التكوين المهني والتحولات الاقتصادية العالمية
بقلم: عز الدين مبارك
أصبح العالم اليوم ساحة مفتوحة للصراعات الاقتصادية في ظل العولمة الزاحفة والشركات العملاقة متعددة الجنسيات والقافزة فوق الحدود وكأننا نعيش حربا حقيقية أدواتها الذكاء والفطنة والانتاجية والاستعمال الأمثل للتكنولوجيا المتقدمة والموارد البشرية الكفأة.
والبقاء في خضم هذه المعركة غير المتكافئة بين الدول المتقدمة والدول النامية سيكون في النهاية للأصلح والذي يشغل قدراته المادية والمعنوية بطريقة هادفة ويستطيع التأقلم بسرعة مع المستجدات ويربح رهانات المزاحمة وتحديات التقدم التكنولوجي، وبما ان جل البلدان النامية ومنها تونس لا يتوفر لها الكثير من الثروة المادية، فعليها الاعتماد كليا على الموارد البشرية التي هي رأسمالها الاساسي والوحيد لتحقيق التقدم والازدهار في ظل التغيرات العالمية الاخيرة في دنيا الاقتصاد والأعمال.
وليس هناك من شك بأن تأهيل الموارد البشرية وتكوينها وتعليمها المعارف العصرية والتحكم في التكنولوجيا وأساليب التصرف والادارة العصرية يعتبر الوصفة السحرية لتحقيق الاهداف المرسومة وفرض الذات في عالم متغير لا يرحم الضعفاء والمتقاعسين.
وقد أولت بلادنا في ماضي الايام وحاضرها ومنذ تمكنها من استقلالها التعليم المكانة البارزة والهامة حتى اصبحت تصدر الأدمغة والمهارات الى العديد من البلدان الغنية والمتقدمة على حد السواء.
وإذا كانت السياسة التعليمية تبحث في الاول عن ربح معركة الكم لتلبية طلبات الدورة الاقتصادية فهي اليوم مطالبة بمزيد الاهتمام بالبعد الكيفي وتدعيم عنصر الكفاءة للمتخرجين وذلك بتمكين المتعلمين من هضم المعارف الجديدة وما هو متعلق بالتكنولوجيا والادارة المعاصرة وتعصير أدوات التدريس والمناهج والأدوات وتحفيز المدرسين.
وبما ان المدرسة الى حد الآن مازالت تقدم في الغالب دروسا نظرية بالاساس بحيث لا يشارك في العملية التعليمية الا القلة من الطلاب والكثير منهم يتمتع بالفرجة.
كما ان الامتحانات في أغلبها تطرح مواضيع نظرية فكرية سردية وتعتمد على الحفظ عن ظهر قلب لا تساعد على الاجتهاد والابتكار والاختراع الا لماما.
فالمطلوب هو خلق جيل من المتعلمين القادرين على الاضافة وعلى التمتع بالقدرة على الفعل والخلق وهذا لا يكون الا بالاعتناء بالبحث العلمي المطبق وتطوير البيئة التعليمية ومحتوى الدروس والتوجهات.
كما ان انفتاح الجامعة على المحيط مازال لم يصل الى ما هو منتظر منه بحيث مازالت القطيعة متواصلة والدليل على ذلك غياب تأطير المتربصين من الطلبة بالشركات والمؤسسات الحاضنة فتكون مذكراتهم وصفية وذات قيمة علمية متدنية وفي النهاية يتخرجون وهم لا يفقهون من تطبيق معارفهم على أرض الواقع شيئا.
وفي الأعوام القليلة الماضية بدأ الاهتمام بالتكوين المهني وجعله رافدا من روافد السياسة التعليمية لكن الملاحظ ان المؤسسات لم تنخرط بعد بصفة ايجابية في هذا الاتجاه والكثير من المسؤولين مازالوا يعتبرون التكوين المهني مضيعة للوقت والتفصي من العمل والبحث عن الراحة والمتعة وهو زيادة على ذلك مكلف للميزانية ولا يجدي نفعا.
كما ان الذين يقومون بتربصات مهنية لا يعملون بالمعارف التي تعلموها أو حذقوها فتتلاشي بعد مدة من الوقت ولا تفيد المؤسسة في شيء.
كما ان المؤسسات لا تأخذ بعين الاعتبار التربصات التكوينية عند الترقيات وتحمل المسؤوليات داخل المؤسسة وتعتمد حصريا على الأكتاف والتوصيات والمحسوبية والآراء الشخصية غير الموضوعية وأصحاب النفوذ والمصالح.
فنجاح عملية التكوين المهني مرتبط أشد الارتباط بعدة عوامل نذكر منها:
1 ـ ارساء نظام للتصرف في الكفاءات:
وهو يعتمد على أربعة عناصر متكاملة تمكن الشخص من حذق المعارف النظرية والعملية وحسن التأقلم والتصرف لايجاد الحلول لكل المشاكل المحدثة في مركز العمل.
العنصر الأول: العلوم النظرية: «savoir»التمكن من النظريات الحديثة حسب كل اختصاص والمعارف والمهارات المتعارف عليها: وهذا دور المدرسة والجامعة أساسا.
العنصر الثاني: المعارف العملية «savoir faire»، وهذا البعد يتحصل عليه الطالب من خلال المدرسة ثم من المؤسسة التي يعمل بها وذلك عن طريق التكوين المهني المستمر الجاد وفق كراس شروط ومحتوى التربصات ومخطط وتقييم والحصول على الترقيات والحركية بين مراكز العمل.
العنصر الثالث: المعرفة السلوكية «savoir être» وهو عنصر بدأ الاهتمام به حديثا ويتعلق بالسلوك والتأقلم مع الاحداث والتعامل الأمثل مع المشاكل المستجدة في المحيط وعلى مستوى مركز العمل.
العنصر الرابع: معرفة قيادة الآخرين «savoir faire faire» هذا العنصر متعلق أساسا بالمسؤولين والمسيّرين لتمكينهم من الأدوات البيداغوجية للإحاطة بأفراد المجموعة والمرؤوسين تحت أمرته.
فالقيادة ليست في متناول كل الناس وهي فن نحصل عليه عن طريق التدريب والمعرفة النفسية للآخرين لترويضهم ودفعهم للانخراط مع أهداف المجموعة وتحفيزهم وذلك في صالح العمل زيادة على حل المشاكل الطارئة بكل حنكة ودراية.
2 ـ وجود هيكل للتكوين متطور:
لا تستقيم عملية التكوين الا بوجود هيكل به جميع الضروريات كالعنصر البشري الكفء المختص في هندسة التكوين لكي يقوم بعملية التخطيط والاستشراف والتحفيز والبحث عن المكونين والأدوات البيداغوجية اللازمة وتحليل الدافعية للتكوين لدى الموارد البشرية ووضع جداول الكفاءة والقدرة على التقييم وقراءة التوقعات المستقبلية والطلب الداخلي على الكفاءات والتعامل مع سوق التكوين المهني والمتدخلين بحرفية.
3 ـ اهتمام المؤسسة بفائدة التكوين المهني:
أصبح التكوين المهني عنصر تجديد وتطوير لرأس المال البشري حتى يتأقلم مع التغييرات على مستوى التصرف الاداري والمالي والعملياتي وكذلك التكنولوجي وطرق التسيير الحديثة التي تتطلب مهارات جديدة وكفاءة لم يتعلمها الفرد العامل وهو في الجامعة أو غابت عنه بفعل الزمن.
فأغلب المؤسسات لا ترى جدوى من التكوين المهني لأنه يكلفها بعض المال والوقت غير عائبة بتشجيعات الدولة الكبيرة في هذا الباب.
ولدفع عملية التكوين بات من الضروري الزام المؤسسات بالقيام بذلك وفق كراس شروط واضح المعالم يحدد واجبات كل طرف.
ولتحقيق الجدوى من العملية التكوينية داخل المؤسسات الاقتصادية ودفع وتيرتها الى الامام لابد من دفع المؤسسات بحكم القانون بتمكين كل عون من التمتع بالتكوين المناسب لعمله لتحسين مردوديته وانتاجيته والرفع من مستواه العملي والعلمي وذلك بتحديد صك للتكوين محدد المعالم والاهداف والمحتوى والساعات كل سنة حتى يتم القضاء على المحاباة وعشوائية الاختيار والتملص من المسؤولية، فهناك بعض الاعوان يتمتعون بالتكوين المهني في السنة العديد من المرات ولو في غير اختصاصهم ومهنتهم وهناك آخرون في ثلاجة التجميد محنطون منذ زمن طويل ولا أحد يلتفت إليهم. فعملية انتقال المؤسسة للحداثة ومعانقة الجودة الشاملة يتطلب تمتع جميع افراد المؤسسة بالتكوين حتى يتم التجانس والتشبّع بأهداف العملية التطورية والتحديثية.
4 ـ التقييم والحوافز:
لا يمكن لعملية التكوين ان تنجح وتخلق ديناميكية داخل المؤسسة دون تقييم موضوعي للمتكونين ونتائجهم ومدى إفادتهم لمركز العمل بمؤسستهم وعلى أرض الواقع.
فالتكوين يعتبر استثمارا في رأس المال البشري وكل رأس مال له عائد ومردود اقتصادي حتى يعطي تكلفته ويقدم الفائدة المرجوة منه للفرد والمجموعة والمؤسسة في نفس الوقت.
أما التكوين للتكوين فذلك هام طبعا ومفيد خاصة للفرد ويمكن ان يدخل في باب المجاملات والتحفيز المعنوي وقتل الروتين الاداري والاستجمام، لكن الذي يهمنا هو المردود الاقتصادي للتكوين بالاساس وهذا يتطلب توظيفا أمثل للموارد للرفع من انتاجية العامل وتحقيق المكاسب بربح معركة المزاحمة ونمو العائد الاقتصادي.
والملاحظ داخل مؤسساتنا وجود عملية تكوينية غير متوازنة بالنسبة للأعوان اي هناك اقصاء للبعض وخاصة من المستويات الدنيا في سلم التأجير، كما يستعمل هذا الامر للتمتع بعطلة مجانية او التخلص من بعض المشاغبين من العملة ولو ظرفيا.
كما ان التقييم على مستوى مركز العمل غير موجود الا بنسبة ضئيلة جدا بحيث يرجع العنصر البشري الى مكانه الاصلي دون ان يوظف معارفه التي حصل عليها في عمله الفعلي وبالتالي لا تحصل الإفادة المرجوة.
كما ان التكوين بهذه الطريقة هو هدر للمال وللوقت لأنه لا يؤدي الى نتيجة ملموسة بالنسبة للمؤسسة.
ونجد في أحيان كثيرة عدم التعامل مع التكوين بصفة جدية من طرف الاعوان لأنهم لا ينتظرون من الادارة تقييما جديا حينيا أو آنيا للعملية ويعرفون مسبقا ان التكوين المهني لا يمنحهم مزية على الآخرين بحكم ان الترقيات والخطط الوظيفية تعتمد على حسابات اخرى ومقاييس في الغالب غير موضوعية لا تدخل فيها عناصر الكفاءة والتكوين المهني والمهارة.
وهكذا نجد أنفسنا في حلقة مفرغة وكأننا نحرث في البحر ولهذا يتأكد ربط الحوافز الوظيفية والترقيات بمدى النجاح في عملية تقييم حصص التكوين المبرمجة خلال كل سنة لكل عون والانقطاع عن الترقيات العشوائية المبنية على حسابات غير موضوعية.
وتطوير العملية التكوينية لا يمكن ان ينفصل عن التمشي حسب نظام التصرف في الكفاءات حتى نقطع مع التصرف حسب «الاكتاف» والمحسوبية والأقربون أولى بالمعروف كما كان يردد أجدادنا في الزمن الغابر وذلك لربط المردودية داخل المؤسسة الاقتصادية بالتكوين المستمر المؤدي الى الرفع من الانتاجية وربح معركة المزاحمة في عالم لا يعترف الا بالتفوق والذكاء والعلم.
وهذه العملية الاستثمارية المكلفة تتطلب خلق مناخ مؤسساتي يعترف بجدوى التكوين وعلاقته بنمو الناتج.
ولا تنجح العملية برمتها الا بتمكين المستفيدين من الاعوان بالحوافز المشجعة وذلك بربط الترقيات بالتكوين المهني بعد تقييم الجدوى على مستوى مركز العمل حسب جداول الكفاءة وليس عن طريق التوصيات والعشوائية.
وفي ختام دراستنا هذه، نشدد على ان التكوين المهني اصبح في يومنا هذا بعدا اخر للتعليم مدى الحياة لأن المعارف تتطور بصفة غير مسبوقة بحيث يصبح الانسان جاهلا جهولا لو بقي سنة من الزمن عاطلا عن التفكير والتعلم.
والمؤسف ان مؤسساتنا الرهينة لنظم تصرّف بالية مازالت تعتمد على مقاييس عفا عنها الدهر وشرب مثل «الأكتاف» والولاء والمحسوبية وتترك اللبّ وهو التكوين والمعرفة والكفاءة. وهذا ما جعل جلّ المؤسسات لم تعد قادرة على الخلق والابداع، فيصعب عليها بالتالي ربح معركة الحداثة مما يؤدي بها للإفلاس والتلاشي، فشعار العالم اليوم هو البقاء للأصلح، للأقوى وللأذكى حتما.