للكاتب الاسلامي الكبير فتح الله كولن
لقد استخدم الرسول صلى الله عليه و سلم أصحابه ومن اتبعه بشكل صحيح، فوضع كلا منهم في مكانه المناسب، وعندما كان يعطي مهمة ما لأحدهم فمن المؤكد أنه كان أنسب الأشخاص الموجودين لتلك المهمة وإجراءاته شاهدة على هذا، إلى درجة أنه لو لم يكن هناك دليل آخر على نبوته لكان اكتشافه لقابليات الأفراد واستعمال كل فرد منهم في موضعه الصحيح وفي مكانه المناسب وإعطاء كل واحد منهم الوظيفة المناسبة والملائمة له للاستفادة القصوى من قابلياته وطاقاته وعدم وقوعه في أي خطأ في هذا الموضوع، أي استمراره في استخدام الأشخاص في الوظائف التي وكلها إليهم حتى أواخر أعمارهم -هذا باستثناء الحالات التي استخدم بعضهم لمدة مؤقتة تألفاً لقلوبهم ومراعاة لحالاتهم النفسية- دليلاً قائماً بذاته على هذه النبوة بحيث لا نملك إلا أن نهتف: “محمد رسول الله.”
لقد حفلت المرحلة الأولى للإسلام بالآلام وبالمحن وبأيام شديدة قاسية، ففي ظرف (5-6) سنوات بلغ عدد المؤمنين أربعين شخصاً فقط... وما كان في الإمكان آنذاك أن تحدث شخصاً حول الإسلام دون أن تخاطر بحياتك: حتى أن شخصاً في مكانة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ضرب مرات عديدة وأغمي عليه من شدة الضرب[1] وعمر بن الخطاب رضي الله عنه... هذا الرجل القوي الجبار الذي كان يصارع الجمل، ضرب مرات عديدة وديس عليه.[2] فإذا كان الظلم والقهر قد وصلا إلى هذا المستوى مع هؤلاء الأشخاص المعروفين. فتصوروا أنتم حال الآخرين من الناس.
في هذا الجو القاتم والمكفهر تعامل الرسول صلى الله عليه و سلم مع كل واحد معاملة خاصة، فلم يأمر مثلا أبا بكر وعمر رضي الله عنه بالهجرة إلى الحبشة، ولم يأمر كذلك علياًّ وزبيراً لصغر سنهما، ذلك لأن أمثال هؤلاء كانوا من الذين يستطيعون تحمل ما يجري في مكة.
كان عثمان بن عفان رضي الله عنه ذا بنية نحيفة، وكان من الصعب عليه أن يتحمل ذلك الجو القاسي الذي كان يعصف في مكة، ثم كان هو أفضل من يستطيع حماية المسلمين في الحبشة، لذا كلفه الرسول صلى الله عليه و سلم بهذه المهمة وأرسله إلى الحبشة.[3]
إليكم نماذج من هذا الأمر:
أ- أبو ذر الغفاري رضي الله عنه
فمثلاً جاء أبو ذر الغفاري رضي الله عنه إلى مكة ثم أعلن إسلامه، ولكن وجود مثل هذا الشخص ذي المشاعر الفوارة والعواطف المتأججة في مكة آنذاك لم يكن مناسباً بل ضاراً له ولغيره، لذا أمره الرسول صلى الله عليه و سلم بالرجوع إلى قبيلته والقيام بمهمة الإرشاد هناك وقال له: «ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري.» فرجع إلى قومه ولم يأت إلى الرسول صلى الله عليه و سلم إلا بعد فتح خيبر.[4]
كان أبو ذر عابداً زاهدا،[5] ومن أنصار العدالة الاجتماعية إلى درجة قد تحير علماء الاجتماع الحاليين، وهو في نظر البعض منهم أول من طرح الفكر الاشتراكي. لندع أفكارهم هذه لهم ولنرجع ونتساءل. ما الفقر؟ وكيف يمكن محاربته؟ كان أبو ذر رضي الله عنه أول بطل طرح هذا الأمر، وهو أحد الثلاثة الذين تشتاق لهم الجنة.[6] ومع ذلك فإنه عندما جاءه يطلب الإمارة رده. ففي الحديث الوارد في صحيح مسلم عن أبي ذر: قال: قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر! إنك ضعيف. وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة إلا من أخذها بحقها وأدّى الذي عليه فيها.»[7]
عندما قال النبي صلى الله عليه و سلم هذا لأبي ذر رضي الله عنه، لم يقل القول نفسه لأبي بكر أو لعمر رضي الله عنه، على العكس من ذلك فقد أشار إلى إمارتهما عندما أمسك بيده اليمنى يد أبي بكر رضي الله عنه وبيده اليسرى يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال: «إن لي وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض. فوزيرايَ من أهل السماء جبريل وميكائيل ووزيرايَ من أهل الأرض أبو بكر وعمر.»[8]
ومن ناحية أخرى فقد اطلع من وراء ستار الغيب إلى خلافة الصحابة الأربعة الراشدين وأعطى بعض الإشارات والإيماءات حولها. وعندما جاء ذكر عثمان بن عفان رضي الله عنه قال صلى الله عليه و سلم: «ائذن له وبشره بالجنة مع بلوى تصيبه.»[9] وفعلاً أحاطت البلايا بأواخر خلافة عثمان رضي الله عنه.
أجل، كان يعرف أفراد كادره معرفة جيدة... بل كان يعرفهم أكثر مما يعرفون هم أنفسهم، فلم يخطئ أبداً عند إسناد المهمات إلى أي فرد منهم، فقد يعتقد أبو ذر رضي الله عنه أنه أهل للإمارة، ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يعرف أبا ذر أكثر مما يعرف أبو ذر نفسه، لذا قال له: «يا أبا ذر! إنك ضعيف. وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة...» قال له هذا ولم يعطه إمارة. والآن لنعط مثالاً حول هذا الأمر.
ب- عمرو بن عَـبَـسَـة رضي الله عنه
جاء في صحيح مسلم ومسند ابن حنبل رضي الله عنه عن عمرو بن عَبَسَة أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه و سلم بمكة فقال له بغلظة: ما أنت؟ قال: «أنا نبي.» فقلت: وما نبي؟ قال: «أرسلني الله.» قلت: وبأي شيء أرسلك؟ قال: «أرسلني بصلة الأرحام وكسر الأوثان وأن يوحّد الله لا يُشرك به شيء» قلت له: فمن معك على هذا؟ قال: «حرٌّ وعبد» قال ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ممن آمن به. فقلت: إني متبعك.
حدث هذا في العهد المكي وفي وقت كان الرسول صلى الله عليه و سلم في حاجة ماسة إلى أي رجل فرد يقف بجانبه ليزداد قوة، ولكن الرسول صلى الله عليه و سلم كان يعلم من يستعمل وأين يستعمل ذلك الشخص، وما المهمة التي يعهدها إليه، لذا فقد قال لعمرو بن عَبَسَة ما قاله لأبي ذر الغفاري... قال له أن يرجع إلى قومه لأنه لن يستطيع المكوث في مكة ومقاومة الظلم والإرهاب فيها: قال: «إنك لا تستطيع ذلك يومَك هذا. ألا ترى حالي وحال الناس؟ ولكن ارجع إلى أهلك فإذا سمعت بي قد ظهرت فأتني»
وهكذا كان... إذ رجع عمرو إلى قومه... ومرت السنوات وبدأت الانتصارات تتوالى على الرسول صلى الله عليه و سلم وعلى المسلمين، وبلغت أنباؤها عمراً فتوجه إلى المدينة المنورة وقصد المسجد النبوي حيث كان النبي هناك مع أصحابه... لنتابع الرواية: فقدمتُ المدينة فدخلت عليه فقلت: يا رسول الله أتعرفني؟ قال: «نعم، ألست أنت الذي أتيتني بمكة؟.»[10]
واندهش عمرو من ذاكرة النبي صلى الله عليه و سلم... لأن تذكّر عمرو للحادثة في مكة ليس مهماًّ، لأنه لا يمكن أن ينسى هذه الحادثة التي تعد أهم حادثة في حياته ولكن الوضع يختلف بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه و سلم، فقد مرت عليه حوادث مشابهة عديدة ضمن هذه السنوات العديدة الحافلة بالآلام وبالمشقات، فكان من الغريب أن يتذكر وجهاً رآه لمدة خمس دقائق فقط بعد كل هذه السنوات الثقيلة التي تنسي الشخص أقرب أصدقائه. ولكن الرسول صلى الله عليه و سلم تذكره حالما رآه لأنه لم يكن ينسى أي إنسان ارتبط به. ولو لم يأت إليه عمرو بن عَبَسَة وأبو ذر رضي الله عنه بعد فتح مكة لأرسل في طلبهما، لأن النصر إنما تم بعد فتح مكة.
أجل، لقد كان يعرف أتباعه أكثر مما نعرف نحن أولادنا. ذلك لأنه كان لكل إنسان مكانه الخاص في قلبه، لأن مثل هذه المعرفة كانت ضرورية له لكي يستطيع أن يوكل المهمات إلى أصحابها الذين يستطيعون إنجازها وحمل عبئها.
هل هناك في التاريخ قائد آخر كان على هذا القدر من العلم بكادره وأتباعه..؟ لا أظن ذلك... ذلك لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم لم يكن قائداً وزعيماً فقط بل نبيا أيضا، وكل كلامنا يدور حول محور نبوته هذه.
ج- جُـليـبـيب رضي الله عنه
كنا قد تكلمنا سابقاً عن جُليبيب... وكان ككل شاب آخر في مثل هذا العمر يتعرض لبعض المشاكل النفسية تجاه الجنس الآخر، وقد فهم الرسول صلى الله عليه و سلم مشكلته هذه ودعا له. ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم استطاع ببيانه الساحر أن يقنعه بترك هذا ثم دعا له.[11]
أصبح جليبيب من أعف الشباب في المدينة. عن أبي بَرْزَة الأسلمي أن جُليبيبا كان امرأ يدخل على النساء يمر بهن ويلاعبهن فقلت لامرأتي: لا يدخلن عليكم جُليبيب فإنه إن دخل عليكم لأفعلن ولأفعلن. قال: وكانت الأنصار إذا كان لأحدهم أَيـِّمُ لم يزوجها حتى يُعلم هل للنبي صلى الله عليه و سلم فيها حاجة أم لا. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم لرجل من الأنصار: «زوجني ابنتك» فقال: نعم وكرامة يا رسول الله، ونعم عيني. فقال: «إني لست أريدها لنفسي» قال: فلمن يا رسول الله؟ قال: «لجُليبيب» قال فقال: يا رسول الله أشاور أمها. فأتى أمها فقال: رسول الله صلى الله عليه و سلم يخطب ابنتك. فقالت: نعم ونعمة عيني. فقال: إنه ليس يخطبها لنفسه إنما يخطبها لجُليبيب. فقالت: أجليبيب إنِيه أجليبيب إنِيه أجليبيب إنِيه؟ لا لعمر الله لا تزوجه. فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله صلى الله عليه و سلم ليخبره بما قالت أمها قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها فقالت: أتردون على رسول الله صلى الله عليه و سلم أمره؟ ادفعوني فإنه لم يضيّعني. فانطلق أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبره قال: شأنك بها فزوجها جُليبيبا. قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه و سلم في غزوة له قال: فلما أفاء الله عليه قال لأصحابه: «هل تفقدون من أحد؟» قالوا: نفقد فلانا ونفقد فلانا. قال: «انظروا هل تفقدون من أحد؟» قالوا: لا. قال: «لكني أفقد جُليبيباً» قال: «فاطلبوه في القتلى» قال: فطلبوه فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فقالوا: يا رسول الله ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه. فأتاه النبي صلى الله عليه و سلم فقام عليه فقال: «قتل سبعة، ثم قتلوه. هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه» مرتين أو ثلاثا ثم وضعه رسول الله على ساعديه وحفر له ما له سرير إلا ساعدا رسول الله صلى الله عليه و سلم، ثم وضعه في قبره.[12]
أجل، لم ينسه... إذ لم يكن ينسى أيّا من أتباعه وأصدقائه، لأنه كان رمز الوفاء.
د- علي بن أبي طالب رضي الله عنه
كانت معركة خيبر قائمة والحصار مستمراًّ، ولكن الأيام مضت دون إحراز أي نتيجة. وفي أحد الأيام قال الرسول صلى الله عليه و سلم: «لأُعطين هذه الراية رجلاً يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله» فبات الناس يَدُوكُونَ[13] ليلتهم أيهم يُعطاها فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه و سلم كلهم يرجون أن يعطاها فقال: «أين عليّ بن أبي طالب؟» فقالوا: هو يا رسول الله! يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه فأُتي به فبصق رسول الله صلى الله عليه و سلم في عينيه ودعا له فبرأ حتى كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية.[14] وفعلاً فتحت خيبر على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وتحققت نبوءة الرسول صلى الله عليه و سلم فما من أحد كلفه بمهمته إلا وأنجزها... فمثلاً قال عن خالد بن الوليد رضي الله عنه إنه سيف الله[15] وفعلاً أصبح خالد سيفاً من سيوف الله، فما من معركة دخلها إلا وانتصر فيها، لذا قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “لم تلد الأمهات رجلا مثل خالد.”[16]
وأودع الرسول صلى الله عليه و سلم إلى القَعْقَاع بن عمرو التميمي أيضاً وظائف مهمة أنجز جميعها بنجاح حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في حقه: “لا يُهزم جيش فيه مثله.”[17]
وعَيَّن أسامة قائداً على جيش وهو في السابع عشرة أو الثامن عشرة من عمره، وأرسله إلى مؤتة، وقد أظهر أسامة طوال حياته أنه كان أهلاً لمثل هذا الموقع.[18]
هـ- الزوجات الطاهرات رضي الله عنهن
كان اختياره لزوجاته من بين المئات من النساء اختياراً موفقاً يستحق الوقوف عنده. إذ كان عليه أن يختار زوجات يستطعن تحمل عبء مسؤولية أمومتهن للمؤمنين، وكان مصيباً تماماً في اختياره. فقد بينت الأيام أنهن من الذهب المصفى، فقد أصبحن مرشدات ومعلمات وخدمن الإسلام خدمة كبيرة، وقمن بوظيفة التبليغ والإرشاد للعديد من الرجال العظام الذين ازدحموا على أبوابهن. فكم من زاهد وعابد وعالم أمثال مسروق وطاووس بن كيسان وعطاء بن أبي رباح أخذوا الدروس وتعلموا منهن وكانوا تلاميذ لهن ونهلوا من علمهن.
فالرسول صلى الله عليه و سلم كان يختار المرأة التي ستكون في المستقبل مرشدة، ويهيئ لها إمكانية التعلم في بيته وإمكانية التعليم بحيث تصبح من ورثة دعوة النبوة في المستقبل، ولا توجد ضمن زوجاته الطاهرات امرأة واحدة لم تخدم هذا الهدف، فكما خدمت السيدة خديجة رضي الله عنها الإسلام في بدء الدعوة ووضعت كل ثروتها في هذا السبيل، خدمت الزوجات الأخريات هدف نشر المعرفة الإسلامية بنفس التصميم، وهكذا نعلم أنه ما اختار زوجاته بدءاً بخديجة رضي الله عنها وانتهاء بزوجاته الأخيرات إلا بفراسة النبوة، صحيح أنه تزوج خديجة رضي الله عنها قبل نبوته إلا أنه كان في ظل بشائر تلك النبوة وأماراتها، ولا يمكن تفسير اختياراته الصائبة كل هذا الصواب تفسيراً آخر.