يفترض أتباع النظرية التقليدية، أن التطور التكنولوجي هو عنصر خارجي في معادلة النمو لا يمكن التحكم به، بينما وجد أتباع النظريات الحديثة للنمو (رومر، لوكاس..)؛ أنّ هذا التطور هو عنصر داخلي يرتبط بالثروة المعرفية التي يمتلكها المجتمع، وبوسع هذا الأخير تحويله إلى تقدم اقتصادي فيما لو توفرت له بيئة تنظيمية وتشريعية ومؤسساتية ملائمة. بالتالي فإن الابتكار والتجديد لا يظهران على نحو غير متوقع وبدون انتظام، بل تؤدي إليهما عوامل معروفة، من أهمها الأفكار والأبحاث الهادفة إلى زيادة الانتاجية والربحيّة، والرأسمال البشري الذي يعبر عن الحاصل الكلي للمهارات العالية المتاحة.
وإذ تعتبر الاتجاهات الجديدة أن الاستثمار في الرأسمال البشري وتعميم المعرفة يمثلان القوة الدافعة للنشاط الاقتصادي، فإنها تولي أهمية خاصة للسياسات والتدخلات الحكومية بهدف تعزيز الإنتاجية والتنافسية الكلية للاقتصاد، وخصوصاً عبر دعم البحث والتطوير وتعزيز الاستثمار في التعليم والتدريب، كما تفتح هذه الاتجاهات آفاقاً متسعة لنمو مطّرد نظراً إلى أن عوامل الإنتاج الإضافية، كالتكنولوجيا ورأس المال البشري، تستفيد من تزايد الغلة، في حين أن العوامل الأخرى محكومة بتناقصها.
بيد أن تحقيق قفزة في النمو والتنمية لا يرتبط فقط بتحقيق تراكم جيد للرأسمال البشري، بل يعتمد على أمرين آخرين هما استمرارية وتوسع هذا الرأسمال، ومدى نجاح المجتمع في استخدامه. وهذا يحيلنا إلى المنهجيات المتعددة في قياس وتحديد الرأسمال البشري، والتي يمكن اختصارها باتجاهين رئيسيين:
الأول: ويعبّر عنه المؤشر الذي اعتمده تقرير «التنافسية العربية» الصادر عن «المعهد العربي للتخطيط»، كواحد من ثلاثة مؤشرات فرعية تشكل ما سمّاه «مؤشر التنافسية الكامنة». ويعتمد هذا المؤشر في قياس الرأسمال البشري على العوامل الآتية: معدل الانخراط الصافي في التعليم الثانوي والجامعي، معدل الحياة المتوقعة، الإلمام بالقراءة والكتابة لدى الكبار، والإنفاق على التعليم.
الثاني: ويوصف بالاتجاه الديناميكي والشامل لاختياره متغيرات «تعكس الأبعاد المختلفة لرأس المال البشري» وهي: القدرات الكامنة، اكتساب المهارات، الإتاحة والفاعلية». أهمية هذا الاتجاه أنه لا يهتم فقط بتحديد رصيد الموارد البشرية الحالي، بل يعنى أيضاً بما سيكون عليه في المستقبل وطريقة الاستفادة منه ومدى الهدر الواقع أثناء استخدامه.
سنقوم بالتالي بمحاولة قياس مؤشر الرأسمال البشري في لبنان بالاعتماد على الدليل المركب، الذي أورده الخبير في معهد التخطيط القومي في القاهرة، أشرف العربي، ويتكون هذا الدليل من ثمانية مؤشرات فرعية موزّعة على ثلاثة أدلة فرعية: الدليل الأول: ويعبر عن الرصيد المتراكم في لحظة زمنيّة محددة؛ ومؤشراته: متوسط عدد سنوات التعليم للأفراد البالغين، معدل الوفاة بين السكان الناشطين، متوسط نصيب العامل من القيمة المضافة في الصناعات التحويلية. الدليل الثاني: يشير إلى التدفقات المتتالية للرصيد المتراكم، ويشمل: معدل الإلمام بالقراءة بين الإناث البالغات، معدل الالتحاق بالتعليم الجامعي، جودة نظام التعليم. أما الدليل الثالث فيحدد مستوى الاستفادة من مخزون رأس المال ويتضمن مؤشرين: نسبة الجامعيين من إجمالي العاطلين عن العمل، ومؤشر بقاء الكفاءات في أوطانها.
وبتطبيق الطريقة المتبعة في احتساب المؤشرات، حصلنا على النتائج التقريبية التالية الخاصة بلبنان؛ (تقع النتائج نظرياً بين صفر وواحد صحيح حيث أن لارتفاع القيم دلالة إيجابية):
- دليل رصيد رأسمال البشري: بلغت قيمة هذا الدليل 0.51 ، ويقارب هذا المعدل المتوسط العام للدول المتوسطة الدخل، ما يضع لبنان إلى جانب كلّ من الإكوادور وروسيا والكويت، وخلف فنزويلا وسلوفاكيا، ويسبق دولاً عدة أخرى، منها تايلاند والبرازيل ومصر والهند...
- دليل التدفق: حقق فيه لبنان 0.57 وهو معدل أعلى من متوسط الدول المماثلة، ويساوي تقريباً معدل فنزويلا، لكنه يتخلف عما حققته دول عدة، بينها: بنما، سنغافورة روسيا، وسلوفاكيا..
- دليل الاستفادة من رصيد رأس المال البشري: سجل لبنان فيه معدلاً منخفضاً مقداره 0.44، وهذا يقل عن المتوسط العام للدول التي يقع لبنان في فئتها.
وباستخراج المتوسط الحسابي للأدلة الفرعية الثلاثة، نحصل على «دليل رأس المال البشري المركب» للبنان والبالغ 0.51 أي بحدود المعدل العام لمجموعة الدول المماثلة للبنان.
بالاستناد إلى هذه النتائج، يتبين أن لبنان لا يعاني من مشاكل كبيرة على صعيدي القدرات البشرية الكامنة واكتساب المهارات، بينما تتركز مشاكله في مسألتي إتاحة الرأسمال البشري وفاعلية استخدامه، أي أن الأزمة ليست في تراكم الرأسمال البشري، ولا في الثقة بتدفقه المستقبلي، بل تكمن في الهدر وفي ضعف الاستفادة من هذا الرأسمال.
تقودنا هذه النتيجة إلى خلاصتين:
أولاً: إن النتائج الإيجابية نسبياً التي حققها لبنان في الدليلين الفرعيين الأول والثاني (الرصيد والتدفق) لها علاقة بظروف اجتماعية وسياسية وثقافية تولدت مع الزمن ومنحت موارده البشرية ميزة تلقائيّة، وهذه الميزة مرتبطة إلى حد ما بنمو الرأسمال الاجتماعي وليس بتدخلات الدولة.
ثانياً: النتائج السلبية المسجلة في الدليل الثالث (دليل الاستفادة)، يتصل بفشل أو نقص فعالية أو حتى غياب السياسات الحكومية الخاصة بالتنمية البشرية، فالبطالة المرتفعة بين الجامعيين، وهجرة الكفاءات لا تفيدان عن وجود اختلالات في البنية التاريخية للاقتصاد، بقدر ما تنمّان عن عدم فعالية الإدارة الاقتصادية.
على الدولة إذاً، أن تعي أهمية الرأسمال البشري في تعزيز التنافسية والتحول نحو اقتصاد المعرفة، ما يمنح لبنان مناعة ما في مواجهة الأزمات وقد يساعده على تخطي الهشاشة التي تهدد استقراره.
بقلم: عبد الحليم فضل الله