٤ ه كاربنيسكي ترجمة للكتاب
المذكور من ترجمة ألمانية.
فهو إذًا؛ أول من استخدم التعبيرات الجبرية وأول من حلّ معادلات الدرجة الثانية
الجبرية، والجبر تعبير استخدمه الخوارزمي من أجل حلّ المعادلات بعد تكوينها، ومعناه أن
طرفًا من طرفي المعادلة يكمل ويزاد على الآخر وهو الجبر، والأجناس المتجانسة المتساوية في
الطرفين تسقط منها وهو المقابلة، واسم الجبر في جميع لغات العالم مشتق من كلمة الجبر التي
استخدمها الخوارزمي في كتابه.
الخوارزمي ابتكر علم » : قال العالم الغربي (رام لاندو) في حق الخوارزمي وكتابه
الجبر ونقل العدد من صفة البدائية الحسابية لكمية محدودة إلى عنصر ذي علاقة، وحدد لا نهاية
لها من الاحتمالات، ويمكننا القول بأن الخطوة من الحساب إلى الجبر هي في جوهرها الخطوة
من الكينونة إلى الملائمة، ومن العلم الإغريقي الساكن إلى العلم الإسلامي المتحرك الأبدي
.« الرباني
يعود الفضل في تناول الأرقام للخوارزمي عن طريق مؤلفاته وكتبه في الحساب، وقد
أوضح وبين فوائدها ومزاياها، ولا يغيب عن الجميع أن من أكبر المآثر والنعم التي جاء بها
العرب والمسلمون إلى العالم الحساب الهندي، وتهذيبهم الأرقام الهندية المنتشرة بين الناس
والمعروفة عند الغربيين بالأرقام العربية لأنها وصلت إليهم عن طريق العرب في الأندلس،
ويمتاز الخوارزمي عن غيره أنه وضع كتابًا في الحساب كان الأول من نوعه من حيث الترتيب
وبقي هذا الكتاب ،« الغورتمي » والتبويب والمادة، وقد نقله (إدلار باث) إلى اللاتيينة تحت عنوان
مرجعًا لعلماء أوروبا وتجارها ومحاسبيها، والمصدر الذي يعتمدون عليه في بحوثهم الحسابية،
وقد يعجب القارئ إذا علم أن الحساب بقي عدة قرون معروفًا باسم الغورتمي نسبة للخوارزمي.
له الفضل في نقل الأعداد الهندية إلى العرب وعنهم انتقلت إلى أوروبا.
هو أول من استعمل كلمة أصم لتدل على العدد الذي لا جذر له.
استخدم الخوارزمي اصطلاحات فنية خاصة: فسمى المجهول جذرًا ومربعه قوة.
هو أول من طور المحدودة.
استعمل بنجاح الطريقة البيانية لإيجاد الجذر الحقيقي لصورة تقريبية.
عرف الوحدات المستعملة في المساحات، كما تطرق إلى إيجاد مساحات بعض السطوح
المستقيمة الأضلاع والأجسام الدائرة والقطعة والهرم الثلاثي والرباعي والمخروط والكرة، كما
استعمل النسبة التقريبية وقيمتها
إذا أخذنا جميع الحالات بعين الاعتبار فإن » : يقول مؤرخ العلوم العالمي جورج سارتون
.« الخوارزمي أحد أعظم الرياضيين في كل العصور
بأن الخوارزمي هو الأستاذ الكبير في » : وأكد كل من ديفيد سميث ولويس كاربينسكي
عصر بغداد الذهبي، إذ أنه أحد الكتاب المسلمين الأوائل الذين جمعوا الرياضيات الكلاسيكية من
الشرق والغرب، محتفظين بها حتى استفادت منها أوروبا المتيقظة آنذاك، إن لهذا الرجل معرفة
.« كبيرة، ويدين له العالم بمعرفتنا الحالية لعلمي الجبر والحساب
وهو من علماء المسلمين الذين أوجدوا نظرية ذات الحدين، وكانت طريقته تمتاز
بسرعة إيجاد الحل.
وهو « الجبر والمقابلة » : صّنف الخوارزمي كثيرًا من الكتب، في مقدمتها كتاب
المصدر الذي اعتمد عليه العلماء في مشارق الأرض ومغاربها، ومعظم ما أُلف بعده في علم
الجبر كان مستندًا عليه.
وب  سط فيه معارفه جدًا، واستخدم فيه الأرقام « الحساب » : ومن كتبه الهامة أيضًا كتاب
العربية، والنظام العشري، فساعد بذلك على تعرف الناس بها.
وكتاب ،« جداول النجوم وحركتها » وكتاب « كتاب في الجغرافيا » : ومن كتبه الأخرى
زيج » و « الوصايا » و « المعرفة » و « صورة الأرض وجغرافيتها » و « العمل بالإسطرلاب »
كتاب رسم الربع » و « رسالة عن النسبة التقريبية وقيمتها الرياضية » و « الخوارزمي الأول
والمقصود « الرخامة » وكتاب « هيئة الأرض » و كتاب « الجمع والتفريق » و كتاب « المعمور
به رخامة مخططة تساعد على معرفة الوقت عن طريق الشمس.
رابعًا ابن الهيثم : مؤسس علم الضوء والبصريات :
أبو علي الحسن بن الهيثم البصري نسبة لمسقط رأسه البصرة في العراق ، المبدع في علوم
الفيزياء وبخاصة البصريات ، فلقب لذلك ببطليموس الثاني .
نبغ ابن الهيثم إلى جانب البصريات بالفلك والهندسة والفلسفة والمنطق والموسيقى، وأتقن الطب
وصّنف فيه وإن لم يمارسه، كان كثير الترحال في طلب العلم، فزار فارس والأهواز والشام.
لقد دأب ابن الهيثم منذ نعومة أظفاره على طلب العلم من مصادره المختلفة، فعكف على قراءة
كل ما وقع في يده من مؤلفات الهنود والفرس واليونان وقدماء المصريين وغيرهم، حتى أصبح
ذا ثقافة موسوعية شاملة، يدل على ذلك أنه عاش في أواسط القرن الرابع الهجري = العاشر
الميلادي، هذا القرن الذي يعد من أزهى العصور العباسية في الآداب والعلوم، فحركة العلم
كانت ناشطة في جميع حواضر المملكة الإسلامية، بما فيها بغداد والكوفة والبصرة والقاهرة.
كانت هندسة البناء إحدى علامات نبوغه المبكر، فُذكر أن سكان البصرة كانوا يلجئون إليه
ليضع لهم رسوم وتصحيحات بيوتهم الهندسية، وعند حصولهم على مبتغاهم كانوا يعهدون إلى
البّنائين والعمال بأمر تنفيذها وإنجازها.
كان للحسن مجلس علم يزدحم بالتلامذة الوافدين من سائر البلدان، وبينهم أمير من أمراء الشام
ومعه تلميذ آخر كان يتعلم على يديه اسمه مبشر بن فاتك القائد.
توفي سنة ٤٣٠ ه = ١٠٣٨ م.
إن من يدرس علم الفلك العالمي اليوم سيدرك المكانة الكبيرة التي تميز بها ابن الهيثم،
فلا يخلو كتاب فيزيائي ولا موسوعة فيزيائية عن ذكره، لدرجة أن علم البصريات لم يأخذ سمته
العلمية إلا على يديه في مستهل القرن الخامس الهجري = الحادي عشر الميلادي.
ولقد نبغ ابن الهيثم إلى جانب البصريات بالفلك والهندسة والفلسفة والمنطق والموسيقى،
وأتقن الطب وصّنف فيه وإن لم يمارسه.
وكان ابن الهيثم يعيد إجراء التجارب على عدد من الأمور التي كان اليونانيون قد
جربوها واستخرجوا لها القواعد.
كان للحسن مجلس علم يزدحم بالتلامذة الوافدين من سائر البلدان، وبينهم أمير من أمراء
الشام ومعه تلميذ آخر كان يتعلم على يديه اسمه مبشر بن فاتك القائد، ود  رس طلابه تبعًا للمنهج
العلمي الذي أعطيناه حقه فيه فيما تقدم.
يعد من أعظم علماء المسلمين خاصة في علم الفيزياء، وأعظم الباحثين في علم الضوء
أو المناظر في جميع العصور، وهذا ما سنف  صل فيه.
رفض ابن الهيثم التسليم بكثير من آراء السابقين له في الضوء والبصريات مثل أقليدس
وبطليموس، وعلى الرغم من أن أقليدس قد سبقه في تناول أحد شطري قانون الانعكاس، كما
سبقه بطليموس إلى دراسة الانعطاف، إلا أن ابن الهيثم  عني بعلم المناظر عناية م  هدت الطريق
لمن بعده؛ فلم تتحقق القياسات الموضوعية لزوايا السقوط والانكسار إلا عام 988 ه = ١٥٨٠ م
على يد تيخو براهي، وعلى يد كاسيني عام ١٠٧٢ ه = ١٦٦١ م وحققا ذلك على النمط الذي
خططه ابن الهيثم.
أول من فكر بإقامة سد على نيل مصر في موضع الجنادل، تحقق بعد ثمانية قرون من
وفاته ببناء السد العالي، فبعد أن بلغت شهرته وبراعته الحاكم بأمر الله الفاطمي في مصر، طلبه
لو كنت في مصر لعملت في نيلها عم ً لا » : للقدوم إلى القاهرة، وخاصة بعد أن ُنقل إليه قوله
.« يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة أو نقص
هو أول من شرح تركيب العين ورسمها بوضوح.
و أول من اكتشف أن العدسة المحدبة ترى الأشياء أكبر مما هي عليه.
أول من استخدم الغرفة المظلمة لرصد الخسوف.
أول من قال أن العين ترى الأشياء بسبب النور الذي يصدر من تلك الأشياء، وليست
بسبب نور يصدر من العين كما قال أهل اليونان، فالضوء في رأيه نوعان: عرضي يصدر من
الأجسام المضيئة بغيرها؛ أي التي تعكس الضوء كالقمر والمرآة، والأجسام الأخرى التي في
مقدورها أن تعكس الضوء، والثاني ذاتي يصدر عن الأجسام المضيئة من نفسها؛ كالشمس والنار
والجسم المتوهج. وتناول كيفية امتداد الأضواء وانعكاسها وانعطافها، كما استقرأ الأحكام المتعلقة
بذلك، وكان يدلل على صدق آرائه بالبرهان الهندسي.
هو أول من فسر ظاهرتي الخسوف والكسوف.
أول من ألف رسالة في الأخلاق.
أي ( Hazen أبدع مسألة لا تزال تسمى مسألة الهازن ( لأنه كان يسمى في أوروبا
مسألة ابن الهيثم، وهي: إذا فرضت نقطتان حيثما اتفق أمام سطح عاكس فكيف تعين على هذا
السطح نقطة بحيث يكون الواصل منها إلى إحدى النقطتين المفروضتين بمثابة شعاع ساقط،
والواصل إلى الأخرى بمثابة شعاع منعكس، وكان لهذه المسألة أثرها الكبير في تطور علمي
الضوء والهندسة وعلاقتهما بعضهما مع بعض، والجمع بين الرياضيات والفيزياء، وأثر كل ذلك
في التقدم العلمي الحديث.
ط  ور علم البصريات بشكل جذري.
وضع قوانين الانعكاس والانعطاف.
عثر على تعليل لانكسار الضوء الذي يحدث عن طريق وسائط كالهواء أو الماء أو
الزجاج.
وضع قانون الارتداد الذي كان له أثر ميكانيكي رائع في تقدم هذا العلم في أوروبا
حديثًا.
وضع طريقة لاستخراج ارتفاع نجم القطب على غاية التحقيق ولا تزال إلى الآن
تستعمل بالآلات الحديثة، ووصل بواسطتها إلى حسابات وأرصاد تكاد تخلو من الأخطاء
وتتطابق مع الحسابات الحديثة.
أبدع بعض آلات الرصد وأصلح بعضها مثل ذات الحلق.
.( حسب ارتفاع الغلاف الجوي وقدره بدقة عالية ( ١٥ كم ٢
توصل إلى أن القمر من دون الأجرام السماوية الأخرى يستمد نوره من ضوء الشمس
ولا يضيء بذاته، وبذلك توصل إلى ظاهرة التظليل وكتب عن تطبيقها.
نفى الخرافة التي كانت سائدة في الشرق والغرب أن (الغول) هو الذي يبتلع القمر.
كانت نتائج ابن الهيثم معروفة تمامًا لدى أوروبة، وخاصة فيما بين القرنين السادس
والسابع الهجريين = الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وكان ذلك بواسطة (جون بيكام)
ونهل من ابتكاراته علماء كثيرون في القرن الحادي عشر الهجري = السابع عشر الميلادي،
وفي مقدمتهم العالم المشهور (كبلر).
هو أول من شرح ظواهر قوس قزح والكسوف والخسوف، وكتب في علم الظل
والعدسات المقعرة والمحدبة.
قام باكتشافات عديدة مثل اكتشافه لطريقة التوسط والتي تعرف في بعض الأحيان باسم
طريقة التناسب.
لم يترك علمًا من العلوم إلا وكتب فيه، وأشهرها علم الهندسة وعلم الفلك وعلم الجبر و
المزاول (أي الساعات الشمسية) ولقد نال الشهرة العظيمة في علم البصريات.
برهن على نظريات كثيرة في علم الفيزياء الحديث كانكسار الأشعة، مما أدى إلى تقدم
هذا العلم ووصوله إلى ما هو عليه الآن.
قال بالجاذبية، حيث سبق نيوتن في اكتشاف هذه النظرية في دراسته لظاهرة الأظلال،
فقدر أن ما يحدث في السماء من كسوف وخسوف هو عين ما يحدث فوق الأرض من ظلال،
فإذا أشرق الضوء على جسم كثيف استقر ما وراء الجسم عن الضوء، وإذا رفع الكثيف أشرق
الضوء على الموضع المستظل.
ومن إنجازاته في علم الضوء؛ توصله من خلال النظرية التي أطلق عليها اسم: تكوين
الظل عن طريق أجسام نورانية إلى الحصول على صورة لجسم ما، عند ولوج الضوء الوارد
منه خلال ثقب ضيق إلى مكان مظلم ليقع على حاجز أبيض، على ألا يكون الثقب صغيرًا جدًا،
فيضعف ضوء الصورة فتختفي عن الحس، ولا يكون واسعًا فيقل شبهها بالجسم الأصل، ولا
يصبح واضحًا. وقام بأول تجربة بجهاز به ثقب يشبه آلة التصوير، وعندما بلغ هذه النتيجة لم
يكد يصدق عينيه عندما شاهد العالم وقد أصبح أسفله أعلاه، فقد كان وضع الصورة وضعًا
عكسيًا، فاخترع ابن الهيثم بذلك الخزانة المظلمة المسماة اليوم بالكاميرا، وأبرز ما دفعه إلى هذه
،« مقالة في الأظلال » التجارب اهتمامه اهتمامًا بالغًا بالأظلال و جعلها في مقالة خاصة أسماها
وذلك لأن ظاهرة الأظلال لها شأن عظيم في علم الفلك، وهي كما يوضح هو في مقدمة مقالته
أحد الأصول المعول عليها في علم الهيئة، فالخسوفات بأنواعها سببها الأظلال، وتحقيق مقادير
الخسوفات وأزمانها لا يتأتى إلا بدراسة أشكالها، ومن قراءة مقالته في هذه الظاهرة يفهم أن
الذين درسوا هذه الظاهرة من قبل لم يوفوا البحث حقه، ولم يبينوا أشكال الأظلال المختلفة، ولم
يفرقوا بين ما ندعوه الظل، وما نسميه شبه الظل، فاقتصرت أقوالهم على ناحية واحدة فقط.
ولأجل هذا قام ابن الهيثم ببعض التجارب إذ استخدم سراجًا ذا فتيلة غليظة وجعله على
مسرجة مرتفعه عن الأرض في بيت لا يدخل الضوء إليه، وجعل بعد السراج عن الحائط قرابة
ذراعين أو أقل، واعتمد عودًا دقيقًا قابل به السراج، ومد العود فيما بين السراج والحائط، فإذا
تأمل المعتبر ما يظهر على الحائط في مثل هذه الحالة وجد ظ ً لا عريضًا أكثر عرضًا من العود،
وإذا قدم العود إلى السراج اتسع عرض الظل، وإذا أبعده عنه وقربه نحو الحائط ضاق عرض
الظل، واختبر ابن الهيثم من جراء ذلك الظواهر العديدة في الخزانة ذات الثقب، وقام بالعديد من
التجارب والأبحاث حتى توصل إلى دراسة كسوف الشمس والمقارنة بين صورة الشمس
وصورة هلال القمر.
وخلص أيضًا من جراء ذلك بعد البراهين الهندسية إلى أن نسبة بعد الشمس عن
مركز الأرض إلى قطر الشمس كنسبة ١,١١٥ ، وهي نسبة قريبة إلى النسبة المعروفة اليوم.
ولا نبتعد عن الحقيقة إذا قلنا إن نسبة فضل الكشف عن ظاهرة تكون المرئيات بوساطة
الثقوب الضيقة إلى العالم دلابورتا أو دافنشي أو بيكون أو فيتلو لا يكون مشكوكًا فيها فقط، بل
هي بالطبع بعد الشرح العلمي المتقدم لا تتفق مع الواقع العلمي العملي، فإن ابن الهيثم قد سبق
كل هؤلاء، ويجب علينا أن نؤكد ذلك وننشره، فقد سميت تلك الآلة عند ابن الهيثم : (الخزانة
المظلمة ذات الثقب) و (البيت المظلم)، وتفسيرها أن امتداد الأضواء على سمت الخطوط
المستقيمة تؤدي رأسًا إلى أن الضوء المشرق من جسم مبصر إذا نفذ من ثقب ضيق في حاجز،
واستقبل على حاجز أبيض من خلفه، تكونت على هذا الحاجز صورة معكوسة للجسم، وتسمى
عادة الآلة التي يحصل عليها ذلك في كتب الضوء القديمة البدائية الخزانة المظلمة ذات الثقب
كما أسلفنا، ويطابق هذا الاسم اسمها اللاتيني الذي عرفت به في القرون الوسطى وفي عصر
وليس هذا الاسم إلا ترجمة حرفية للعبارة ،( Camera Obscura ) النهضة الأوروبية وهو
العربية (البيت المظلم) الذي تردد كثيرًا في أقوال ابن الهيثم.
ورأى ابن الهيثم أن الضوء شيء ماد  ي؛ لذا فهو يرتد (ينعكس) إذا وقع على الأجسام
فالضوء إذا لقي جسمًا صقي ً لا فهو ينعكس عنه من أجل أنه متحرك، ومن أجل أن » ال  صقيلة
الجسم الصقيل يمانعه، ويكون رجوعه في غاية القوة، لأن حركته في غاية القوة، ولأن الجسم
وكان يقوم بالتجريب لإثبات فرضياته، فقد قام من أجل إثبات ،« الصقيل يمانعه ممانعة فعالة
قانون الانعكاس بشطريه بأخذ كرات من الحديد وأسقطها من ارتفاعات مختلفة ليقف على مقدار
ارتدادها، ويثبت أن زاوية السقوط تساوي زاوية الانعكاس.
هذه التجارب التي أطلق عليها ابن الهيثم اسم الاعتبار تكشف عن رؤية من قبيل نظرية
الجسيمات في الضوء التي جاء بها نيوتن في القرن السابع عشر الميلادي، فالضوء يتركب من
دقائق متناهية الصغر، وعندما تنتشر إما أن تنعكس عن الأجسام الصقيلة أو تنكسر في الأجسام
المشفة. وعندما تحدث ابن الهيثم عن انعطاف الضوء وهو ما نسميه حاليًا انكسار الضوء، رأى
أن ذلك لا يتم آنيًا؛ أي أن انتقاله في الوسط المشف لا يكون دفعة واحدة وفي غير زمان، بل إنه
يستغرق زمنًا معينًا محدودًا بسرعة معينة، وأن سرعته في المشف الألطف أعظم من سرعته
إذا كان الثقب مستترًا، ثم رفع الساتر فوصول الضوء من الثقب المقابل، » في المشف الأغلظ، و
وهذا ما نعلمه اليوم، وقد عارض ديكارت ،« ليس يكون إلا في زمان، وإن كان خفيًا على العين
إن مادة الهواء » ١٠٦٢ ه، ١٦٥٠ م) هذه النظرية بعد ٥٠٠ عام من وفاة ابن الهيثم حيث قال )
ممتدة من الثقب حتى السطح المقابل له حيث يرى الضوء منعكسًا مثل عصا الأعمى إذا لمس
وأخذ كثير من ،« شيء مقدمتها أحس به الأعمى في الطرف الذي في يده فورًا دون زمان
العلماء برأي ديكارت حتى منتصف القرن التاسع عشر عندما أثبتت التجارب أن للضوء سرعة
مقدارها 300,000 كم في الثانية، وهذا مؤيد لابن الهيثم.
شرح ابن الهيثم بعض الظواهر الجوية التي تنشأ عن الانكسار، من ذلك الانكسار
الفلكي؛ فالضوء الذي يأتي من الأجرام السماوية يعاني انكسارًا باختراقه الطبقة الهوائية المحيطة
بالأرض، ويفسر هذا كيف أن النجم يظهر في الأفق قبل أن يبلغه بالفعل، وأننا نرى الشمس عند
الشروق أو الغروب في وقت لم تصل فيه إلى مستوى الأفق بعد، بل تحته،كما لا يظهر قرصا
الشمس و القمر مستديرين تمامًا قرب مستوى الأفق بسبب هذا الانكسار بل يبدوان بيضيين.
ومن الظواهر الجوية التي بحث فيها؛ الهالة التي تبدو محيطة بالشمس أو القمر، وعزا
وجودها للانكسار، حينما يكون الجو مشبعًا بالبلورات الصغيرة من الثلج أو الجليد، فإن الضوء
الذي يمر خلالها ينكسر وينحرف بزاوية معلومة، ومن ثم يصل الضوء إلى العين كأن مبعثه
فقط حول الشمس أو القمر.
الذي « المناظر » ط  ور ابن الهيثم علم البصريات بشكل جذري، وخاصة في كتابه
سيأتي الحديث عنه، وكتب ابن الهيثم في تشريح العين، وفي وظيفة كل قسم، وبين كيف تنظر
إلى الأشياء بالعينين في آن واحد، وأن الأشعة من النور تسير من الجسم المرئي إلى العين، ومن
ذلك تقع صورتان على الشبكية في محلين متماثلين، وعلى هذا يكون ابن الهيثم قد وضع الأساس
الأول (للإستريسكوب).
ثم إنه درس عدسة العين وأقسامها وتشريحها ورسمها وأطلق عليها أسماء أخذها
Vitreous ) والسائل الزجاجي (Cornea) الغرب أو ترجمها إلى مختلف لغاته، منها القرنية
.(Aqueous Houmour) والسائل المائي (Retina) والشبكية (Houmour
وهذه الأبحاث والتجارب الكثيفة هدت ابن الهيثم إلى البحث في قوة التكبير في
العدسات لأول مرة في التاريخ، إذ حسب الانعكاس الذي يحدث في قطاع المرآة الكروية أو
المخروطية؛ أي الإشعاعات المتوازية التي تلتقي في نقطة الاحتراق، وفحص أثر الحرق وتكبير
المرئيات ليس بوساطة المرآة المق  عرة فحسب، بل بوساطة الزجاج الحارق والعدسة وبذلك كان
من ثمرة جهده صنع أول نظارة للقراءة، و  عد أول مبدع لفكرة أول نظارة في العالم، والممهد
الأول الذي ساعدته بحوثه البصرية في إصلاح وتعديل عيوب الإبصار في العين.
اتبع ابن الهيثم في بحوثه كلها إذًا منهجًا علميًا بناه على الاستقراء (استخراج القاعدة
العامة من مفردات الوقائع) على الأكثر، وعلى الاستنباط (تفريع الأصول المفردة من القاعدة
العامة ) أحيانًا، وهو في ذلك كله يلجأ إلى القياس (الموازنة بين الوقائع المختلفة والمقارنة بين
النتائج )، وكان سبيله إلى ذلك المشاهدة (النظر في الأمور الجارية في بيئتها المخصوصة )،
والملاحظة ( التفطن لما يتفق وما يختلف من هذه الأمور )، ثم كان يقوم بتجاربه على هذه
الأسس كلها مرة بعد مرة.
وبالغ في اعتماد التجارب حتى إنه أعاد إجراء التجارب على عدد من الأمور التي كان
الأقدمون قد جربوها واستخرجوا قواعدها.
والذي ساعد ابن الهيثم على انتهاج هذه الخطة العلمية أنه كان عالمًا رياضيًا وفيلسوفًا
نظريًا، بالإضافة إلى إحاطته بالعلوم الطبيعية، فالرياضيات مكنته من تنظيم بحوثه، والفلسفة
ساعدته على حسن تخيل الأمور، ثم إن إعجابه بمنطق أرسطو وتفهمه الدقيق لأقسام ذلك
المنطق زاده مهارة في التنظيم عند تتبع البحث وإجراء التجارب، لذلك كان حسن التبويب في
تدوين النتائج التي توصل إليها، أضف إلى ذلك كله كونه مخلصًا في طلب العلم جاهدًا في
إظهار الحق ساعيًا وراء الحقيقة منصفًا للعلماء المتقدمين الذين استفاد من جهودهم.
وابن الهيثم كذلك استنبط أسماء وألفاظًا أصبحت فيما بعد مصطلحات فنية في علم
الضوء (البصريات) وخصوصًا فيما يتعلق بتشريح العين، ولا يمكن البحث في علم أو فن ما لم
تتحدد ألفاظه وتتعين مصطلحاته، فحينئذ فقط يصبح البحث فيه ممكنًا ومجديًا.
هذه هي الخطة التي سار عليها ابن الهيثم في معالجة علم الضوء خاصة، وهي الخطة
التي أسماها الباحثون فيما بعد بالأسلوب العلمي، وهذا الأسلوب العلمي هو الذي أدى إلى النتائج
التي وصل إليها العقل الإنساني في كل ميدان من ميادين العلم، وفي كل منحى من مناحي
الحياة.
كتاب المناظر :
هو أروع كتب ابن الهيثم ، ومن أروع كتب الحضارة الإسلامية، وأكثرها انتشارا في
العالم، وأكثرها تأثيرًا في العالم الغربي، وتكثر امتيازات هذا الكتاب، فهو أيضًا من أكثر الكتب
القديمة استيفاء لبحوث الضوء ، وأرفعها قدرًا ولا يقل مادًة وتبويبًا عن الكتب الحديثة العالمية،
إن لم يفقها في موضوعات انكسار الضوء وتشريح العين وكيفية تكوين الصور على شبكة العين
لدرسها.
وهو يعد من أروع ما كتب في القرون الوسطى، وأبدع ما أخرجته القريحة الخصبة،
فلقد أحدث انقلابًا في علم البصريات جاع ً لا منه علمًا مستق ً لا له أصوله وأسسه وقوانينه، والأهم
من هذا وذاك، أن ابن الهيثم كان يسير فيه على نظام علمي يقوم على المشاهدة والتجربة
والاستنباط.
ونستطيع أن نقول جازمين أن علماء أوروبة كانوا عالة على هذا الكتاب عدة قرون،
وقد استقوا منه جميع معلوماتهم في الضوء كما تقدم في هذا المبحث، وعلى بحوث هذا الكتاب
المبتكرة وما يحويه من نظريات استطاع علماء القرن التاسع عشر والعشرين أن يخطو بعلم
الضوء خطوات فسيحة أدت إلى تقدمه تقدمًا ساعد على فهم كثير من الحقائق التي تتعلق بالفلك
والكهرباء والبصريات ، ولا أدل على عظمة هذا الكتاب ما ذكرناه من أن الأمريكيين اعتمدوا عليه.
ابن الشاطر :
علي بن إبراهيم بن محمد الدمشقي (ت ٧٧٧ ه = ١٣٧٥ م). عالم الفلك والرياضيات
والهندسة، مات أبوه وله ستة أعوام، فكفله جده وأسلمه لزوج خالته وابن عم أبيه، فعّلمه صنعة
تطعيم العاج، ولكن ابن الشاطر رحل بعد ذلك إلى مصر والإسكندرية لطلب العلم، فتعلم هناك
علوم الفلك والحساب والهندسة، وبرع بها كثيرًا حتى ُلقب بألقاب تدل على ذلك، ف  عرف بأوحد
زمانه، وفريد الزمان، والمطعم الفلكي، وأعجوبة الدهر.
لقد برع ابن الشاطر في علوم الفلك والحساب والهندسة كثيرًا حتى ُلقِّب بألقاب تدل
على ذلك، ف  عرف بأوحد زمانه، وفريد الزمان، والمطعم الفلكي، وأعجوبة الدهر.
قدم نماذج فلكية في أزِياج جديدة (جداول فلكية رياضية) قائمة على التجارب
والمشاهدة والاستنتاج الصحيح، ولكن كوبرنيكوس لم يتورع عن ادعاء هذه النماذج لنفسه،
وخدمه لاحقوه في أوربا في هذا الادعاء.
و كانت موضوعة في إحدى مآذن ، البسيط أبدع آلة لضبط أوقات الصلاة وس  ماها
الجامع الأموي بدمشق، حيث كان يعمل مؤقتًا فيه.
أبدع إسطرلابًا قدمه لأحد المشايخ، وهو محفوظ في مكتبة باريس الوطنية.
درس ابن الشاطر حركة الأجرام السماوية بكل دقة، وأثبت أن زاوية انحراف دائرة
البروج تساوي ( ٢٣ درجة و ٣١ دقيقة)، علمًا بأن القيمة المضبوطة التي توصل إليها علماء
القرن العشرين بوساطة الآلات الحاسبة هي ( ٢٣ درجة و ٣١ دقيقة و ١٩,٨ ثانية).
أتقن الهندسة، وكان مبدعًا في علم الساعات، وذكر النعيمي (ت ٩٢٧ ه = ١٢٥٠
هو » : م) نق ً لا عن صلاح الدين الصفدي (ت ٧٦٤ ه= ١٣٦٢ م) في ترجمته لابن الشاطر مايلي
الإمام فريد الزمان المحقق المتقن، دخلت منزله في شهر رمضان عام ٧٤٣ ه = ١٣٤٢ م
لرؤية الإسطرلاب الذي أبدع وضعه، فوجدته قد وضعه في قائم حائط في منزله … وصورة
الإسطرلاب المذكور قنطرة مقدار نصف أو ثلث ذراع تقريبًا، يدور أبدًا على الدوام في اليوم
والليلة من غير رحى ولا ماء على حركات الفلك، لكنه قد رتبها على أوضاع مخصوصة تعلم
.« منه الساعات المستوية والساعات الزمانية
ويرى المختصون أن ما يقصده الصفدي ليس الإسطرلاب الذي هو ميزان الشمس،
لأن اختراعه كان قبل زمنه بمئات السنين، ولكنه يقصد الآلة المسماة في زماننا بالساعة.
هو بكل الأحوال؛ أول من أبدع ساعة ميكانيكية، فأخرجها من دائرة الماء إلى دائرة
الميكانيك، ومن دائرة الخشب إلى دائرة المعدن، وجعلها صغيرة بعد أن كانت تبلغ عدة أمتار،
فصارت بمقدار ثلاثين سنتيمترًا، وأدخل فيها الآلات المعدنية، مستغنيًا عن الماء وآلاته الخشبية
الطويلة العريضة.
عرف ابن الشاطر علم الخيط في المزولة وتركيبه.
ُتستعمل بعض الآلات الفلكية التي ابتكرها وصممها ابن الشاطر في الرصد والأخرى
في الحساب.
تمثل الساعة الشمسية التي وضعها في الجامع الأموي بدمشق والساعة النحاسية
الصغيرة المحفوظة في المكتبة الأحمدية بحلب القدرة الإبداعية الكبيرة عند ابن الشاطر.
ليس ابتكاره الربع الهلالي والربع العلائي والربع التام إلا تطوير للآلات الحسابية
المتداولة بزمانه، وهذه بمجملها آلات مبتكرة مصممة ميكانيكيًا لتعطي حلو ً لا رقمية للمشكلات
الأساسية لعلم الفلك الكروي، وإن افتقرت هذه الأدوات لبعض الدقة فقد امتازت وعوضت عن
ذلك بسهولة الحصول على النتائج.
هو صانع الساعة الشمسية الأفقية لمعرفة الساعات الزمانية التي تقسم كلا النهار والليل
إلى اثني عشر قسمًا في جميع الفصول، والتي كانت في مئذنة العروس في الجامع الأموي
الكبير حتى ١٢٩٠ ه = ١٨٧٣ م. وتتكون هذه الساعة من ثلاثة أجزاء، تبين الساعة الرئيسية
منها الساعات المعوجة أي الغير متساوية لكل أربع دقائق تمامًا، أما الساعة الموجودة في الشمال
وكذلك الساعة الموجودة في الجنوب فقد  صنعت لتبيين الساعات المتساوية.
ُتنسب إليه الآلة الجامعة وآلة الساعة الفريدة والتي تعمل لي ً لا ونهارًا بدون أي مساعدة
لا من رمل و لا من ماء.
صنع صندوق اليواقيت) لأحد حكام المماليك في دمشق، و الذي احتوى على ساعتين
شمسيتين، وهي محفوظة في مكتبة أوقاف حلب، وفي حال تغطية هذا الصندوق يتحول إلى آلة
و Reich : إسطرلاب، و  عرف فيما بعد باسم: دائرة معدل النهار، وقد عرفه لأول مرة العالمان
History of : ما بين عامي ١٩٣٠ و ١٩٤٠ ، وهذا الشرح م ّ كن مؤلف كتاب Gaston

عام ١٩٧٦ م من تقديم الشرح الوافي له، وقد حفر عليه ابن الشاطر من الداخل Technology
درجات عروض ست مدن: الصعيد (مصر العليا)، مصر (القاهرة)، غزة، دمشق، حلب، بغداد،
البصرة، فارس، كرمان، الهند (وسط الهند).
قدر ابن الشاطر اليابسة بربع الأرض والمياه بثلاثة أرباعها؛ فقام بتقسيم الأرض إلى
أربعة أرباع باستخدام دائرة الأفق القطبية وخط الاستواء وسطح معدل النهار بالشكل الآتي:
حدد ابن الشاطر البحار ذات الأهمية الكبيرة الموجودة ضمن الربع الشمالي المعمور
ب:
البحر المتصل بالمحيط الواقع بين المغرب والأندلس ( يمثل الجزء الغربي من البحر
المتوسط ).
البحر الواقع بين الأندلس والشام ( يمثل الجزء الأوسط والشرقي من البحر المتوسط ).
البحر الجنوبي ( المحيط الهندي ) المتصل بالجانب الشرقي والذي خرج منه أربعة
خلجان:
الخليج البربري وهو أقربها إلى المغرب.
الخليج الأحمر ( البحر الأحمر ).
خليج فارس ( الخليج العربي ).
الخليج الأخضر ( خليج البنغال ).
بحر وزتك من جانب الشمال ( بحر أخوتسك ).
البحار المغلقة غير المفتوحة على المحيط:
بحر طبرستان ( قزوين ).
بحيرة خوارزم ( آرال ).
كان ابن الشاطر ديناميكيًا في فهمه للزمان والمكان ولثبات الشمس بالنسبة للأرض،
وأن حركة قبة السماء على نتيجة لحركة الأرض وأن الحركة هي من الغرب إلى الشرق.
تم ّ كن ابن الشاطر لأول مرة من معرفة سبب ارتفاع درجة حرارة النصف الجنوبي
أكثر من النصف الشمالي من خلال فهمه بدقة لوضع الأرض في حركتها ودورانها حول الشمس
في مدارها حيث يكون الجزء الجنوبي من الكرة الأرضية خلال فترة الحضيض باتجاه الشمس
فيتلقى كمية أكبر من الإشعاعات الشمسية.
قام بتقدير مساحة اليابس بنحو ربع مساحة الكرة الأرضية والباقي من المياه التي تحيط
باليابس من كل الجهات.