يشكل الأمن الاجتماعي للمواطن تحدياً كبيراً أمام خطط التنمية، بل يمثل الأولوية القصوى في خطط الدولة باعتباره خياراً استراتيجياً بالغ الأهمية، بهذا المفهوم جاء مشروع استراتيجية التوظيف السعودية ليتعامل منهجياً مع التحديات التي يواجهها سوق العمل، ولتجاوز اختلالاته الهيكلية، وتطوير تنافسية الكوادر البشرية، وأصبح هذا المشروع العنوان البارز والساخن في أحداث الساحة الاقتصادية، كونه يناقش قضية وطنية شاملة بكل المقاييس.
وقد هدفت وزارة العمل من هذه الاستراتيجية إلى التوظيف الكامل لقوة العمل، والزيادة المستمرة في مساهمة الموارد البشرية المواطنة، والارتقاء بانتاجية العامل المحلي لتضاهي انتاجية العامل في الاقتصادات المتقدمة.
جميل جداً ان تخرج إلينا وزارة العمل بالتعاون مع الجهات ذات العلاقة كمشروع استراتيجي لمعالجة قضية البطالة، ولسعودة الوظائف في القطاع الخاص بشكل كامل خلال ثلاث مراحل تنتهي في 25 عاماً، وقد اعتمدت الاستراتيجية في أسلوب تنفيذ خططها الكثير من الآليات والوسائل، وهي مازالت محل تنظير يؤمل أن تجد لها مكاناً على أرض الواقع ونحن إذ نشيد بهذه المبادرة الوطنية ذات الأهمية القصوى، على صعيد تنمية المورد البشري الوطني، وبناء الاقتصاد الوطني، وفق خطط منهجية تراعي التوازن بين الغايتين، نود في الوقت ذاته ابداء بعض الملاحظات التي أفرزتها القراءة المتأنية والمتأملة لتفاصيل هذا المشروع.
بداية نلاحظ ان الاستراتيجية اعتمدت تطبيق بعض مواد نظام العمل كآليات للتنفيذ، غير ان النصوص نفسها تحتاج إلى آليات لكي تجعلها قادرة على التفعيل، كما أن بعض ما اعتمد كآليات للتنفيذ يكون خارج نطاق صلاحيات وزارة العمل، ما يستدعي توسيع قاعدة الاستراتيجية لجعلها وطنية تشترك فيها قطاعات حكومية أخرى وليست داخل جلباب وزارة العمل فقط، خصوصاً وان الدعم المقدر لانجازها يتجاوز 700 مليار خلال المراحل الثلاث، وهذا يتطلب دعم الدولة على أعلى مستوياتها، وبالتالي نقل مسؤوليتها لجهاز جامع تنظوي تحته الجهات ذات العلاقة، مثل إنشاء هيئة مستقلة لتنفيذ الاستراتيجية لتكون الجهة المسؤولة عن ذلك باعتبار الاستراتيجية مشروعاً وطنياً يتعامل مع مجموعة من الوزارات المختلفة.
وإذا نظرنا إلى آليات دعم وتمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة نجدها لا تحقق بالضرورة الأهداف المأمولة من هذه الاستراتيجية، أما تحفيز الأنشطة الاقتصادية خارج المدن الكبرى وفي هذه المناطق النائية فهو من الأهداف المأمولة من هذه الاستراتيجية، أما تحفيز الأنشطة الاقتصادية خارج المدن الكبرى وفي المناطق النائية فهو من الأهداف الجميلة والأساسية التي اشتمل عليها مشروع الاستراتيجية.
نحتاج لتطبيق هذه الاستراتيجية بشكل تقل فيه المفاجآت، ويحقق الحد المناسب للنجاح، لابد من توفير وسائل وآليات التطبيق الجاد، والإحلال التدريجي الانتقائي، وذلك من خلال تأهيل مؤسسات تنمية الموارد البشرية وهذا يتطلب نظير قواعد البيانات المختصة بطالبي الوظائف وكذلك الوظائف التي تحتاج إلى التوطين، وإيلاء دور أكبر للمرأة من حيث التأهيل والتدريب والتوظيف وتوسيع مقاعدها في مؤسسات تنمية الموارد البشرية، وكذلك اعطاء دور أكبر للغرف التجارية في التنسيق بين رجال الأعمال وطالبي الوظائف وعدم حصر ذلك واقتصاره على مكاتب العمل، والتنسيق مع الجامعات فيما يخص قبول أعداد اضافية من الطلاب في الكليات العلمية، وإسناد دور حيوي للجامعات في مجال تدريب الخريجين.
نحن بحاجة إلى ايجاد بيئة وثقافة عمل تواكب هذه التطلعات، والحرص على التزاوج ما بين التوظيف ورفع الانتاجية، وهذا قد يدعونا إلى إعادة النظر في بعض بنود نظام العمل حتى لا يكون التركيز على الأمن الوظيفي على حساب الانتاجية، بحيث يتم ذلك ضمن الالتزام بمعايير العمل المتعارف عليها وأخلاق العمل المهنية حتى لا تسود ثقافة الاتكالية والتقاعس، لأن العمل في مجمله جزء من المنظومة القيمية للمجتمع.
يلاحظ ان الاستراتيجية خلت من المؤشرات والتوقعات المدعومة باحصائيات تبرر تلك الأهداف بطريقة علمية ومنطقية، وهذا ما جعل ما سمي بآليات التنفيذ - يبدو وكأنه اجراء لمواجهة مسألة روتينية وليس عملاً استراتيجياً بحجم القضاء على البطالة كأكبر مشكلة اجتماعية اقتصادية أمنية.
الميزة التنافسية للموارد البشرية تتطلب ضرورة تحويل الشاب السعودي إلى عنصر جذب في سوق العمل من خلال تأهيله ليكون قادراً على العمل، وراغباً فيه ومستقراً ويمكن الوصول إلى ذلك بوضع سقف أدنى للأجور لكل مؤهل، والالتزام بنظام العمل من حيث ساعات العمل، والاستحقاق وتفعيل دور ومهام اللجان العمالية بالمنشآت للاضطلاع بواجبها وفق قرار مجلس الوزراء الخاص بذلك، وتطوير آلية أعمال مكاتب العمل والمحاكم العمالية للبت في الخلافات ووضع حد للممارسات التعسفية ضد العمال والموظفين ومواجهتها بحزم شديد.
وهناك سؤال يفرض نفسه بقوة.. هل القطاع الخاص فقط هو المعني بهذه الاستراتيجية، وما هو دور القطاع الحكومي في المعالجة.. ان الاستراتيجية لم تحدد الأدوار المنوطة بكل قطاع من قطاعات الدولة، ولم تستحضر المتغيرات والفرضيات التي وضعت على أساسها الرؤى والأهداف.
هل الفترة الزمنية التي وضعتها الاستراتيجية تناسب رجال الأعمال باعتبارهم أصحاب الشأن في مؤسسات القطاع الخاص، وهم يضطلعون بجانب من المسؤولية تجاه الأجيال القادمة. وهل رجال الأعمال جاهزون ومقتنعون بهذه الاجراءات بالكيفية التي تجعلهم يدعمونها ويساندون أهدافها؟ فلابد أن نضع في الاعتبار مشكلات وهموم القطاع الخاص الوظيفية خلال المرحلتين القصيرة والمتوسطة حتى تنطلق الاستراتيجية بقوة المشاركة لا بالمشاركة بالقوة الجبرية، وبما لا يؤثر على التنمية الاقتصادية في البلاد هذه الملاحظات وغيرها، تبرز لنا بجلاءكم نحن بارعون في التنظير، والتخطيط، والدراسات، واعداد الاستراتيجيات المبهرة، لكننا عكس ذلك تماماً، في التطبيق والتنفيذ وتحويل تلك الجهود والأفكار والابداعات إلى واقع ملموس، إذ نحن بحاجة إلى إعادة صياغة، لتغليب جانب الجدية في نفوسنا، ولبذل جهود حقيقية في مجال توفير فرص ووسائل وآليات التنفيذ بشكل واقعي يضاهي تلك الجهود التي نبذلها في التخطيط ورسم الاستراتيجيات، فالملاحظات ليست سهلة، وإن لم نستصعبها فستضيف أمامنا مساحات التفاؤل بامكانية تطبيق الاستراتيجية التي تعتبر الاستثمار الحقيقي في الأجيال بشكل نوعي يخلق اقتصاد المعرفة والابداع والمهارة القادرة على التنافس.