تعنى "هجرة الكفاءات" انتقال الأفراد عاليّ التأهيل (عادة خريجى التعليم العالى وما فوقه) من بلد ما لبلد آخر بغرض العمل والإقامة الدائمة. وقد عانت بلدان العالم الثالث من هذا النوع من الهجرة خلال القرن العشرين وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية. إلا أن "نزيف العقول" brain drain لم يلق اهتماماً دولياً كبيراً إلا فى نهاية الستينيات والسبعينيات الأولى بعد أن بدأت بلدان غربية مصنّعة، كإنجلترا، تفقد بعض كفاءاتها لدول غربية أخرى فى حال اقتصادى أفضل (باجواتى و بارنجتون، بالإنجليزية، 1976، 3).
وسنعرض فى هذه الدراسة لموضوع هجرة الكفاءات إلى خارج الوطن العربى، مع الاهتمام بعلاقته بمنظومة التعليم العالى والبحث والتطوير فى البلدان العربية[1]، من منظور التنمية العربية. ويعنى هذا، على وجه الخصوص، أننا لن نتطرق، تفصيلاً، إلى كثير من الجوانب المهمة ذات الصبغة الدولية فى الجدل العالمى حول هجرة الكفاءات، مثل الاقتراحات الخاصة بفرض ضرائب على الكفاءات المهاجرة فى بلدان الإقامة تخصص لتمويل الإنماء فى بلدانهم الأصلية، إما مباشرة، أو عن طريق مؤسسات دولية تدعم جهود الإنماء فى بلدان الأصل، أو تعويض البلدان المستقدمة للكفاءات لبلدان الأصل عن كفاءاتها المفقودة (انظر مثلاً: المرجع السابق، 22-30). كذلك لن نعرض لحلول الحد من هجرة الكفاءات التى تقتضى تعاوناً وثيقاً من الدول الغربية المصنعة. إذ تدل الخبرة التاريخية، من جانب، والظروف الخاصة بهجرة الكفاءات، من جانب آخر، أن هذه الدول لا تقبل، مختارة، التنازل عن موقعها الاستغلالى المهيمن فى النظام الاقتصادى العالمى.
ولم نحاول الإحاطة بتقديرات كمية لمدى تعرض أقطار الوطن العربى لهجرة الكفاءات. فمن ناحية- البيانات غير متوافرة. ومن ناحية أخرى، نعتقد أن مناقشة القضايا الأساسية فى هجرة الكفاءات، وعلاقتها بتطوير التعليم العالى والبحث والتطوير فى البلدان العربية، هى أجدى، فى مجال بحثنا الحالى، من الاستغراق فى تقديرات كمية غير موثوق بها كثيراً.
ويكفينا فى هذا الصدد الإشارة إلى تقديرات أنطوان زحلان (1981، 23) من أن هجرة الأطباء والمهندسين والعلماء العرب إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة وصلت حتى 1976 إلى حوالى 24.000 طبيب، 17.000 مهندس، و75.000 مشتغل بالعلوم الطبيعية يمثلون 50، و 23 ، و 15 بالمائة، على الترتيب، من جملة هذه الفئات المهنية فى الوطن العربى.
وعند نهاية القرن العشرين، يقدِّر أنطوان زحلان أيضاً أن "حوالى مليون مهنى عربى أو أكثر" يعملون فى بلدان منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية (1999، 184)، وهو تقدير يومئ إلى تصاعد هجرة الكفاءات فى الربع الأخير من القرن العشرين.
والأهم أن هجرة الكفاءات ينتظر أن تتصاعد أكثر باشتداد العولمة، فعلى الرغم من أن أحد التناقضات الرئيسية للنظام العالمى الجديد، النابعة من فرض البلدان المصنعة لمصالحها على البلدان المتخلفة، هى الإصرار على حرية التجارة فى السلع والخدمات على حين تستمر حدود البلدان المصنعة مغلقة أمام انتقال البشر إليها. ولكن، أيضاً انطلاقاً من مصالح البلدان المصنعة المهيمنة على ذلك النظام العالمى الجديد ومن الدور بالغ الأهمية للمعرفة والتقانة فى تحديد التقدم فى عالم كثافة المعرفة، يقوم سوق عمل عالمى واحد يختص بالكفاءات العالية التى ترى البلدان المصنعة فائدة فى اقتناصهم من البلدان المتخلفة، مع استمرار إغلاق الحدود فى وجه غيرهم من مواطنيهم.
والأخطر أن الهجرة ينتظر أن تصيب العناصر الأكثر استعداداً من الأجيال الأصغر من كفاءات البلدان المتخلفة، خاصة أولئك الذين ينتمون إلى الفئات الاجتماعية الأقدر بما يتيح لهم قرباً اجتماعياً وثقافياً من بلدان الهجرة المرتقبة من خلال وسائل الاتصال الحديثة، ويمكن لهم أن ينتظموا فى مساقات تعليمية تقربهم مهنياً وثقافياً من البلدان الغربية المصنعة. ويعنى ذلك التطور المرتقب سلب مجتمع الكفاءات فى البلدان المتخلفة أكثر شرائحه حيوية، مما يترتب عليه تفاقم قصور إنتاج المعرفة واكتسابها، على وتيرة متصاعدة، فى المستقبل.
وبهذا الشكل فإن هجرة الكفاءات ينتظر أن تساهم فى زيادة الاستقطاب الاجتماعى فى البلدان المتخلفة من ناحية، وفى توثيق الصلة، عضوية، بين الفئات الاجتماعية المتنفذة فـى هذه البلدان وبين الغرب المصنع، من ناحية أخرى، بما يفت فى عضد الهوية والانتماء لبلدان تحتاج، ماساً، لتعظيم معين الهوية والانتماء بين أهليها، إن كان لها أن تتقدم.
ومعروف أن بلدان الوطن العربى تتفاوت كثيراً فى مدى مساهمتها فـى تيار الهجرة هذا. فعلى سبيل المثال، من المهاجرين العرب من العلماء والمهندسين إلى الولايات المتحدة الأمريكية خلال الفترة من 1966-1977 قدمت مصر قرابة 60 بالمائة، وزادت مساهمة كل من العراق ولبنان عن عشرة بالمائة بينما كان نصيب كل من سوريا والأردن وفلسطين حوالى خمسة بالمائة من المجموع.
ويورد محسن خضر (2000، 152-155) بيانات تدلل على أن مصر هى، بين الدول العربية، الخاسر الأكبر من هجرة الكفاءات، فى الكم المطلق، وهذا أمر متوقع فى ضوء تقدم مصر على البلدان العربية فى عدد الكفاءات من ناحية، وقِدم إيفاد أبنائها للبلدان المصنّعة طلباً للعلم، وهو من أحد أسباب هجرة الكفاءات، من ناحية أخرى.
أما إذا أخذنا فى الاعتبار حجم القاعدة السكانية لبلد الأصل، فإن الوقع الكمى النسبى لهجرة الكفاءات يتباين بين هذه البلدان، على الترتيب من الأعلى للأدنى، على الوجه التالى: لبنان، فلسطين، الأردن، مصر، العراق، سوريا (ألان فيشر، 1981، 221-223). وإذا لاحظنا صعوبة الفصل بين الفلسطينيين والأردنيين فى مثل هذه الإحصاءات، وأن جزءاً ممن يصنفون كأردنيين هم أصلاً فلسطينيون، لاحتلت فلسطين رأس القائمة يليها لبنان ثم مصر.
ونقدم فى بقية الدراسة عرضاً نظرياً مختصراً لأثر هجرة الكفاءات على بلدان الأصل ثم نتطرق لتحليل أسبابها كمقدمة لتناول مواجهة هجرة الكفاءات. والموضوعان الأول والثانى لا يطرحان خصوصية عربية واضحة ولذلك نعالجهما بعمومية.