الموضوع: مقياس المستوى الاقتصادي ومستوى الرفاهية عند الشعوب

هو ليه أطول مبني في العالم هو برج خليفة في دبي؟؟ ليه مش في نيويورك، أو لندن، أو باريس، أو برلين، أو طوكيو مثلاً؟؟!! ... هل لأنهم لا يملكون التكنولوجيا لذلك؟؟ هل لأنهم لا يملكون الأموال الكافية؟؟


الإجابة هي لا بالطبع. فهم يملكون كل ذلك!! بل أن مبني امباير ستيت في مدينة نيويورك بارتفاع يزيد عن 440 متر، الذي تم بناؤه عام 1931 (ما يزيد عن 85 سنة) - وكان أطول مبني في العالم آنذاك- شاهد على ذلك. والشركات التي صممت ونفذت برج خليفة كانت من تلك الدول (أمريكا خصيصاً)!! اذا لماذا لا يبنون هذا النوع من ناطحات السحاب!!


الإجابة هي التكلفة المالية الضخمة والمردود الإقتصادي المتواضع!! ... برج خليفة كانت تكلفته 1.5 مليار دولار، والغرض منه أصلاً هو ما يسمي National Pride الزهو والفخر الوطني بأنهم يملكون أطول مبني في العالم!! (والوليد بن طلال برغم أزمته الأخيرة، ينوي منافسة دبي بإنشاء ناطحة سحاب تسمى 'برج جدة' أطول من برج خليفة، لتكون هي الأطول في العالم)!!!


لكن مبدأ الفخر الوطني و'المنظره القومية' انتهى عند تلك الدول منذ زمن بعيد!! ... وحل محله المصالح الإقتصادية للدولة، وانتعاش العملة، والبورصات المالية، والنمو الإقتصادي، وزيادة معدل دخل الفرد GDP، وخلق فرص عمل جديدة، والفوائد التي تعود على عامة الشعب. حتى لو أرادت الدولة بناء مثل تلك المباني، فستجد معارضة شديدة من البرلمان والنواب والإعلام والمعارضة. وغالباً لن يوافقون على تخصيص ميزانيات لذلك، لأنها تخدم فئة ضئيلة جداً من المجتمع.


من الإنتقادات الكبيرة التي تم توجيهها للحكومة الأمريكية مثلاً بعد برنامج Apollo 11 أبوللو 11 للصعود على القمر، في أواخر الستينات من القرن الماضي، هي التكلفة الباهظة والتي بلغت 25.5 مليار دولار (من حوالي 50 سنة)!! فلما قالوا بأننا وضعنا أول مخلوق على سطح القمر!! أجاب نواب الكونجرس So What وبعدين؟!!! .. وقرروا تخفيض الميزانيات المقررة لوكالة الفضاء الأمريكية NASA. فاضطرت NASA لتسريح المئات من مهندسي الفضاء والطيران. [معلومة جانبية: ناسا قررت تحمل مصاريف دورات لتحويل أولئك المهندسين النابهين الي مهندسين كهرباء. ووقع اختيار ناسا في أوائل السبعينات على الأستاذ المصري الدكتور أحمد حنفي الأبيض الأستاذ بجامعة بوردو الأمريكية، وتم تكليفه بتلك المهمة. وكان الرجل رحمه الله قد نشر كتاباً عبقرياً في عام 1968 - وكان سابقاً فيه لعصره بشكل كبير آنذاك- أسماه Computer Methods in Power System Analysis أو طرق الكمبيوتر لتحليل نظم القوي الكهربية].


بنفس ذلك المبدأ الإقتصادي كان الناس يسألون حكومة سنغافورة الشهر الماضي: كم سيتكلف المؤتمر بين الرئيس الأمريكي ترامب وكيم جون أونج زعيم كوريا الشمالية - والذي تم عقده في يونيو 2018 في سنغافورة- وما مردوده الإقتصادي على الدولة والشعب؟؟ وكانت الحكومة تقول بأنه سيتكلف حوالي 16 مليون دولار أمريكي، بعضها سيسترد بشكل فوري وأكثرها بشكل غير مباشر. لكنه في المقابل سيرفع من سمعه سنغافورة السياحية كبلد آمن وخلافه. وتوقعوا أن العوائد الإقتصادية من ذلك المؤتمر ستصل الي 169 مليون دولار على عدة سنوات!! وبالفعل الحكومة استغلت هذا الحدث دعائياً وسياحياً وإعلامياً بصورة مكثفة. واستقدموا شبهاء لترامب وكيم في سنغافورة قبلها بعدة أيام، ونشطت الحركة السياحية بشكل كبير. على فكرة، الحكومة بعد المؤتمر عادت وقالت للشعب أن التكلفة الفعلية للمؤتمر بلغت 12 مليون دولار فقط، وأن تقديرهم الأولي كان مبالغ فيه بعض الشيء!! ... (حكومة عبيطة صحيح. بترفس 4 مليون دولار فرق برجليها!!)


اذا ما هي المشاريع العملاقة التي تستثمر فيها تلك الدول؟؟ ربما يكون مشروع London Power Tunnels مثالاً جيداً. مشروع كابلات وأنفاق لندن والذي استغرق 7 سنوات، تم افتتاحه في فبراير 2018 بتكلفة قدرها مليار جنيه استرليني!! (تقريباً تكلفته تعادل تكلفه برج خليفة بدبي)!!! ... وفيه تم اعادة توصيل شبكة كهرباء لندن بالكامل بكابلات في إنفاق عميقة تحت الأرض، تكفي احتياجات لندن المستقبلية حتى عام 2050!! بغض النظر أن المشروع يمثل إنجاز هندسي ضخم، هذا هو التفكير الذي تفعله الدول المتقدمة! ... مشروع يخدم سكان لندن، والذي يصل تعدادهم الي حوالي 9 مليون نسمة في 2018، ومتوقع أن يصل الي 13 مليون بحلول عام 2050!!! ... كم شخص يسكن أو يستفيد من برج خليفة بدبي؟؟ 500، 1000 ... 2000 على أقصي تقدير!!!


اذا أردت أن تعرف الفرق بين تلك النوعية من التفكير وحالنا نحن العرب، فانظر الي دولة قطرالعربية الشقيقة!!! ... دولة صغيرة عدد سكانها أقل من 3 مليون نسمة!! نسبة القطريين الأصليين 12% فقط من السكان (أقل من 400 ألف نسمة)!!! ... ومع ذلك فإن قطر قررت استضافة كأس العالم لكرة القدم 2022. التكلفة المتوقعة 200 مليار دولار (قابلة للزيادة بالتأكيد)!! ... قطر تنفق 500 مليون دولار أسبوعياً على انشاء استادات جديدة وحديثة لكرة القدم، ستتحول بعد كأس العالم لأماكن مهجورة تسكنها الغربان والثعابين!! ... كل ذلك من أجل 'المنظره القومية' والوجاهة الدولية!! ... في المقابل، فإن أمريكا وكندا والمكسيك مجتمعين سيستضيفون كأس العالم 2026!! ... برغم ان كل دولة منهم تستطيع فعل ذلك منفردة (والمكسيك بالفعل نظمت كأس العالم وحدها عام 1986)!! ... لكنهم يريدون تقليل التكاليف، عن طريق مشاركتها مع الآخرين. خاصة أن الإستادات الكبيرة المطلوبة لكأس العالم، قد لا تستخدم بعد ذلك ولا سيما أن كرة القدم ليست منتشرة بشكل كبير في أمريكا وكندا. وتجربة روسيا في انفاق ما يزيد عن 50 مليار دولار لإنشاء مدينة سوتشي الأوليمبية - والتي جرت فيها أولمبياد 2014 الشتوية- وصارت الآن مدينة أشباح، ليست بعيدة!! (روسيا من الدول المؤسسة لمنطق الوجاهة الوطنية والمنظرة القومية)!!


الخلاصة أن العوامل الإقتصادية صارت هي الفيصل في العالم الآن. هي التي تحكم طرق تفكير وأداء الدول والحكومات، وادارة مشروعاتها واستثماراتها. ولا سيما أن النظم البرلمانية وأحزاب المعارضة والإعلام الواعي هناك يراقبون الإنفاق الحكومي بشكل دقيق، ولا يسمحون إلا بما يعود بالنفع على المواطن بشكل مستمر وواضح. عندهم الإهتمام الأول المطلق هو رفاهية المواطنين (مادية، وصحية، وتعليمية ...الخ)، أما في بلادنا فالأهم هو الوجاهة الوطنية، والفخر الإقليمي، والمنظرة الدولية!!! والفارق شاسع جداً بين الإثنين ... لو كانوا يعلمون!!

شكرا لكم ابو عبد العزيز مقالة جيدة ومفيدة
اشكر لكم كل المساهامات في المرصد الاداري