هل تستطيع مجتمعات العالم الثالث أن تقوم بالعملية التنموية وتنهض بأفرادها من خلال قدراتها الذاتية أم لابد من معين؟.. فرض هذا السؤال نفسه على الدول حديثة الاستقلال بعد الحرب العالمية الثانية، وللإجابة عن هذا السؤال تعددت الاجتهادات وتنوعت الخبرات بين خاضع للتبعية ومتمرد عليها، بين قابل بوصفات المؤسسات الدولية ومبدع لوصفته الذاتية.

بالطبع لم يكن الخيار سهلا لأنه كان يرتبط بالكثير من العناصر المتداخلة من حيث طبيعة السلطة ووعي النخبة وأخيرا التحولات التي كانت تطرأ على العالم بما تحمل من مصالح وشعارات تتناسب وهذه المصالح، وعلى مدى ما يقرب من سبعين عاما -منذ الحرب العالمية الثانية- تعددت الأفكار والاستراتيجيات في ظل الحرب الباردة، وكان منها إمكانية التنمية الذاتية.

وهى الاستراتيجية التي واجهت الكثير من التحديات بسبب الأخذ بسياسات الليبرالية الجديدة التي كانت تعبر عن مصالح الشركات المتعددة الجنسية والتي أدت إلى تحجيم دور الدولة وإطلاق اقتصاد السوق وتحميل الفقراء مسئولية فقرهم، وجاء الاهتمام بالمنظمات الأهلية والمجتمع المدني في إطار تطبيق سياسات الخصخصة وإعادة الهيكلة الاقتصادية باعتبار هذه المنظمات أدوات للتسريع بتحويل اقتصادات الأقطار المعانة إلى نظام السوق واستيعاب ومعالجة الآثار الاجتماعية السلبية لهذه السياسات.

وتشير الكثير من الدراسات والتقارير -وفيها تقارير المؤسسات الدولية التي هندست ذلك- إلى فشل السياسات الليبرالية الجديدة وأن كيانات المجتمع المدني لم تستطع أن تمارس التنمية وإنما في أحسن الأحوال كانت كيانات ذات طابع خيري تعويضي.

ومضة أمل

تشع ومضة أمل في إمكانية تحقق تنمية وطنية مستقلة، فمنذ أسابيع وصلني كتيب بعنوان «ومضة أمل في التنمية المستقلة» أعده ثلاثة من خبراء التنمية في مصر هم الأساتذة: حامد الموصلي، وحمدي موسى، ونبيل مرقس. والكتيب صدر في سلسلة توثيق خبرات التنمية عن مؤسسة "مواطنون من أجل التنمية" التي يرأسها الأخ العزيز الأستاذ سامح فوزي.

ومضة أمل ليس كتيبا نظريا وإنما هو خلاصة تجربة عملية عنوانها الكبير الحاكم لكل تفاصيلها هو «التنمية الذاتية».. التنمية الذاتية لدى أصحاب هذه التجربة تعني «عملية تحول مستمرة للمجتمع المحلي التي تؤدي إلى إطلاق الطاقات الكامنة داخل المجتمع المحلي، وتنمي قدراته على التجدد الذاتي والنهضة. وبالتالي يتمكن من التعبير عن قيمه الحضارية المميزة حتى لو اتخذت تلك القيم تعبيرات جديدة تتماشى مع ضرورات الحاضر ومتطلبات المستقبل».

والتنمية بهذا المعنى ليست مجرد مشروع اقتصادي يحقق نموا كميا أو اقتصاديا لأصحابه وإنما هو مشروع حضاري "يعيد الثقة في الناس والرهان على كل ما هو إيجابي في نفوسهم من الاعتماد على النسيج الاجتماعي الحضاري الحي للمجتمع المحلي".

إن مسئولية التنمية في هذا السياق أن تصنع "المناخ الذي يساعد وييسر على كل إنسان اكتشاف أو إعادة اكتشاف ذاته.. تبدأ من أصغر وحدة اجتماعية ينتمي إليها، فالمجتمع المحلي، فالقومي، فالإقليمي، فالعالم أجمع.

لذا فمن الأهمية بمكان «فهم السياق العام للمجتمع المحلي وما يحوزه من إمكانيات ذاتية، سواء كانت قيما إيجابيا أم شبكات علاقات اجتماعية فاعلة أو أشكالا من التنظيم الجماعي المحلي أو معارف واسعة من المحيط الحيوي والموارد المحلية التي يحوزها الناس أو التراث التقني وصولا للخامات والموارد المحلية المتوافرة".

بهذا الفهم للتنمية الذاتية نضمن أن تستمر التنمية أو أن يتحقق ما يعرف بالتنمية المستدامة، فالتنمية الذاتية لا تعني فقط مشاركة الناس كل الناس في التنمية، بل أن يشعر الناس بأن قضية التنمية هي قضيتهم، وأنهم يملكون مفاتيحها.

المكون التكنولوجي والمكون المؤسسي

بهذه الأفكار تنطلق التنمية الذاتية أخذا في الاعتبار توافر مكونين هما: المكون التكنولوجي والمكون المؤسسي.. المكون التكنولوجي الذي يستطيع أن يتعامل معه الإنسان وتكون مهارة أو «شطارة» الإنسان أن يمارس التكنولوجيا أي أن تكون لديه القدرة على إبداع الجديد في بيئته، وهنا نأخذ «السيلاج» كمثال.

فالسيلاج كخلطة مبتكرة من البواقي والموارد الزراعية تتم معاملتها بيولوجيا لتحسين خواصها الذاتية بما يحقق أفضل النتائج في تغذية الماشية سواء لإنتاج اللحوم أو الألبان.

أما المكون المؤسسي فتمثل التجربة الهندية نموذجا رائدا استلهمته هذه التجربة المصرية من حيث تجسيد دور الدولة التنموية كسياق مؤسسي حاضن للخبرات والممارسات التنموية المحلية.. وفى هذا السياق يلقى الكتيب بإيجاز الضوء على التجربة الهندية في أن لديها منذ نصف قرن وزارة للصناعات الصغيرة والصناعات الزراعية والريفية، وتعد الوزارة مسئولة عن صياغة السياسات وتنمية وحماية الصناعات الصغيرة المسئولة الآن عن 40% من إجمالي الإنتاج الصناعي في الهند وعن 35% من إجمالي صادرات البلاد، ولم يكن يحدث هذا إلا لأن قادة الهند وعلى رأسهم غاندي ومن بعده قادة حزب المؤتمر الهندي قد رفضوا ممارسة السياسة بعيدا عن الناس.. ويشير الكتيب إلى العديد من البرامج التي تطبقها الهند من أجل دعم الحرفي والمنتج والمستثمر الصغير.

تجربة التنمية الذاتية في قرية كفر العرب

بدأ مشروعنا المصري المحلي منذ أكثر من عامين، بدأ الأمر بتوفير منحة من إحدى الشركات، لم يكن لدى المنمين نموذج تنموي جاهز، ولكن من خلال الحوار مع كل أطراف القرية (من مربين للماشية ومزارعين وممثلين للإدارة الزراعية...الخ) والدراسة تبين أن هناك مشكلة نقص أعلاف وخاصة أن تربية الماشية من أهم الأنشطة الاقتصادية بالقرية، وكذلك تصنيع منتجات الألبان.

فلقد أظهرت الدراسة الميدانية أن أغلب مربي الماشية في القرية لا يستخدمون الأعلاف الجاهزة نظرا لارتفاع سعرها، كما أنهم غير قادرين تقنيا وعلميا على تصنيع الأعلاف غير التقليدية (السيلاج) وفى غيبة الإرشاد الزراعي في القرية يلجأ الغالبية العظمى للمربين إلى الاستخدام المباشر للذرة الخضراء وعروش البطاطا وقش الأرز وحشيشة علف الفيل في تغذية الماشية مما يهبط بإنتاجها من الألبان بالإضافة إلى انخفاض تركيز اللبن، وعليه كان اختيار مشروع تصنيع أعلاف الماشية.

اكتشف الأهالي حلمهم ومشروعهم ذلك بالتأكيد على أهم ما يميز القرية ألا وهو تربية الماشية وإنتاج منتجات اللبن، ومن ثم فإن مشروع تصنيع أعلاف الماشية سيكون مدخلا للكثير والكثير من ذلك: التشبيك بين أنشطة الزراعة وتربية الماشية، تغيير التركيب المحصولي، إنضاج وعي اجتماعي تجلى في تصنيع السيلاج، وأن كل البواقي الزراعية لها قيمة متى تم معالجتها العلاج الأمثل. وأخيرا كيف يتشكل الكيان المؤسسي الأمثل.

ويشرح الكتيب تفصيلا المراحل التي سار فيها المشروع، والنظرة المستقبلية ليس فقط للمشروع وإنما للقرية ككل من حيث: الإنتاج الحيواني، ومستوى إنتاج الألبان ومنتجاتها، ومستوى الزراعات والتركيب المحصولي، والمستوى الاجتماعي للقرية، ويلفت الكتيب النظر إلى أنه لو أمكن لهذا المشروع أن يعمم في مصر لتمت السيطرة أسعار اللحوم، ما يعني أن هناك صلة وثيقة بين التنمية في مستواها المحلي الصغير (الميكرو) ومستواها الكبير (الماكرو).

نعم نستطيع

تقول التجربة «نعم نستطيع» أن ننجز التنمية بقدراتنا المحلية، وعليه يحسم الجدل الدائر حول هذه الإشكالية منذ منتصف القرن الماضي. أظن أننا في لحظة تاريخية تستحق أن نعيد النظر في مشروعنا التنموي سواء في بعده القومي العام أو المحلي الذي يتم من خلال المشروعات التنموية التي تنفذ بواسطة المجتمع المدني في ربوع مصر.

"نعم نستطيع"، شريطة إطلاق إمكانيات الناس، وإدراك ما لدينا من موارد وإعادة تدويرها بقدرات تكنولوجية مبتكرة في كيانات مؤسسية حاضنة في ظل دولة تنموية التي يجب إعادة الاعتبار لها، ومراجعة جدية للسياسات النيوليبرالية، والإطلاع على الخبرات الثرية للآخرين في هذا المجال. تحية لكل المشاركين في هذه التجربة التي بحق تعد ومضة أمل تجدد الأمل في المستقبل.

بقلم: سمير مرقس