لم يكن يحلم يوما أن يصبح شيخا للتجار أو أن يكون صاحب مصانع وتوكيلات، فتحصيله من العلم لم يتعد الكتاب (مكان لتحفيظ القرآن وتعليم اللغة العربية ومبادئ الحساب)، ولم يجد من يسانده، خسر وربح، لم يغتر بالمناصب التي تقلدها، ورفض الوجاهة السياسة التي عرضت عليه بإلحاح من المسؤولين، كما أنه رفض التطبيع مع إسرائيل، وبعد رحلة كفاح ومثابرة وصل إلى هذه المكانة.
إنه محمود العربي شاهبندر تجار مصر، ورئيس اتحاد الغرف التجارية السابق، وصاحب محلات ومصانع توشيبا العربي، ولد عام 1932 في أسرة ريفية فقيرة بقرية أبو رقبة مركز أشمون محافظة المنوفية في دلتا مصر، توفي والده وهو في سن صغير، وانتقل إلى القاهرة، عندما بلغ عمره العاشرة ليعمل بائعا في محل صغير لبيع الأدوات المكتبية عام 1942، ومع مرور الأيام اشتهر بالأمانة والصدق، وزاعت شهرته في التجارة، وفى عام 1954 التحق بالخدمة العسكرية لمدة ثلاث سنوات.
بدأت علاقته بالصناعة بإنشاء مصنع صغير للألوان والأحبار، لكنه حول مجال عملة من تجارة الأدوات المكتبية إلى تجارة وصناعة الأجهزة الكهربائية، وسافر إلى اليابان للحصول على توكيل للأجهزة الكهربائية، وبعد عودته أنشأ مصنعا، ودخل انتخابات الغرف التجارية ليصبح رئيسا لها لمدة 12 عاما، ومن التجارة إلى السياسة، حيث دخل انتخابات مجلس الشعب عن دائرتي السيدة زينب وقصر النيل، في تجربة وحيدة رفض أن يكررها بعد ذلك "فللسياسة رجالها وللصناعة والتجارة رجالها" كما يقول.
من الكتاب إلى التجارة
يفتخر الحاج محمود العربي أنه ولد لأب فقير لم يكن يمتلك أي شبر من الأرض، ولكنه كان يزرع 5 أفدنة بالإيجار، وكل ما استطاع الوالد أن يقدمه لابنه هو إلحاقه بـ "كتاب القرية" حين بلغ من العمر 3 سنوات، وبدأ الابن في حفظ القرآن، ومن خلاله تعلم الفرق بين الحلال والحرام.
بدأ العربي التجارة في سن صغير جدا بالتعاون مع أخيه الأكبر، الذي كان يعمل بالقاهرة وقتها يعمل بالقاهرة، ويقول لـ "الأسواق.نت" "كنت أوفر مبلغ 30 أو40 قرشا سنويا أعطيها لأخي لكي يأتي لي ببضاعة من القاهرة قبل عيد الفطر، وكانت هذه البضاعة عبارة عن ألعاب نارية وبالونات، وكنت أفترشها على "المصطبة" (مكان مخصص للجلوس أمام المنازل الريفية مبني من الطين) أمام منزلنا لأبيعها لأقراني وأكسب فيها حوالي 15 قرشا، وبعد ذلك أعطى كل ما جمعته لأخي ليأتي لي ببضاعة مشابهة في عيد الأضحى، وبقيت على هذا المنوال حتى بلغت العاشرة، حيث أشار أخي على والدي أن أسافر إلى القاهرة عام 1942 للعمل بمصنع روائح وعطور، وعملت به لمدة شهر واحد وتركته لأنى لا أحب الأماكن المغلقة والعمل الروتيني، وانتقلت للعمل بمحل بشارع الحسين -كان يبيع كل شيء- وكانت سياسة صاحب المحل البيع الكثير والمكسب القليل، لكنه كان يتآمر على الزبائن ولا يحسن معاملتهم، فكانوا لا يقبلون على المحل أثناء تواجده ويتكاثرون أثناء وجودي، ولاحظ ذلك صاحب المحل، فكان يتركه لي ويجلس على مقهى مجاور للمحل، وكان راتبي 120 قرشا في الشهر، وعملت في هذا المحل حتى عام 1949 ووصل راتبي 320 قرشا، وبعدها فضلت أن أعمل في محل جملة بدلا من المحل القطاعي لأنمي خبرتي".
كان أول راتب للعربي في المحل الجديد 4 جنيهات وعمل فيه لمدة 15 عاما، ارتفع خلالها راتبه إلى 27 جنيها، وكان حين ذاك مبلغا كبيرا (الدولار يساوي 5.40 جنيه)، حيث تمكن من خلاله من دفع تكاليف الزواج.
رب ضارة نافعة
روى الحاج محمود العربي لـ"الأسواق.نت" موقفا فريدا حدث خلال عملية تجنيده لقضاء الخدمة العسكرية الإلزامية، حيث كان الوحيد الذي التحق بالخدمة من مواليد 1932، وهي السنة التي حصل مواليدها على إعفاء من الخدمة الإلزامية، وتفاصيل ذلك أنه لم يتقدم لمركز التجنيد التابع له في الموعد المحدد، ما اعتبر هروبا من أداء الخدمة، وحاول أن يتفادى ذلك بالتقدم بنفسه طواعية إلى قسم شرطة الجمالية (الذي يشرف على منطقة الأزهر والحسين) في القاهرة ظنا منه أن ذلك سيعفيه من المخالفة، لكن مسؤولي القسم تعاملوا معه باعتباره متهربا من التجنيد، وتم تجنيده يوم 27/4/1954 ليقضي في الخدمة العسكرية 3 سنوات، لكنه يقول "رب ضارة نافعة" فقد كانت هذه السنوات الثلاث فاتحة خير عليه، حيث تعلم من الخدمة العسكرية الصبر والكفاح والتفاني وحب الوطن، وعايش حرب 1956، ورأى قصص كفاح الشعب المصري ضد العدوان الثلاثي، وبعد أن أنهى خدمته في الجيش مطلع أغسطس/ آب 1957 عاد ليعمل بنفس المحل.
وفي عام 1963 سعى العربي للاستقلال بنفسه في التجارة، لكن لم يكن لديه ما يبدأ به، ففكر هو وزميل له بنفس العمل، أن يتشاركا مع شخص ثري، على أن تكون مساهمته هو وصاحبه بمجهودهما، بينما يساهم الطرف الثاني بأمواله، وكان رأس مال المشروع 5 آلاف جنيه، وهكذا أصبح لديه أول محل بمنطقة الموسكي بالقاهرة، وما زال محتفظا به حتى الآن، حيث دفع فيه خلو "مقدم" ألفي جنيه وجهز المحل ب500جنيه ووضع 1500جنيه في الخزنة، وذهب إلى الرجل الثاني الذي كان يعمل معه، فأعطاه ما يكفيه من بضاعة دون أن يدفع أية مبالغ نقدية.
سار العربي على خطى صاحب المحل الأول الذي بدأ حياته العملية فيه، وهي أن يكسب قليلا ويبيع كثيرا، وبعد أن بدأ العمل الجديد بثلاثة أيام فقط مرض صاحبه وشريكه لمدة عامين، فكان يدير المحل بمفرده ثم أتى بعامل ليساعده في التجارة التي نمت بسرعة كبيرة حتى ارتفعت مبيعاته اليومية في عام 1964 إلى 1300 جنيه، وهو مبلغ يفوق مبيعات 10 محلات مجتمعة.
استمرت الشراكة عامين، ولكن تخللها خلاف حول إخراج الشريك الثالث المريض، وهو ما اعترض عليه العربي، وفي النهاية فضت الشركة، وكان المكسب 14 ألف جنيه له ولشريكه المريض، وبعد فض الشركة كان المحل من نصيب الشركاء الآخرين، واشتري هو وشريكه محلا آخر، وعاد الشركاء القدامى ليعرضوا عليه محلهم مرة أخرى، وبذلك أصبح يمتلك محلين بدلا من محل واحد ومعه أبناء شريكه المريض، ثم جاء بإخوته جميعا ليعملوا معه، بعد أن توسعت تجارته، ونجحت الشركة وحولها إلى شركة مساهمة.
عالم الأجهزة الكهربائية
كانت تجارة العربي تقوم أساسا على الأدوات المكتبية والمدرسية، ولكن الحكومة قررت في الستينات صرف الدفاتر المدرسية للتلاميذ بالمجان، وهو ما يعني أن تجارة العربي لم يعد لها وجود، ولكنه استطاع أن يستعيض عن ذلك بتجارة الأجهزة الكهربية، وخصوصا أجهزة التلفاز والراديو والكاسيت التي كانت تهرب إلى مصر من ليبيا، وحول العربي تجارته بالكامل إلى الأجهزة الكهربائية منتصف السبعينات مع انطلاق سياسة الانفتاح الاقتصادي، وفكر في الحصول على توكيل لإحدى الشركات العالمية، لكن وجود الأدوات المكتبية في محلاته كان يقف حائلا دون ذلك، إلى أن تعرف على أحد اليابانيين الدارسين بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، وكان دائم التردد على محلاته، وكان هذا الشخص الياباني يعمل لدى شركة توشيبا اليابانية، فكتب تقريرا لشركته، أكد فيه أن العربي هو أصلح من يمثل توشيبا في مصر، فوافقت الشركة على منحه التوكيل.
وفي عام 1975 زار العربي اليابان، ورأى مصانع الشركة التي حصل على توكيلها، وطلب من الشركة إنشاء مصنع لتصنيع الأجهزة الكهربائية في مصر وهو ما تم فعلا، على أن يكون المكون المحلي من الإنتاج 40% رفعت لاحقا إلى 60% ثم 65% حتى وصلت إلى 95%، ومع تطور الإنتاج أنشأ شركة توشيبا العربي عام 1978.
وفي العام 1980 انتخب العربي عضوا بمجلس إدارة غرفة القاهرة، واختير أمينا للصندوق، ثم انتخبت رئيسا لاتحاد الغرف التجارية عام1995.
ومن التجارة إلى السياسة يقول العربي: "أنا في الأصل تاجر ودخلت الصناعة من باب التجارة الذي أفهم فيه، وفى الثمانينيات طلب مني محافظ القاهرة آنذاك سعد مأمون أن أرشح نفسي لمجلس الشعب وألح في الطلب، ولكني رفضت وتركته، ثم طلب مني المحافظ التالي، وهو الفريق يوسف سعد أبو طالب، وبعد طول إلحاح منه وافقت ودخلت البرلمان لدورة واحدة، لكنني أرى أن عضوية مجلس الشعب كانت مضيعة للوقت بالنسبة لي، وكان مصنعي ومتجري أولى بي، فللسياسة رجالها وأنا لست منهم".
13 ألف عامل
وإذا كان محمود العربي بدأ تجارته بعامل واحد إلا أنه أصبح يوظف الآن 13 ألف شخص، ويطمح أن يصل بالرقم إلى 20 ألف شخص في 2010، موضحا أن الشركة الأم باليابان يعمل بها 180 ألف موظف، ويتمنى أن يصل لهذا الرقم في مصر لمساعدة الشباب
ويؤكد الحاج العربي أن أقل فرد في شركاته، وهو الساعي مثلا يبلغ راتبه حوالي 600 جنيه في الشهر، بينما أصحاب المؤهلات المتوسطة تصل مرتباتهم إلى ألف جنيه شهريًّا، أما صاحب المؤهل العالي فيصل مرتبه إلى 1500 جنيه شهريًّا، وكل هذه الأرقام هي بداية التعيين، ولديه خبرات تبدأ رواتبهم من 5 آلاف إلى 15 ألف جنيه.
والطريف أن العربي يرفض تماما أن يعمل في شركاته أي مدخن، ويشترط ذلك ضمن شروط التعيين، كما يرفض التعامل مع أي تاجر إسرائيلي، مؤكدا أنه ما دامت مشكلة احتلال الأراضي الفلسطينية باقية، فإنه لن يتعامل مع أي تاجر من إسرائيل، وقد سبق أن رفض مقابلة وفد تجاري إسرائيلي أثناء رئاسته لاتحاد الغرف التجارية لنفس السبب.