ان المعرفة هي الوظيفة الجديدة من وظائف المنظمة او المؤسسة شأنها شأن الانتاج والمالية والتسويق وغيرها . وان ادارة المعرفة هي التخصص الجديد في تخصصات الادارة . واذا كانت الارض او الالة هي التي كانت تنشيء الثروة سابقا فان المعرفة هي المورد الاهم للثروة حاليا ، اضافة الى مزايا المعرفة الاثيرية غير الملموسة ، التي تتسم بعدم القابلية على الاستهلاك ، لذا فان الوفرة لا الندرة هي السمة الاساسية للمعرفة ، وان اقتصادها هو اقتصاد الوفرة لا الندرة ، وعند استخدامها مرات ومرات فان اقتصاد المعرفة هواقتصاد تزايد العوائد بخلاف الاقتصاد التقليدي المتناقص العوائد .
والمعرفة هي احدث العوامل الانتاجية كمورد اساسي لإنشاء الثروة في الاقتصاد ومصدر اساسي للميزة التنافسية في الادارة . فالاقتصاد التقليدي قام على افتراضات الارض والعمل ورأس المال كعوامل تنشيء الثروة ، اما اقتصاد المعرفة فهو الاقتصاد الجديد الذي تولد منذ تسعينات القرن الماضي ، واخذ يتنامى دراماتيكيا و بشكل نوعي خلال مطلع القرن الحالي ، وفرض شروطه ومتطلباته وثقافته وهيكليته على كل النواحي الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية . ويعتبر رأس المال الفكري في الاقتصاد الجديد الاكثر اهمية من رأس المال المادي .. وخلافا للماديات التي تخضع لتناقص العوائد ، فان المعرفة ذات رافعة استثنائية تعمل على تزايد العوائد لذا فهي مورد لانهائي .
و من ابرز مؤشرات اقتصاد المعرفة هو ان صناعات التكنولوجيا العالية وتكنولوجيا المعلومات هي المحرك للنمو ، اضافة الى تزايد الطلب على ذوي المهارات التقنية العالية ، مع تطور منظومات الاتصالات والتقنيات الرقمية وشبكة الانترنيت العنكبوتية التي ضاعفت من ادوات نشر المعلومات على اوسع نطاق وسهلت الحصول عليها واستخدامها ومعالجتها .
ومن ابرز خصائص مجتمع المعرفة الابتكار والتعبير الذاتي ، أي تأكيد استقلالية الشخصية الانسانية في التصرف بحرية ووعي ابداعي من خلال الكومبيوتر وآفاقه الرحبة التي لانظير لها للتفاعل العقلي وتوفير مناخات الحوار مع البرامجيات المختلفة و مستلزمات الشبكة العنكبوتية التي لاتحدها حدود ، وما تهيؤه من تواصل و جهد انساني " تداؤبي " يعجز عن الرقي اليها مجتمع الصناعة الكلاسيكي الذي يؤكد على التماثل والتقييس النمطي والذي يعبر عن توجهاته بشكل تخصصي مؤذ ، قد وجد مثاله الأعلى في النموذج البيروقراطي الفيبري ، وتناولها بشكل نجم عنه كل هذا التضخم والترهل والهرمية والروتين والعزلة والتبلد .
والحقيقة ان المعرفة ليست نوعا واحدا متجانسا بل هي معارف ، اذ ان المعرفة ليس لها شكل محدد ولا يمكن وضعها في اطار واحد . اذ ان المعرفة الاكثر اهمية تكمن في رؤوس الخبراء وعلاقاتهم المميزة وتداؤب فرق العمل ، مما لايمكن نقله الى الاخرين بسهولة . كما ان لكل مؤسسة او شركة او منظمة معرفتها الخاصة التي تميزها و تميز نهجها في التعامل وفهم الامور والمعضلات ، وهذه تتكون من خلال الخبرة وتراكمها من جيل لجيل . وقد صنف ميشيل بولاني منذ الستينات بين المعرفة الصريحة والمعرفة الضمنية أي المعرفة الضمنية الكامنة ، حيث اشار الى اننا نعرف اكثر مما نستطيع ان نقوله الى الاخرين ، واننا يمكن ان نعمل اشياء بدون ان نكون قادرين على ان نخبر الآخرين بالضبط كيف نعمله .. ومن ثم جاء ايكاجيرو نوناكا الذي صنف المعرفة الى نوعين هما المعرفة الصريحة الرسمية القياسية النظامية الصلبة المعبر عنها كميا والقابلة للنقل والتعليم ، والقابلة للتسرب او التسريب .. والأخرى هي المعرفة الضمنية غيرالرسمية ، الذاتية ، التي يمكن التعبير عنها بطرق نوعية حدسية غير قابلة للنقل والتعليم ، وهي التي تعطي خصوصية للشركة او المؤسسة . ومنهم من صنف المعرفة الى المعرفة الجوهرية والمتقدمة والابتكارية التي تمكن الشركة من ان تقود صناعتها ومنافسيها وتميز نفسها عنهم .
واذا كانت المعرفة الضمنية تشير الى اننا نخبر اقل مما نعرف ، فان فجوة المعرفة – العمل ، هي ان الشركة تعمل بقدر من المعرفة اقل مما تعرف ، وقد ادخل هذا التساؤل في ادارة المعرفة من خلال طرح تساؤل تطبيقي آخر، لماذا لاتحقق الشركات اكثر اذا كانت تمتلك معلومات كبيرة ؟ وهذه الفجوة المؤرقة تدفع بأتجاه نقل المعرفة الى نشاط وجهد وتجاوز ضعف الكفاءة في ادارة المعرفة ، وعدم امتلاك الخرائط الواضحة بأماكن المعرفة ومواقعها المثمرة ، وآليات تفعيلها ، واساليبها الحوارية الديالكتيكية في النشوء والتطور والرقي . ولعل من ابرز اسباب هذه الفجوة هو نقص الادوات التنظيمية الفاعلة والخبيرة ، وشحة المنظور المعرفي ، والتقسيمات البيروقراطية المتخصصة التي تلقي بظلاله القاتمة وتناحراتها بشكل كئيب و قاتل للتطور التصاعدي اللولبي .
كذلك فأن ادارة المعرفة ليست جديدة ، فهي قديمة قدم التاريخ .. في وادي الرافدين العراق مهد الحضارات بسومر وبابل .. متجسدة في ملحمة كلكامش ومسلة حمورابي والعجلة الناقلة والعربات والكتابة المسمارية التي حفظت و نقلت المعارف العتيقة والثقافات الانسانية من جيل لجيل . وفي الحضارة الفرعونية وادارتها العريقة وورق البردي العجائبي . وموجودة ايضا في ثنايا الحضارة العربية الاسلامية وخوارزمياتها التي كانت وما تزال الحلقة المنشودة في مسيرة التقنية المعرفية التي فطن الغرب تماما الى آفاقها التي لايحدها حدود . وفي حضارة الصين العظيمة التي لم تأفل جذوتها على مدى الدهور والأزمان . وفي فلسفة الاغريق اليونان التي لم تخب حكمتها و شعلتها الأزلية . ولكن ادارة المعرفة بمفهومها وطروحاتها المعاصرة وتقنياتها المستجدة المذهلة تعتبر جديدة الى حد كبير . فمنذ التسعينات تحدث براين جوينر عن اجيال الادارة مؤكدا على ان الادارة تطورت في الماضي عبر ثلاثة اجيال و هي على وشك الدخول بالجيل الرابع ، وهي الادارة بالعمل " اعملها بنفسك " ، والادارة بالتوجيه " اعملوا بالضبط وفقا لللمقرر " ... والادارة بالنتائج " ابلغني ما تريد واترك لي كل شيء " .. اما الجيل الرابع فهو مزيج من تلك الاجيال الثلاثة .
و الجيل الثالث لادارة المعرفة يتطور مركزا على المستقبل وتوجيه مسار ادارة المعرفة ، نحو المزيد من التفاعل والتماسك والارتباط الاجتماعي الثقافي ، ونحو التعلم التنظيمي وتوليد المعرفة وعمليات الابتكار ، وهو اقرب الى ما يسمى بالهدم الخلاق وفقا لما قدمه جوزيف شومبيتر ، الذي اعتبر الابتكار الجذري محركا للنمو الاقتصادي والتغير الهيكلي للصناعة والرفاه الاجتماعي .
وبعد فهذا جانب يسير من التحدي او التحديات المعاصرة لمجتمع المعرفة وتقنياته وعوالمه التي تشبه الخيال وهي تتصاعد بسرعة الريح كالاشباح او كالمارد العملاق من القمقم الذي كانت حبيسة فيه كل تلك القرون المظلمة ، وازاء هذا المشهد المضيء ينبلج فجر جديد أمام الأنسانية من خلال تلاشي المسافات والابعاد المكانية والزمانية ليصبح العالم اصغر ثم أصغر ، فيغدو الحوار بل الهمس مباشرا بين ابناء الشرق والغرب والشمال والجنوب بلا استثناءات ولا حواجز ولا رقباء ، ذلك الأمر يطرح مفاهيم وقيما وثقافات وفرضيات وطروحات ورؤى لا سابق لها ، وافرازات جديدة متوالدة على كل المستويات والصعد وبخاصة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والاجتماعية والتربوية . . وذلك يستدعي العالم العربي وخبراءه العمل الجاد السريع لوضع ستراتيجيات ذكية طموحة في هذا المجال بشكل خاص ، بهدف التعامل و التفاعل الواعي المثمر مع المعطيات التقنية العلمية المعرفية في العالم المتقدم ولا اريد ان اقول الغرب فهذه المسميات الجهوية لابد ان تتلاشي من ربوع كوكبنا ( المعرفي ) خلال العقود القريبة وربما بشكل مبكر اكثر مما نتوقع ، فمجتمع المعرفة عصي على التقنين والتنميط تماما ، اذ هو عالم الابتكار والقفز نحو المجهول !!!
مراجع :
ـــ
للمزيد من التفاصيل انظر الى :
1- الدكتور نجم عبود نجم " ادارة المعرفة ، المفاهيم والاستراتيجيات والعمليات " مؤسسة الوراق للنشر، عمان ، 2004
2 - بيتر ف . دراكر، " الادارة للمستقبل ، التسعينات وما بعدها " ترجمة صليب بطرس ، الدار الدولية للنشر ، القاهرة 1994
3 - توم بيترز " ثورة في عالم الادارة " ترجمة محمد الحديدي ، الدار الدولية للنشر ، القاهرة 1995