يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ
(المائدة: 1)
( لىُّ الواجد يُحِلّ عرضه وعقوبته ) .. (حديث شريف)
مقـــدمة
إن الالتزام؛ وهو واجب قانونى يقع على عاتق شخص معين يسمى المدين، يوجب عيه القيام بعمل أو بأداء مالى معين أو قابل للتعين لصالح شخص آخر هو الدائن، فالالتزام الواجب التنفيذ هو الالتزام المدنى متى استجمع عنصريه؛ وهما: المديونية والمسئولية، فأثر الالتزام هو وجوب تنفيذه ولو جبراً على المدين، استجابة لعنصر المسئولية فيه. وذلك على العكس من الالتزام الطبيعى حيث يتجرد من عنصر المسئولية، فلا يكون قابلاً لغير التنفيذ الاختيارى، أى متروكاً لضمير المدين.
والأصل هو التنفيذ العينى؛ بأن يَنْصَبُّ على عين ما التزم به المدين تجاه دائنه، فعندما ينشأ الالتزام فغالباً ما يتمسك صاحب الحق بأن يتم التنفيذ فى الوقت المتفق عليه لارتباطه بتحقيق المنفعة المرجوة فى أفضل صورها، ولكى يتم تنفيذ الالتزام عيناً أو بطريق التعويض فيجب على الدائن أن يدعو مدينه لكى يقوم بتنفيذ الالتزام، فإذا ما استحال ذلك بفعل المدين أو خطأه أيًّا كانت صورة ذلك، فإنه لا يكون هناك مجالاً لغير التنفيذ بطريق التعويض، حين يحق للدائن أن يطالب مدينه بتعويض نقدى يقوم مقام التنفيذ العينى، وحينئذ يكون التنفيذ بطريق التعويض قضاءً، وتكون هذه الدعوة باتخاذ الدائن لإجراء شكلى يجب أن تستجمع فيه بعض الشروط حتى يكون صحيحاً من وجهة نظر القانون منتجاً لآثاره.
فإن كان تأخر التنفيذ يرجع لفعل المدين، وبالرغم من ذلك سكت الدائن، فإنه لا يُعتد بتأخر المدين الفعلى، فربما كان تأخره له ما يبرره، أو لأن الدائن قد تسامح فى تنفيذ مدينه لالتزامه. وإنما يعتد بتأخر المدين قانوناً حين يفصح الدائن عن إرادته فى قيام مدينه بالتنفيذ بأن يوجه إليه إنذاراً يخطره فيه بوجوب قيامه بالتنفيذ، وهذا هو الإعذار وجوهره التأخير عن تنفيذ الالتزام دون مسوغ قانونى. وقد يكون التأخر فى التنفيذ يرجع إلى فعل الدائن.
وهذا ما عبّرت عنه مقولة: قد أعذر من أنذر.. حيث أن الإنذار هو وسيلة الإعذار، حين يريد الدائن الحكم على خصمه.
وعلى هذا – بإذن الله – نتناول إعذار المدين فى فصل أول، من تعريفه وشروطه وشكله وآثاره.
ونتناول فى فصل ثان إعذار الدائن من حيث صوره وآثاره.
أولا: إعذار المــــدين
المقصود بالإعذار:
مجرد حلول الأجل دون وفاء المدين بالتزاماته قِبَل دائنه لا يفيد تقصير من جانب المدين، لمظنة تسامح الدائن فى وقت التنفيذ، أو لكون الوفاء كان فى موطن المدين ولم يسع إليه الدائن، والدائن متى أراد من مدينه أن يقوم بتنفيذ التزامه بحلول الأجل المضروب بينهما فى ذلك، فعليه أن يطالب هذا المدين بشكل رسمى تنتفى معه مظنة التسامح ويَوْضَع المدين مَوْضِع المُقَصِّر إذا لم يبادر إلى التنفيذ، فالمشرع قد اشترط الإعذار قبل الشروع فى التنفيذ الجبرى؛ سواء كان عينياً أو بِعِوَض، وقد قضت محكمة النقض فى ذلك بقولها: (الأصل فى التشريع المصرى أن مجرد حلول أجل الالتزام لا يكفى لاعتبار المدين متأخراً فى تنفيذه، إذ يجب للتنفيذ العينى للالتزام، كما يجب للتنفيذ بطريق التعويض إعذار المدين، حتى لا يحمل سكوت الدائن محل التسامح والرضا الضمنى بتأخر المدين فى هذا التنفيذ..)( ).
ولذلك نعرض لإعذار المدين فى ثلاثة مباحث: المبحث الأول نتعرض فيه لماهية الإعذار من حيث تعريفه وشكله وشروطه الموضوعية والغاية منه.
ونعرض فى المبحث الثانى لآثار إعذار المدين وما يترتب عليه فى ذمته، ونعرض فى المبحث الثالث لبعص الحالات التى لا تتطلب ضرورة الإعذار.
مـا هـــو الإعذار؟
إن الإعذار هو تصرف قانونى من خلال إجراء شكلى يقوم به الدائن لدعوة مدينه للقيام بالوفاء بما عليه من دين له، لذا فإن فكرة الإعذار تتجلى من خلال تعريف الإعذار، والغاية منه، والشروط الموضوعية له، وشكله، ونعرض لكل من ذلك فى مطلب مستقل.
تعــريف الإعذار:
ذهب فريق من الفقهاء إلى أن: الإعذار هو تسجيل التأخير على المدين( ) الغرض منه وضع المدين وضع المقصر فى تنفيذ التزامه بإثبات تأخره فى الوفاء به( ).
وذهب فريق آخر إلى تعريف الإعذار بأنه: الحالة التى يوجد فيها المدين الذى أنذره الدائن للوفاء بالتزاماته( ).
وفريق ثالث ذهب فى تعريفه إلى أنه: أمر يوجهه الدائن إلى المدين لينفذ التزامه، يثبت به رسمياً تأخر المدين فى التنفيذ، لسبب راجع إليه(4).
وذهب بعض الفقهاء إلى القول أن: إعذار المدين هو وضعه قانوناً فى حالة المتأخر عن تنفيذ التزامه(5).
من هذه التعريفات يتضح جلياً أن المشرع لا يعتد سوى بالتأخير القانونى، وهو الحالة القانونية التى يوجد فيها المدين غير منفذ لالتزامه من لحظة إعذاره(6).
الغـــــاية منـــــه:
الإعذار يفترض وجود مدين لم ينفذ التزامه بعد إزاء الدائن.. إلا أن المُشَرِّع لا يعتد بالتأخير الفعلى، وذلك مظنة تسامح الدائن فى تأخر مدينه عن تنفيذ التزامه، وهذه المظنة تنتفى بتوجيه الإعذار من الدائن لمدينه بما لا يتصور معه تسامح.
وعلى هذا تكون غاية الإعذار تحقيق كون المدين متأخراً فى تنفيذ التزامه، إذا لم يقم بالوفاء به فور الإعذار.
ففى القانون المدنى المصرى( ) أن مجرد استحقاق الأداء – بحلول الأجل، أو تحقق الشرط- لا يكفى لاعتبار المدين معذراً، بل يجب إفصاح الدائن عن رغبته فى أن يتم التنفيذ على الفور بتوجيه الإعذار إليه حتى يترتب على تأخره فى التنفيذ الآثار القانونية للإعذار.
فى فرنسا ذهب بعض الفقه( ) إلى اعتبار الإعذار أساساً لجعل المدين مخطئاً إذا تأخر فى التنفيذ، استناداً إلى أن وظيفة الإعذار هى اعتبار المدين متأخراً قانوناً وانعقاد مسئوليته عن ذلك، تأسيساً على أن الإعذار فى حد ذاته هو تصرف قانونى بمقتضاه يدعو الدائن مدينه بإجراء شكلى للقيام بالوفاء بما عليه من دين له، وبالتالى جعله عند عدم الوفاء متأخراً قانوناً عن الوفاء.
مما يعنى أن وظيفة وطبيعة الإعذار لا تختلط بالخطأ- الذى هو عنصر من عناصر المسئولية- بل هى اثبات تأخر أو تقصير المدين فى القيام بتنفيذ التزامه، فالأصح أن يُفْصَل بين الإعذار والخطأ، فقد يُعذر الدائن مدينه، ويَثْبُت مع ذلك أن المدين لم يرتكب خطأ بتأخره فى التنفيذ.. وإنما يصبح ملزماً بتنفيذ التزامه، بحيث أنه إذا تأخر عن التنفيذ استحق الدائن التعويض، وألقى عبء إثبات نفى الخطأ على عاتق المدين.
وقد يمكن القول؛ أن الإعذار له غاية ثلاثية الأبعاد:
1) إعلام المدين بمصلحة الدائن فى التنفيذ الفورى للالتزام :
يهدف الإعذار إلى إحاطة المدين علماً بأن الدائن له مصلحة جدية فى التنفيذ الفورى للعقد دون أدنى تأخر من جانب المدين.
حيث أنه بحلول الأجل دون قيام المدين بتنفيذ التزامه أو الوفاء بما عليه من دين إلى دائنه، وسكوت الدائن عن مطالبته بالوفاء، فقد يُعزى هذا إلى تسامح من جانب الدائن عن تأخر مدينه، أو أنه قد ارتضى بأن يُحدد مدينه وقت التنفيذ بما يتناسب مع ظروفه وأحواله، فالأجل يضرب عادة لصالح المدين لا لمصلحة الدائن، فلا يتصور أن مجرد حلول الأجل يكون مدعاة لتسوئ المركز القانونى للمدين.
ففى حالة حلول الأجل وعدم قيام الدائن بتوجيه الإعذار، قد يعتقد معه المدين أن تأخره فى الوفاء بما عليه لا يحقق ضرراً للدائن من جراء ذلك، أو موافقة الأخير على الوفاء فى تاريخ تالى لتاريخ الاستحقاق بمنحه أجلاً ضمنياً للتنفيذ.
لذا فعلى الدائن كى ينفى كل هذا الاعتقاد أن يقوم بإجراء شكلى- الإعذار- يعلن فيه صراحة عن إرادته فى قيام مدينه بتنفيذ التزامه والوفاء بما عليه، حتى يقطع فى الدلالة على عدم رغبته فى منح مدينه أية مهلة تكميلية.. وأن مصلحته تتحقق فى الوفاء الفورى لما التزم به المدين، وأن تأخر الأخير عن الوفاء بما عليه يحيق به الضرر ويحمله بنتائج وآثار هذا التأخير وما يؤدى إليه من حكم بالتعويض.
وعلى هذا لا محل للتعويض إلا بوجود الإعذار.. فقد وضع المشرع شرط الإعذار كقرينة تنفى تسامح الدائن ومؤشر قاطع على التمسك بحقه( )، حيث نص القانون المدنى المصرى على أنه: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين، ما لم ينص القانون على غير ذلك)( ).. وكذلك قد نص: (يجبر المدين بعد إعذاره .... على تنفيذ التزامه تنفيذا عينيا)( ).. أى أن القيام بالإعذار شرط جوهرى فى وجوب التنفيذ وترتيب آثاره فى ذمة المدين.
2) منح المدين فرصة أخيرة للتنفيذ العينى :
يهدف الإعذار إلى إعطاء المدين فرصة أخيرة لتنفيذ التزامه بعين ما انصرفت إرادته إلى الوفاء به من التزام، ففى الفرض الذى يكون فيه المدين- أو أحد خلفاءه- يجهل بحسن نية تاريخ الوفاء، تكون وظيفة الإعذار فى هذا الفرض تعيين تاريخ الوفاء بعين ما التزم به المدين، لذا يستهدف الإعذار منح المدين فرصة أخيرة لتنفيذ التزامه عيناً.
3) إحاطة المدين بشكل رسمى بعدم تنفيذه التزامه
يهدف الإعذار كذلك إلى إحاطة المدين علماً رسمياً بعدم وفاءه بالتزامه، واستظهار مدى إمكان تنفيذ الالتزام.
تلعب هذه الإحاطة دوراً جوهرياً فى تنفيذ الالتزام، فبدون هذه الإحاطة- المتمثلة فى الإعذار- قد يظل المدين على اعتقاده فى موافقة الدائن- بسكوته- على تأخير تنفيذ الالتزام، وينتفى هذا الاعتقاد بطريقة رسمية؛ بمطالبة الدائن مدينه بتنفيذ ما التزم به واحترام العقد المبرم بينهما، وأن هذا التأخير يترتب عليه الضرر للدائن وأحقيته فى التعويض نتيجة هذا التأخير.
وقد ينظر إلى الإعذار من وجهتين؛ إما أن يكون تشدداً من الدائن، وإما أن يكون رأفة بالمدين.
فمن وجه كونه تشدداً من الدائن فيكون ذلك فى إفصاحه جلياً عن المطالبة بحقه وعدم تهاونه فى ذلك، وأنه يضع المدين موضع المخطئ بتأخره عن تنفيذ عين ما التزم به.
ومن وجه آخر.. كونه رأفة بالمدين، أنه بمفهوم المخالفة لما سبق أن الدائن الذى لم يطالب بحقه بامتناعه عن إعذار مدينه إنما يُمَكِّن لاعتقاد المدين بتسامحه معه فى وقت التنفيذ وإمهاله لمدة أخرى، علاوة على أن القانون قد اشترط الإعذار للقول بالتعويض حين نص فى المادة 218 على أن: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين..)، فهو بهذا قد ترأف بالمدين ولم يوجب فى ذمته التعويض من يوم حلول أجل الوفاء، بل اشترط الإعذار لاستحقاق التعويض، كنوع من الرأفة بالمدين.
وفى بعض القوانين الأخرى اعتبرت أن مجرد حلول الأجل يوجب التنفيذ دون إعذار، وأن التأخر فيه رغم استحقاق الحق يكون مناط الحكم بالتعويض، كما فى القانون المدنى البرتغالى (م711)، واليابانى (م412)، والسويسرى (م102)( ).
ذهب فريق من الفقهاء فى فرنسا إلى أن للإعذار دوراً هاماً فى المجال الجنائى( ) حيث يسمح بتحديد دقيق لتاريخ ارتكاب الجريمة وذلك فى العقود الواردة بالمادة 408 عقوبات فرنسى التى ترد على أشياء مثلية كوديعة أو اقتراض مبلغ نقدى، حيث لن يتحدد التبديد القائم على الغش إلا من يوم قيام الدائن بإعذار المدين برد ما لديه، حيث يكون الإعذار بذلك وسيلة هامة فى تحديد تاريخ ارتكاب جريمة التبديد فى هذه الحالة، وكذلك بدء سريان مدة تقادم الجنحة من تاريخ هذا الإعذار.
شروطه الموضوعية:
تأخر المدين عن الوفاء بحق مشروع محدد المقدار مستحق الأداء هو مدار وجود الإعذار. وعلى هذا فإن للإعذار شروطاً موضوعية يجب أن تتوافر فيه؛ هى:
الشرط الأول : تأخر المدين
التأخير فى هذه الحالة يكون التأخير الفعلى عن تنفيذ الالتزام رغم استحقاقه، ويجب أن يكون هذا التأخير بلا مبرر، وإلا كان الإعذار بلا معنى، من ذلك أن المدين لا يكون متأخراً فى الوفاء بما عليه متى كان أحد الدائنين يطالبه بتسليم مبيع غير قابل للانقسام، وكان هذا المبيع يخص دائنين آخرين معه، وأن التسليم يجب أن يتم لهم جميعاً، وليس لأحدهم فقط.
كذلك يجب أن يكون هذا التأخير راجعاً إلى المدين حتى يتوافر سبباً موضوعياً للإعذار، فمتى كان هذا التأخير راجعاً إلى الدائن، أو لقوة قاهرة فإنه ينتفى موجب الإعذار؛ كأن يتعاقد شخص ما على استئجار عيناُ مملوكة لآخر وحالت قوة قاهرة دون تنفيذ المؤجر لإلتزامه- وهو المدين بتسليم العين للمستأجر- كوقوع زلزال هلكت معه العين المؤجرة، ففى هذا الفرض فإنه لا جدوى من الإعذار.
ورغم ذلك إن قام الدائن بإعذار المدين، فإنه يحق للأخير أن يدفع ذلك بإثبات أن قوة قاهرة قد منعته من التنفيذ.
الشرط الثانى : الحماية القانونية لحق الدائن
يجب أن يكون حق الدائن حق مشروع يحميه القانون بواسطة الدعوى، فلا فائدة من توجيه الإعذار فى دين لا يحميه القانون، كدين قد سقط بالتقادم، أو أنه دين متحصل من طريق غير مشروع ويبطل بطلاناً مطلقاً كدين القمار أو ما أشبهه.
وفى حالة البطلان النسبى فإن الإعذار يؤتى ثماره ويكون صحيحاً، ما لم يتمسك المدين بقابلية الحق للإبطال- كوجود حالة غش أو تدليس أو نقص أهلية- حيث يحتاج البطلان النسبى إلى حكم يقرره.
الشرط الثالث : الدين محدد المقدار ، ومستحق الأداء
يجب أن يكون الدين محدداً ومستحق الأداء، فإن لم يكن محدداً فلا يصح الإعذار، كذلك يجب أن يكون حالّ الأداء، فإن كان معلقاً على شرط واقف، إلا أن هذا الشرط لم يتحقق بعد، فإنه لا يحق للدائن توجيه الإعذار إلى مدينه حيث لم يَحِلّ أجل الوفاء بعد لعدم تحقق الشرط، وكذلك فى حال كون الدين مضافاً لأجل، لا يحق للدائن إعذار مدينه قبل حلول هذا الأجل، لكونه يقع على غير مستحق.
شكل الإعذار:
القانون المدنى الفرنسى هو أساس نظرية الإعذار فى القانون المدنى المصرى، حيث أخذت الشكلية فى الأساس من القانون الرومانى والذى هو أساس نظرية الإعذار فى الشرائع اللاتينية.
وقد نصت المادة 219 مدنى مصرى على كيفية الإعذار حيث أوردت أن: (يكون إعذار المدين بإنذاره أو بما يقوم مقام الإنذار, ويجوز أن يكون الإعذار عن طريق البريد على الوجه المبين فى قانون المرافعات كما يجوز أن يكون مترتباً على اتفاق يقضى بأن يكون المدين معذراً بمجرد حلول الأجل دون الحاجة إلى أى إجراء آخر).
1) الإنذار : فقد نص القانون المدنى على أن الإنذار- وهو ورقة رسمية من أوراق المحضرين( )- هو وسيلة الإعذار، فقد أعذر من أنذر، حيث بالإنذار يطلب الدائن من مدينه سرعة تنفيذ الالتزام الملقى على عاتق الأخير دونما تأخير، فالإنذار الذى يتحقق به الإعذار هو الإنذار- الإعلان- الرسمى على يد محضر الذى يتم إخطار المدين به مباشرة، الأمر الذى تنتفى معه بعد ذلك مظنة التسامح فى التأخير.
- وأما عن جواز الإعذار بطريق البريد، فقد كان ذلك متبعاً فى ظل قانون المرافعات القديم رقم 77 لسنة 1949 والذى أُلغى منه الإعذار بطريق البريد بموجب القانون رقم 100 لسنة 1962، ثم صدر قانون المرافعات الحالى رقم 13 لسنة 1968، وقد كان خلواً من النص على إمكان الإعلان عن طريق البريد، وبذلك لم يعد الإنذار بطريق البريد ممكناً أو معمولاً به( )، ولا يخفى أن هذا الشكل من طرق الإعذار كان فيه الكثير من الإجهاد على قلم المحضرين، فقد أخفق فى أن يخفف عنهم العبء، وترتب عليه فى كثير من الأحيان تعقيد الإجراءات وبطؤها، حيث لم تصل كثير من الرسائل إلى ذويها.
2) الأوراق الرسمية : من نص المادة 219 يتضح أن الإعذار يتم بما يقوم مقام الإنذار، فيقصد بذلك الأوراق الرسمية التى تنطوى على معنى الإعذار( )، أى: كافة الأوراق الرسمية التى تُعبر بوضوح عن رغبة الدائن الأكيدة والصريحة فى تنفيذ المدين لالتزامه، فإذا لم تكن هذه الإرادة واضحة فلا تعد الورقة إعذاراً ولو وجهت إلى المدين، مثال ذلك ما حكمت به محكمة النقص المصرية بأنه: (لا يعد إعذاراً إعلان المشترى بصحيفة دعوى فسخ البيع لإخلاله بتنفيذ التزام من التزاماته، إلا إذا اشتملت صحيفتها على تكليفه بالوفاء بهذا الالتزام)( ). كما قضت فى عبارة شاملة أن: (الإعذار هو وضع المدين موضع المتأخر فى تنفيذ التزامه، والأصل فى الإعذار أن يكون بإنذار المدين على يد محضر بالوفاء بالالتزام، ويقوم مقام الإنذار كل ورقة رسمية يدعو فيها الدائن المدين إلى الوفاء بالتزامه، ويسجل عليه التأخير فى تنفيذه، على أن تعلن هذه الورقة إلى المدين، بناء على طلب الدائن)( ).
ومن أمثلة ذلك: التنبيه الرسمى السابق على التنفيذ، ومحضر الحجز على أموال المدين، والتكليف بالحضور أمام المحكمة ولو كان أمام محكمة غير مختصة.
* التنبيه الرسمى : نصت المادة 401 من قانون المرافعات فى حالة التنفيذ الجبرى على العقار بأن: (يبدأ التنفيذ بإعلان التنبيه بنزع ملكية العقار إلى المدين لشخصه أو لمواطنه مشتملا على البيانات الآتية : 1- بيان نوع السند التنفيذى وتاريخه ومقدار الدين المطلوب الوفاء به وتاريخ إعلان السند . 2- إعذار المدين بأنه إذا لم يدفع الدين يسجل التنبيه ويباع عليه العقار جبراً).. فبنص هذه المادة فإن التنبيه الرسمى السابق على التنفيذ الجبرى على العقار يقوم مقام الإنذار الرسمى.
* صحيفة الدعوى : إن إعلان صحيفة افتتاح الدعوى إذا تضمن تكليف المدين بالوفاء فإنه يقوم مقام الإنذار، فالأصل فى الإعذار أن يكون بورقة رسمية من أوراق المحضرين، يبين الدائن فيها أنه يطلب من المدين تنفيذ الالتزام، ومن ثم فلا يعد إعذاراً إعلان المشترى بصحيفة فسخ البيع لإخلاله بتنفيذ التزام من التزاماته، إلا إذا اشتملت الصحيفة على تكليفه بالوفاء بهذا الالتزام( ).
فكثيراً ما يتم إنذار المدين فى نفس صحيفة الدعوى، فتكون الصحيفة إنذاراً ومطالبة فى نفس الوقت، لكن فى هذه الحالة سوف يتحمل الدائن الدعوى ومصروفاتها متى بادر المدين إلى التنفيذ العينى بناء على الإعذار الضمنى المستفاد من رفع الدعوى، حيث أنه قبل هذا التكليف لم يكن مقصراً فى تنفيذ التزامه لعدم سابقة إعذاره.
إذن فإعلان صحيفة افتتاح الدعوى يحل محل الإنذار، إذ أن مجرد رفع الدعوى يتضمن إعذار المدين( )، وإن شاب التكليف بالحضور فيه بطلان لا يفضى لافتتاح الدعوى سواء لعدم مراعاة مواعيد التكليف بالحضور أو لنقص فى البيانات اللازمة لصحة افتتاحها، وكذلك لو رفعت- كما سبق الإشارة- أمام محكمة غير مختصة.
استثناء :
كما سبق القول بأن صحيفة افتتاح الدعوى تعتبر فى حد ذاتها إعذاراً للمدين متى تضمنت تكليف الدائن له بالوفاء بما عليه من التزام، أى أن الإعذار فى الأصل لا يعد شرطاً لرفع الدعوى من الأساس، إلا أنه يرد استثناءً على حالات يستلزم فيها القانون إعذار المدين أولاً، حتى يتم قبول الدعوى، فهو بذلك يكون شرطاً أساسياً لقبول مثل هذه الدعوى، من ذلك ما أوجبه قانون إيجار الأماكن السكنية رقم 136 لسنة 1981م من ضرورة قيام المؤجر بتكليف المستأجر بالوفاء أولاً حتى يمكن قبول دعواه بالإخلاء أو الطرد: (لا يجوز للمؤجر أن يطلب إخلاء المكان ولو انتهت المدة المتفق عليها فى العقد إلا لأحد الأسباب الآتية : ... (ب) إذا لم يقم المستأجر بالوفاء بالأجرة المستحقة خلال خمسة عشر يوما من تاريخ تكليفه بذلك بكتاب موصى عليه مصحوب بعلم الوصول دون مظروف أو بإعلان على يد محضر...)، فإن وجوب الإعذار فى هذه الحالة يعد استثناء من الأصل فإن انتفى أو كان باطلاً أو تم النزول عنه فإنه يترتب على ذلك عدم قبول دعوى الإخلاء.
* محضر الحجز على أموال المدين : بتوقيع هذا الحجز يكون الدائن قد وضع المدين فى موضع المهمل المقصر فى تنفيذ التزاماته، وبذلك يعتبر إعذاراًً يتحقق به الإنذار.. والقاعدة أن التنفيذ جبراً بواسطة المحضر- حيث أن الحجز من أعمال التنفيذ- لا يكون صحيحاً إلا إذا تم إعلان السند التنفيذى إلى المدين وكان هذا الإعلان مشتملاً على تكليفه بالوفاء( )، فإعلان السند التنفيذى الذى يسبق إجراءات التنفيذ( ) يقوم مقام الإنذار.
* البروتستو : إذا كان البروتستو ورقة رسمية يقوم بإعلانها المحضر إلى المدين فى السند لإثبات امتناعه عن الوفاء، ويتضمن التنبيه الرسمى على المدين بدفع قيمة السند، فإن البروتستو يعتبر إعذاراً للمدين بالمعنى الذى يتطلبه القانون فى الإنذار( ).
- وقد قضت محكمة النقض بأنه: (لا يكفى لترتيب الأثر القانونى للإنذار أن يكون المشترى قد قال فى دعوى أخرى أن البائع قد أنذره، ما دام ذلك القول قد صدر فى وقت لم يكن النزاع على العقد المتنازع فيه مطروحاً، بل يجب تقديم الإنذار حتى يمكن للمحكمة أن تتبين إن كان يترتب عليه الفسخ أم لا؟، وذلك بالرجوع إلى تاريخه وما تضمنه، لأنه قد يكون حاصلاً قبل الميعاد المعين للوفاء أو قبل قيام البائع بتعهداته التى توقفت عليها تعهدات المشترى)( ).. أى: إن مثل هذا القول من المدين لا يعتد به فى كونه يقوم مقام الإنذار، رغم ثبوته فى مستندات رسمية وأمام القضاء ذاته، حتى يتبين لمحكمة الموضوع حقيقة هذا القول وأسانيده بتقديم أصل الإنذار للتعرف منه على توافر شروط استحقاق الحق ونفاذ آثار الإنذار- الإعذار- فى مواجهة المدين.
3) الاتفاق على اعتبار مجرد حلول الأجل إعذاراً : إن التأخير الفعلى عن تنفيذ الالتزام لا يعد إعذاراً بالمفهوم القانونى، بل يشترط الإعذار للقول بالتعويض: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين , ما لم ينص على غير ذلك)( )، حيث يجب على الدائن القيام بإجراء شكلى يعلن فيه للمدين بوضوح عزمه وإصراره على أن يقوم المدين بتنفيذ ما على عاتقه من التزام دون تأخير.
وقد أوردت المادة 219 من القانون المدنى استثناءً على هذا الأصل حين نصت على أن: (يكون إعذار المدين بإنذاره او بما يقوم مقام الإنذار.... كما يجوز أن يكون مترتبا على اتفاق يقضى بأن يكون المدين معذراً بمجرد حلول الأجل دون الحاجة إلى أى إجراء آخر)..
4) خطاب مسجل أو خطاب عادى أو بإخطار شفوى : الأصل أن مطالبة المدين بورقة غير رسمية؛ كخطاب مسجل، أو برقية، لا تقوم مقام الإنذار، ولا تكفى للقول بحدوث الإعذار، إلا حال وجود اتفاق بين الدائن والمدين على مثل هذه الصور، فإنها وقتها تكفى للقول بالإعذار، حيث يجوز مثل هذا الاتفاق لعدم تعلق وجوب الإعذار بالنظام العام( )، حيث أباحت المادة 219 مدنى الاتفاق على أن يكون المدين معذراً بمجرد حلول الأجل دون حاجة إلى أى إجراء آخر، فمن الأولى جواز الاتفاق بين الدائن والمدين على توجيه الإعذار فى صورة خطاب مسجل أو خطاب عادى أو بإخطار شفوى، إلا أنه يجب على الدائن إثبات حدوث الإعذار على هذا الوجه( ).
5) وفى الأحوال التجارية : إن اشتراط القانون الورقة الرسمية فى الإعذار إنما ينصرف إلى المسائل المدنية، أما المسائل التجارية فتكفى فيها الورقة غير الرسمية( )، حيث يجوز الاتفاق على اعتبار المدين معذراً بمجرد حلول الأجل، لذلك فيكفى أن يكون مكتوباً أيًّا كانت صورة الكتابة( )- كما جاء فى المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى للقانون المدنى- سواء بخطاب مسجل، أو خطاب عادى.. بل إن حتى التنبيه الشفوى يكفى فى هذه الأحوال متى قضى العرف التجارى بذلك بحسب ما ذهبت إليه محكمة النقض( ).. و تأسيساً على حرية الاثبات فى مجال المعاملات التجارية، إلا أن مجرد التنبيه الشفوى سيكون صعب الإثبات، فالقاعدة العامة أن الدائن ملزم بإثبات حدوثه، فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر.
على أنه يجب الانتباه إلى اتصال علم المدين بهذا الإعذار، فمتى كان الظاهر أن المدين لم يعلم بمضمون الخطاب- حال الاتفاق على جعل الإعذار فى صورة خطاب عادى- فإن ذلك لا يرتب آثار الإعذار القانونية فى ذمته.
أما إذا رفض استلام الإعذار– أيًّا كانت صورته- مع علمه بحقيقته، فيمكن القول مع ذلك بحدوث الإعذار حيث أفصح الدائن عن رغبته فى وضوح وجلاء فى أن يقوم المدين بتنفيذ التزامه، وكون المدين قد رفض استلام الإعذار فإن ذلك يرجع إلى فعله هو مع علمه بإرادة الدائن، بما يؤدى إلى ترتب آثار الإعذار فى ذمته.
والشكلية فى الإعذار ليست شكلية انعقاد التصرف- الإعذار- بل إنها شكل إثبات( ). ففى كل الأحوال يجب أن تتوافر بعض الشروط فى الإعذار بصوره المختلفة، بأن تكون إرادة المدين واضحة جلية- بما لا تدع معها مجالاً للشك- فى المطالبة بتنفيذ المدين لالتزامه دون تأخير، وأن يتضح ذلك من مضمون الإعذار ذاته على أى صورة كان، أما إذا لم يفصح الدائن عن إرادته فى تنفيذ الالتزام فلا يعد ذلك إعذاراً. كذلك يجب أن تكون مطالبة الدائن منصبة على حق حالّ الأجل- فإن كان معلقاً على شرط وجب تحقق الشرط قبل توجيه الإعذار-، مستحق الأداء، معين المقدار- فإن كان تعيين المقدار راجعاً إلى المدين فإعذاره صحيح، أما إن رجع تعيينه إلى الغير فيجب على الدائن أن يذكر كذلك رغبته فى إجراء هذا التعيين-.
ومن المستقر قضاءً أن بحث مدى حدوث الإعذار إنما هو مسألة واقع تخضع لرقابة قاضى الموضوع، وليس مسألة قانون خاضعة لرقابة محكمة النقض.
آثار الإعذار:
يترتب على قيام الدائن بإعذار مدينه- إعذاراً يعتد به القانون- عدة نتائج نعرض لكل منها فى مطلب مستقل.
مسئولية المدين عن الضرر الذى يلحق بالدائن:
لقد حدد القانون شرطاً بدونه لا يجوز التعويض، يتأسس على إفصاح الدائن بعمل قانونى- الإعذار- عن رغبته فى وضع المدين موضع المُعْذَر؛ أى: المتأخر قانوناً عن الوفاء بما يثقل كاهله من التزام( ).
لذلك فمتى قام الدائن بإعذار مدينه لتنفيذ الالتزام، فإنه بذلك يكون قد حقق الشرط الذى استوجبه المشرع لكى يستحق التعويض فى نص المادة 218 مدنى: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين...)، فمنذ وقت الإعذار يكون المدين مسئولاً- نتيجة تأخره فى تنفيذ التزامه- عن تعويض الدائن عما يلحقه من أضرار من جراء هذا التأخير، فالمشرع لا يعتد بالتأخير الفعلى، وإنما يعتد بالتأخير القانونى والذى يتأكد بعد الإعذار حيث يكون المدين معذراً.
ومن نص المادة السالفة، وبمفهوم عكسى يتضح أن المدين لا يلتزم بأى تعويض عن أى أضرار تلحق بالدائن فى مرحلة ما قبل توجيه الدائن للإعذار، وذلك للفكرة السائدة وهى مظنة تسامح الدائن وارتضاءه تأخر المدين فى التنفيذ، وعدم لحوق الضرر به من جراء ذلك، أو مظنة إمهاله للمدين مدة أخرى تالية للتنفيذ.
أما فى مرحلة ما بعد الإعذار، فإن المدين يلتزم بتعويض الدائن عن كل ضرر يلحق به نتيجة التأخر فى تنفيذ الالتزام، فتأخر المدين عن تنفيذ التزامه هو فى حد ذاته خطأ حيث أن سرعة التنفيذ واجب قانونى يترتب على احترام بنود العقد، الذى هو شريعة المتعاقدين( )، وبذلك تتوافر أركان المسئولية الثلاثة الموجبة للتعويض: خطأ المدين والمتمثل فى تأخره عن الوفاء بما فى عليه من التزام، والضرر الذى لحق بالدائن، بسبب هذا التأخير. بما يستوجب معه الحق فى التعويض عما لحقه من خسائر وأضرار بسبب ذلك.
فوائد التأخير :
فالدائن بذلك متى تحقق الضرر من التأخير فى التنفيذ أو عدم التنفيذ من الأساس فإنه يستحق التعويض بعد الإعذار، إلا إذا كان الدين محل الالتزام مبلغ من المال فلا يسرى التعويض القانونى المتمثل فى سريان الفوائد إلا من تاريخ رفع الدعوى( ) والمطالبة القضائية بها( )، حيث لا يكفى مجرد الإعذار فى هذه الحالة، وسند ذلك فى المادة 218 من القانون المدنى حيث نصت على: (لا يستحق التعويض إلا بعد إعذار المدين, ما لم ينص على غير ذلك)، وقد نصت المادة 226 مدنى على: (إذا كان محل الالتزام مبلغا من المال وكان معلوم المقدار وقت الطلب وتأخر المدين فى الوفاء به, كان ملزما بأن يدفع للدائن على سبيل التعويض عن التأخر فوائد قدرها أربعة فى المائة فى المسائل المدنية وخمسة فى المائة فى المسائل التجارية. وتسرى الفوائد من تاريخ المطالبة القضائية بها...).
كما نصت المادة 458/1 على أنه لا حق للبائع فى الفوائد إلا إذا أعذر المشترى: (لا حق للبائع فى الفوائد القانونية عن الثمن إلا إذا اعذر المشترى..).
ورغم تحريم الفوائد فى الشريعة الإسلامية والتى هى المصدر الأساسى للتشريع، إلا أنه لا يمكن القول بعدم سريانها فى ظل التشريع المدنى الحالى، حيث نص فى المادة 226 على سريانها من تاريخ رفع الدعوى كنوع من التشدد ومناهضة للربا قدر الإمكان، فجعل بدء سريانها من تاريخ أكثر تأخراً عن تاريخ الإعذار وهو تاريخ المطالبة القضائية بها، فمن الجائز أن لا يطالب الدائن بهذه الفوائد مكتفياً باقتضائه أصل الدين.
علاقة السببية :
وفى علاقة السببية إذا استطاع المدين أن يثبت أن تأخره فى التنفيذ بعد إعذاره إنما يرجع لسبب أجنبى عنه لا يد له فيه؛ كالقوة القاهرة - حدث غير متوقع ولا يمكن دفعه – أو لفعل الدائن نفسه، أدى إلى تأخره فى التنفيذ أو أدى إلى استحالة التنفيذ، فإنه بذلك ينأى عن انعقاد المسئولية التقصيرية أو العقدية فى ذمته فلا يكون هناك مجالاً للتعويض، حيث تفتقد المسئولية وقتها لأحد أركانها وهو علاقة السببية، فإن كان تأخر المدين هو الخطأ فإن الضرر الذى لحق بالدائن لم يكن نتيجة هذا التأخير بل إن هذا التأخير ذاته لم يقع من المدين بِمَلْكِهِ ولم يكن له يداً فيه، مما تنتفى معه علاقة السببية بين الضرر والخطأ.
رجوع الدائن عن إعذاره :
قد يحدث عملاً أن يقوم الدائن بتوجيه الإعذار إلى المدين فى تاريخ ما، ثم يقوم بعد ذلك فى تاريخ لاحق بتوجيه إعذار ثان إلى المدين يمنحه فيه مهلة للوفاء، مما يعنى معه أن إرادة الدائن قد انصرفت إلى إعطاء المدين مهلة أخرى، ونظرة إلى ميسرة، وحيث أن نفى النفى إثبات، فإن الإعذار هو نفى مظنة التسامح من الدائن فى أجل تنفيذ الالتزام، والمهلة التكميلية بعد الإعذار تكون نفى للإعذار، فهى بذلك تكون إثباتاً لمظنة تسامح الدائن فى وقت وفاء المدين بما على عاتقه من التزام. حيث أن العبرة هنا تكون بالإعذار الثانى وليس بالإعذار الأول.
الوفاء الجزئى :
قد يقوم الدائن بتوجيه الإعذار إلى المدين لتأخره فى التنفيذ، إعذاراً صحيحاً يعتد به القانون، يبادر على إثره المدين بالبدء فى تنفيذ ما عليه من التزام، إلا أنه قد يتوقف بعد هذا البدء عن تكملة تنفيذه لالتزامه، فى هذه الحالة لا يسرى التعويض منذ تاريخ الإعذار السابق على بدء التنفيذ، وإنما يتعين على الدائن أن يقوم بتوجيه إعذار آخر إلى المدين بعد توقفه عن الوفاء حتى يستحق التعويض عن تأخره أو متناعه عن المضى فى الوفاء بالتزامه( ).
رأى :
ذهب جانب من الفقه إلى القول بأنه: (لا يشترط لاستحقاق التعويض عن عدم التنفيذ سبق إعذار المدين، فى معنى أن الدائن سوف يستحق تعويضاً شاملاً عن كافة الأضرار الناتجة من عدم التنفيذ ولو لم يكن قد سبق له أن أعذر مدينه، ولا يسوغ لهذا الأخير أن يزعم بأنه لو كان قد أعذر من قِبَل الدائن برغبته فى التنفيذ لكان قد نفذ، فالواقع العملى أنه لم ينفذ حتى بالرغم من رفع الدعوى عليه) ( ).
انتقال تبعة الهلاك من الدائن للمدين:
نصت المادة 207 من القانون المدنى على: (1- إذا التزم المدين أن ينقل حقا عينيا أو أن يقوم بعمل، وتضمن التزامه أن يسلم شيئا ولم يقم بتسليمه بعد أن اعذر، فإن هلاك الشىء يكون عليه ولو كان الهلاك قبل الإعذار على الدائن. 2- ومع ذلك لا يكون الهلاك على المدين، ولو اعذر، إذا اثبت أن الشىء كان يهلك كذلك عند الدائن ولو أنه سلم إليه، ما لم يكن المدين قد قبل أن يتحمل تبعة الحوادث المفاجئة. 3- على أن الشىء المسروق إذا هلك أو ضاع بأية صورة كانت فإن تبعة الهلاك تقع على السارق).
إذاً فالقانون المدنى قد قرر فى حالة التزام المدين بتسليم شئ ورغم ذلك لم يقم بتسليمه، فإن تبعة هلاك ذلك الشئ تكون على عاتق المدين متى تم إنذاره بتسليم الشئ قبل هلاكه، وإن كانت تبعة هلاك الشئ تقع على عاتق الدائن قبل توجيه الإعذار.
ومن نص المادة السابقة يتضح أنه يجب أن يكون هلاك الشئ قد تم بعد إعذار المدين بقوة قاهرة، حيث كان من المفترض أنه سيكون على عاتق الدائن فالقاعدة- رغم ما يرد عليها من استثناءات- أن هلاك الشئ يكون على مالكه( )، كهلاك العين المؤجرة تكون على تبعة مالكها أو مؤجرها، وليس على مستأجرها المدين بردها إلى المؤجر فى نهاية عقد الإيجار، لكن مجرد توجيه الإعذار ينقل تبعة الهلاك على عاتق المدين، فتنتقل تبعة هلاك العين على المستأجر.
وكما فى عقد الوديعة( ) إذا هلك المُودَعُ بقوة قاهرة، فيتحمل تبعة هلاكه مالكه وهو المُودِع الدائن، فإن كان قد أَعْذَرَ المودع لديه المدين بالتسليم قبل هلاك الوديعة بأن يرد إليه وديعته، فإنه فى هذه الحالة ستنتقل تبعة هلاك الوديعة وتلقى على عاتق المدين بالتسليم وهو المودع لديه، حيث أنه بتأخره عن رد الوديعة بمجرد الإعذار يكون قد ارتكب خطأً يرتب مسئوليته ويوجب عليه تعويض مالك الوديعة عن قيمتها أو أن يرد إليه مثلها، لجواز القول أنه قد تسبب فى هلاك الشئ بفعله.
فبعد إعذار الدائن للمدين توجد قرينة قانونية مفادها أنه لو أسرع المدين مبادراً إلى رد أو تسليم الشئ إلى الدائن لما هلك الشئ تحت يده بأى حادث مفاجئ، فالمدين بعد إعذاره يعتبر مقصراً الأمر الذى يستوجب معه إلقاء تبعة الهلاك عليه( ).
العقد الملزم لجانبين :
وفى العقد الملزم لجانبين، تكون تبعة الهلاك تحت يد المدين بحسب الأصل على عاتق مالك الشئ وهو الدائن، ولن يتمكن المدين من مطالبة الدائن بتنفيذ التزامه المقابل، كما نصت على ذلك المادة 159: (فى العقود الملزمة للجانبين إذا انقضى التزام بسبب استحالة تنفيذه انقضت معه الالتزامات المقابلة له وينفسخ العقد من تلقاء نفسه)، مثال ذلك: أن يعهد أحد الدائنين إلى مدينه بإصلاح شئ معين، ثم يهلك هذا الشئ تحت يد الأخير، فى هذه الحالة يتحمل الدائن تبعة هلاك الشئ، ولا يستطيع المدين أن يلزمه بتنفيذ التزامه المقابل فى دفع ثمن الإصلاح ونفقاته، فهو بذلك يكون قد تحمل تبعة الخسارة الناتجة عن انفساخ العقد بعد استحالة تنفيذ التزامه، وقد أورد القانون المدنى ذلك فى الحديث عن عقد المقاولة فى المادة 665: ((1) إذا هلك الشئ بسبب حادث مفاجئ قبل تسليمه لرب العمل فليس للمقاول أن يطالب لا بثمن عمله ولا برد نفقاته. ويكون هلاك المادة على من قام بتوريدها من الطرفين. (2) أما إذا كان المقاول قد اعذر أن يسلم الشئ أو كان هلاك الشئ أو تلفه قبل التسليم راجعاً إلى خطأه وجب عليه أن يعوض رب العمل عما يكون هذا قد ورده من مادة العمل. (3) فإذا كان رب العمل هو الذى اعذر أن يسلم الشئ أو كان هلاك الشئ أو تلفه راجعاً إلى خطأ منه أو إلى عيب فى المادة التى قام بتوريدها كان للمقاول الحق فى الأجر وفى التعويض عند الاقتضاء).
ورغم ذلك فقد أجاز القانون للمدين إثبات العكس، حتى يتخلص من تبعة هلاك الشئ، فالفقرة الثانية من المادة 207 تنص على أن: (2- ومع ذلك لا يكون الهلاك على المدين، ولو اعذر، إذا اثبت أن الشىء كان يهلك كذلك عند الدائن ولو أنه سلم إليه، ما لم يكن المدين قد قبل أن يتحمل تبعة الحوادث المفاجئة)، فالمعنى من ذلك إذا تمكن المدين من إثبات أن هلاك الشئ كان لا محالة واقع ولو كان قد سلمه إلى الدائن، فهو بهذا يقيم الدليل على أن الهلاك لم ينجم عن خطأه، بل رجع إلى قوة قاهرة تندفع بها التبعة عنه.
لكن المدين إذا كان قد وافق من قبل على أن يتحمل هو بتبعة الحوادث المفاجئة فإن ذلك لا يدفع عنه المسئولية بل يظل على عاتقه تبعة هلاك الشئ لرضائه المسبق بذلك.
وهناك جانب من الفقه( ) لا يعزى تخلف المدين عن تسليم الشئ فى بعض الأحوال إلى خطأ منه وبالتالى لا يمكن تحميله فى هذه الحالة بتبعة الهلاك بقول: (مثل ذلك أن يَحْبِسَ المودعُ عنده الشئ المودع حتى يستوفى ما هو مستحق له من أجر أو مصروفات أنفقها فى حفظ الشئ، فيعذره المودع طالباً تسليمه، ثم يهلك الشئ بعد الإعذار، فيكون الهلاك على المودع المالك، ولو لم يَثْبُت أن الشئ كان يهلك كذلك عنده لو أنه سلم إليه).
فى حالة الشئ المسروق والحائز سئ النية:
نصت الفقرة الثالثة من المادة 207 على التالى: (3- على أن الشىء المسروق إذا هلك أو ضاع بأية صورة كانت فإن تبعة الهلاك تقع على السارق)، حيث أن خطأه الأول فى ارتكاب الجريمة- وهى السرقة- لا يسقط عنه، ولو أثبت أن المسروق كان يهلك عند المالك لو أنه رده إليه( ) وسواء أعذره المالك أم لم يعذره.
كما نصت المادة 984 على أن يتحمل الحائز سئ النية هلاك الشئ ولو كان بقوة قاهرة، حيث قالت: (إذا كان الحائز سئ النية فإنه يكون مسئولاً عن هلاك الشئ أو تلفه ولو كان ذلك ناشئاً عن حادث مفاجئ إلا إذا أثبت أن الشئ كان يهلك أو يتلف ولو كان باقياً فى يد من يستحقه)، وهو فى وضعه هذا يُعد أفضل حالاً من السارق الذى يُحمل فى كل الأحوال بتبعة هلاك الشئ المسروق؛ ولو كان لا محالة هالك وإن وجد لدى من له الحق فيه، أما الحائز سئ النية فيستطيع التنصل من تبعة الهلاك متى استطاع أن يثبت أن الشئ كان سيهلك كذلك أو يتلف وإن كان لا يزال باقياً فى يد صاحبه.
إلزام المدين بالتنفيذ عينياً:
الأساس فى التنفيذ أن يكون بعين ما التزم به المدين أن يؤديه للدائن بالطريقة المحددة له بحكم القانون أو بالاتفاق، وعلى هذا نصت المادة 203/1 على وجوب الإعذار أولاً حتى يمكن التنفيذ جبراً عن المدين بقولها: ((1) يجبر المدين بعد إعذاره طبقا للمادتين 219 و 220 على تنفيذ التزامه تنفيذاً عينياً، متى كان ممكناً)، وقد قررت محكمة النقض: (إما أن يكون تنفيذاً عينياً، فيقوم المدين بأداء عين ما التزم به، أو تنفيذاً عن طريق التعويض، والتعويض قد يكون نقدياً أو عينياً بإزالة المخالفة التى وقعت إخلالاً بالالتزام)( )، والتنفيذ بطريق التعويض ليس إلا طريق احتياطى يُلْجَأُ إليه متى انغلقت سبل التنفيذ العينى بسبب استحالته، إلا إذا حل اتفاق ضمنى بينهما على التنفيذ بطريق التعويض بأن يعذر الدائن المدين مطالباًَ إياه بالتعويض، ثم يسكت المدين عن عرض التنفيذ العينى، ففى هذه الحالة يحل التعويض محل التنفيذ العينى باتفاق الإرادتين، وإلى هذا ذهبت المذكرة الإيضاحية للمشروع التمهيدى للقانون المدنى( ).
كما أن التنفيذ العينى حق لكل من الدائن والمدين، حيث أنه العبء الذى استعد المدين للقيام به أصلاً، وهو الوسيلة الأكيدة التى ترضى الدائن إرضاءً كاملاً.
لكن إذا استحال أن يتم التنفيذ عيناً فإن المادة 215 من القانون المدنى قد قررت: (إذا استحال على المدين أن ينفذ الالتزام عيناً حكم عليه بالتعويض لعدم الوفاء بالتزامه, ما لم يثبت أن استحالة التنفيذ قد نشأت عن سبب أجنبى لا يد له فيه. ويكون الحكم كذلك إذا تأخر المدين فى تنفيذ التزامه).
وقد قضت محكمة النقض بأنه: (من المقرر أن الأصل وفقاً لما تقضى به المادتان 203/1، 215 من القانون المدنى هو تنفيذ الالتزام تنفيذاً عينياً، ولا يصار إلى عوضه أو التنفيذ بطريق التعويض إلا إذ ا استحال التنفيذ العينى، وأن تقدير تحقق تلك الاستحالة مما يستقل به قاضى الموضوع متى أقام قضاءه على أسباب سائغة)( )، فسواء كان التنفيذ عيناً أو بطريق التعويض فإن قيام الدائن بتوجيه الإعذار إلى المدين هو شرط جوهرى لإمكان المطالبة بأيًّا من الطريقين فى التنفيذ.
وتجدر الإشارة إلى أنه فى حالة تعدد المدينين فقد نصت المادة 293 على الآتى: ((1) لا يكون المدين المتضامن مسئولاً فى تنفيذ الالتزام إلا عن فعله. (2) وإذا اعذر الدائن أحد المدينين المتضامنين أو قاضاه فلا يكون لذلك أثر بالنسبة إلى باقى المدينين، أما إذا اعذر أحد المدينين المتضامنين الدائن فإن باقى المدينين يستفيدون من هذا الإعذار)، فقد فَرَّقَ المشرع بين حالتين من الإعذار متى تعدد المدينين المتضامنين، أولاهما: أن يقوم الدائن بتوجيه الإعذار إلى أحد المدينين فقط فيسرى أثر الإعذار فى مواجهة هذا المدين المُعْذَر فقط دون باقى المدينين المتضامنين، وذلك بنص القانون فينقطع التقادم مع هذا المدين فقط ويستمر سريانه لصالح باقى المدينين الآخرين. أما إذا قام أحد هؤلاء المدينين بتوجيه الإعذار إلى الدائن فإن كافة المدينين الآخرين يستفيدون من هذا الإعذار من توقف لسريان الفوائد وبدأ لسريان مدة التقادم لهم فى مواجهة الدائن وما إلى ذلك، كما سنرى لاحقاً فى حالات إعذار المدين لدائنه.
حالات لا ضرورة فيها لإعذار المدين:
هناك بعض الحالات لا يكون فيها إعذار المدين ضرورياً، وذلك إما بحسب الاتفاق المسبق بين الدائن والمدين، أو بنص القانون.
أولاً: بالاتفاق المسبق بين الدائن والمدين
عددت المادة 219 مدنى صور الإعذار وأوردت ضمن هذه الصور حالة اتفاق طرفى الدين على عدم الحاجة إلى توجيه الإعذار حيث نصت على: (...يكون إعذار المدين بإنذاره.... كما يجوز أن يكون مترتباً على اتفاق يقضى بأن يكون المدين معذراً بمجرد حلول الأجل دون الحاجة إلى أى إجراء آخر).
وعلة ذلك أن الإعذار قد شُرِّعَ لصالح المدين، ولا يتعلق استلزامه بالنظام العام( )، بما يمكنه أن يتنازل عنه فى اتفاق مسبق مع الدائن عند نشوء الالتزام، أو عدم التمسك به إذا بادر الدائن إلى رفع دعواه دون أن يوجه إليه الإعذار قبلها، وقد قضت محكمة النقض فى ذلك بأن: (الإعذار قد شرع لمصلحة المدين، وله أن يتنازل عنه، فإذا لم يتمسك أمام قاضى الموضوع بأن الدائن لم يُعذره قبل رفع الدعوى فلا يُقبل منه إثارة هذا الدفاع لأول مرة أمام محكمة النقض)( ).
والاتفاق الصريح لا يثير أى مشاكل، حين يكون واضحاً وقاطع الدلالة لا يحتمل الشك والتأويل، فى قبول المدين لإعفاء الدائن من ضرورة قيام الأخير بتوجيه الإعذار إليه، سواء كان هذا الاتفاق مكتوباً أو شفوياً( ). كما أنه يجب أن يكون صريحاً كشرطاً ضرورياً بحكم القانون فى حالة اعتبار العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه عند عدم الوفاء بالالتزامات الناشئة عنه حيث نصت على ذلك المادة 158: (يجوز الاتفاق على أن يعتبر العقد مفسوخاً من تلقاء نفسه دون الحاجة إلى حكم قضائى عند عدم الوفاء بالالتزامات الناشئة عنه , وهذا الاتفاق لا يعفى من الإعذار, إلا إذا اتفق صراحة على الإعفاء منه).
لكن ما يثير المشاكل هو الاتفاق الضمنى والذى يمكن للقضاء استخلاصه من أحكام العقد؛ ففى عقد المقاولة إذا ألزم رب العمل المقاول بإنهاء العمل فى تاريخ معين فإنه يعد اتفاق ضمنى على الإعفاء من ضرورة الإعذار، وكذلك أن يشترط الدائن الاستلام الفورى فى عقد التوريد. أما الشرط الجزائى فى العقد فلا يستفاد منه الاتفاق الضمنى على الإعفاء من الإعذار( )، وبالمثل شرط الوفاء فى موطن الدائن( )، كما أن الاتفاق على أنه فى حالة عدم دفع أحد الأقساط فإنه تحل باقى الأقساط المؤجلة( ) قد اختلفت فيه آراء الفقهاء بين كونه إعفاء ضمنى من ضرورة الإعذار وكونه لا يستفاد منه بالضرورة هذا الإعفاء، إلا أن إعمال الكلام خير من إهماله، وإلا فإنه لن يكون لاشتراط حلول باقى الأقساط من معنى، كما أن جوهر الإعذار هو التنبيه على المدين برغبة الدائن فى الوفاء وعدم تسامحه معه فى التأخير( )، فلو أنه قد تسامح معه لما اشترط عليه حلول باقى الأقساط المؤجلة، فهو بذلك يكون إعذاراً مسبقاً متزامناًَ مع العقد، حيث نبّه الدائن مدينه إليه وقت التعاقد، ولن يكون هناك من معنى لأن يعيد الدائن تأكيد هذه الرغبة بعد أن أفصح عنها مسبقاً فى العقد نفسه.
ومتى كان الاتفاق صراحة على أنه لا ضرورة للإعذار إلا أن الوفاء كان فى موطن المدين، فإنه يتعين على الدائن أن يتوجه إلى المدين فى موطنه حتى يقوم الأخير بالوفاء، فهو بذلك لا يعد مقصراً فى الوفاء بالتزامه، حيث أن وفاءه بما عليه من التزام فى هذه الحالة يعود إلى فعل الدائن المتمثل فى أن يتوجه إلى المدين فى موطنه حتى يتم الوفاء.
وكذلك قد يكون هناك اتفاقاً بين الدائن والمدين على عدم ضرورة الإعذار، إلا أن الدائن يقوم بتوجيه الإعذار عن عدم وفاء المدين بالتزامه، حيث يعد الدائن قد تنازل أو قد فسخ هذا الاتفاق؛ فكما أن للمدين أن يتنازل عن ضرورة توجيه الإعذار وهو مُشَرَّع لمصلحته، يجوز أيضاً للدائن أن يتنازل عن هذا الاتفاق الصريح والذى هو مقرر لمصلحته، مثال ذلك ما تقوم به شركات التأمين من اشتراطها فى عقود التأمين على أنه لا ضرورة لإعذار المؤمن عليه كلما تأخر فى تسديد قسط من أقساط التأمين، إلا أنها بالرغم من ذلك تقوم بإعذاره كلما تأخره عن الوفاء بقسط من أقساط التأمين.
وإذا ثار شك فى وجود مثل هذا الاتفاق- الإعفاء من الإعذار- فإن الشك يفسر لمصلحة المدين مما يوجب تطلب الإعذار قبل مطالبته بالتعويض( ).
ثانياً : بنص القانون1)
الحالات التى نصت عليها المادة 220 من القانون المدنى :
نصت المادة 220 مدنى على عدة حالات لا يكون معها ضرورة للإعذار بنصها: (لا ضرورة لإعذار المدين فى الحالات الآتية :-(أ) إذا أصبح تنفيذ الالتزام غير ممكن أو غير مجد بفعل المدين. (ب) إذا كان محل الالتزام تعويض ترتب على عمل غير مشروع. (ج) إذا كان محل الالتزام رد شئ يعلم المدين أنه مسروق أو شئ تسلمه دون وجه حق وهو عالم بذلك. (د) إذا صرح المدين كتابة أنه لا يريد القيام بالتزامه).
أ) إذا أصبح تنفيذ الالتزام غير ممكن أو غير مجد :
إن دعوة الدائن مدينه لتنفيذ عين ما التزم به تقتضى بالضرورة أن يكون مثل هذا التنفيذ ممكناً، فمتى كان هذا التنفيذ محالاً أو غير ذى جدوى بفعل المدين فيكون توجيه الإعذار إلى المدين وقتها هو محض عبث، وهذا من باب المنطق، إلا أن المشرع قد نص عليه قطعاً للشك باليقين.
ومن أمثلة الاستحالة بفعل المدين: تقاعس المحامى عن رفع دعوى استئناف أو نقض فى الموعد القانونى لرفع الدعوى، أو نفوق الماشية قبل تسليمها إلى المشترى.. إلخ.
ومن أمثلة عدم جدوى تنفيذ الالتزام: تخلف مطرب أو فرقة فنية عن إحياء حفل زفاف شخص ما؛ حيث أن حفل الزفاف يكون فى موعد محدد غير قابل للتسويف والمد أو التأجيل، وكذلك فى حالة تعهد الطبيب بالتدخل الجراحى لإنقاذ إبصار مريض، وأهمل ولم يتدخل فى التوقيت المناسب مما نتج عنه فقد المريض للبصر، فيصبح التدخل الجراحى عديم الجدوى.
وفى هذه الحالة يستحق الدائن فى تنفيذ الالتزام التعويض دون الحاجة إلى قيامه بتوجيه الإعذار إلى مدينه.
أما إن كان استحالة تنفيذ الالتزام أو عدم جدواه يرجع لسبب أجنبى لا يد للمدين فيه، فإن التزامه ينقضى دون مسئولية عليه ودون إمكان الرجوع عليه بالتعويض، ولا ضرورة وقتها لتوجيه الإعذار.
ب) إذا كان محل الالتزام تعويض ترتب على عمل غير مشروع :
العمل غير المشروع الذى يرتب المسئولية التقصيرية، لا يلزم الإعذار عنه لاستحقاق التعويض كما قضت بذلك محكمة النقض: (.. فلا يصح النعى عليه بأنه قد قضى بالتعويض دون تكليف رسمى، إذ أن هذه مسئولية تقصيرية لا يلزم لاستحقاق التعويض عنها التكليف بالوفاء)( ).
فارتكاب عمل غير مشروع يتمثل فى إخلال الشخص بالتزام قانونى هو واجب الحيطة والحذر بعدم الإضرار بالغير، فإذا ما حدث إخلال نحو هذا الواجب ووقع الضرر بالغير فعلاً، فإن التنفيذ العينى لهذا الالتزام يكون غير ممكن، مما يستتبع عدم الجدوى من توجيه الإعذار.. كان ذلك رأى جانب من الفقه( ).
وذهب رأى آخر( ) إلى سبب إعفاء الدائن (المضرور) من توجيه الإعذار إلى المدين هو القانون، حيث اعتبر المدين مخطئاً من وقت تحقق الضرر- نشوء الالتزام- وأن هذا التقصير يكفى لإعفاء الدائن من إعذاره، لعدم استحقاق المدين أن يحاط بضمانة الإعذار فى هذه الحالة.
(فإذا ما قتل شخص شخصاً آخر متعمداً أو ضرب شخص شخصاً آخر فأحدث به عاهة، فإنه يلتزم بتعويض أسرته فى الحالة الأولى، وبتعويضه هو شخصياً فى الحالة الثانية، وفى كلتا الحالتين لا يتصور اشتراط إعذار القاتل أو المعتدى لإمكان مطالبته بالتعويض لأن المسئول عن التعويض يكون مسئولاً عنه من لحظة حدوث الضرر) ( ).
ج) إذا كان محل الالتزام رد شئ يعلم المدين أنه مسروق أو شئ تسلمه دون وجه حق وهو عالم بذلك:
هذا الالتزام هو التزام غير تعاقدى لا ينشأ عن عقد بين الدائن والمدين، وإنما ينشأ ويسأل عنه المدين بمجرد نشوءه( )، ففى مثل هذه الحالة يكون المدين سئ النية، لعلمه المسبق أن الشئ الذى تحت يديه أو فى حيازته إنما هو شئ مسروق أو أنه قد تسلمه وليس له الحق فى ذلك، فهو بين مرتكب لعمل غير مشروع أو مثرٍ على حساب الغير بسوء نية، فمن هذا المنطلق يكون غير جدير بالإفادة من ضمانة الإعذار، إذ كان ينبغى عليه المسارعة من تلقاء نفسه إلى رد الأمور إلى نصابها بأن يرد الشئ إلى الدائن فى هذا الفرض، وعلى هذا تترتب مسئولية المدين عن التأخر فى الرد حيث نصت المادة 979 مدنى على أن: (يكون الحائز سيئ النية مسئولا من وقت أن يصبح سئ النية عن جميع الثمار التى يقبضها والتى قَصَّرَ فى قبضها غير أنه يجوز أن يسترد ما أنفقه فى إنتاج هذه الثمار).
د ) إذا صَرَّحَ المدين كتابة أنه لا يريد القيام بالتزامه :
فى هذه الحالة يكون من غير المُجْدى- بداهةً- أن يوجه الدائن الإعذار إلى مدينه، حيث صرح المدين بنيته فى عدم تنفيذه الالتزام الملقى على عاتقه، فمن باب أولى أن تسقط فى حقه الضمانة القانونية المرتبة لمصلحته، حيث لا جدوى من دعوته لتنفيذ التزامه بتوجيه الإعذار إليه. فغاية الإعذار هى وضع المدين موضع المقصر المتأخر عن تنفيذ التزامه، إلا أنه فى هذه الحالة يعلن إصراره وعزمه على عدم تنفيذ التزامه، بما يُثبت فى حقه التقصير المبتدأ فى تنفيذ التزامه، كما تنتفى مظنة تسامح الدائن فى وقت تنفيذ مدينه لما عليه من الالتزام.
ويجب الانتباه إلى أن القانون قد استلزم بأن يكون هذا التصريح كتابى بنص المادة 220/د: (إذا صرح المدين كتابة أنه لا يريد القيام بالتزامه)، إلا أن الفقه قد ذهب فى هذا الشأن إلى مذهبين؛ أولهما( ): أن الكتابة مطلوبة للإثبات وليس للانعقاد، أى: يمكن إثبات الرفض بما يقوم مقام الكتابة كإقراره بتصريحه هذا شفاهة، أو أن ينكل عن اليمين الموجهة إليه فى هذا الصدد، كما ذهبت إلى ذلك محكمة الإسكندرية الأهلية حين قررت: (إقرار المدين بتقصيره فى القيام بالتزامه يقوم مقام الإعذار)( ).
وثانيهما( ): أن الكتابة هنا مطلوبة للانعقاد لا للإثبات، وذلك لصريح نص القانون، إضافة إلى توكيد جدية المدين فيما صدر عنه من تصريح بالكتابة.. ونأياًَ عن كون التصريح الشفوى قد وقع تسرعاً من المدين لم يتدبره، أو تهديداً للدائن لم يقصده المدين( ).
وهذه الكتابة لا تشترط صيغة أو ألفاظ معينة، بل تكفى أى عبارة قاطعة الدلالة فى إصرار المدين على عدم تنفيذ التزامه، كأن يكون المدين قد: (أعلن المطعون ضده- الدائن- باعتبار العقد مفسوخاً من جهته)( ).
2) حالات أخرى متفرقة منصوص عليها قانوناً ( ):
أ) بيع العروض والمنقولات: نصت المادة 461 مدنى على أنه: (فى بيع العروض وغيرها من المنقولات إذا اتفق على ميعاد لدفع الثمن وتسلم المبيع يكون مفسوخاً دون حاجة إلى إعذار إن لم يدفع الثمن عند حلول الميعاد إذا اختار البائع ذلك وهذا ما لم يوجد اتفاق على غيره). أى: أنه يفسخ عقد البيع من تلقاء نفسه دونما حاجة من البائع- الدائن بثمن المبيع- إلى إعذار المشترى- المدين بالثمن-، ودنما حاجة إلى صدور حكم قضائى، حيث يقع الفسخ هنا فى هذه الحالة بقوة القانون، ودون الحاجة إلى النص عليه فى عقد البيع، ما لم يتفق المتعاقدان على خلاف ذلك صراحة.
ب) فوائد حصة الشريك النقدية فى الشركات: نصت المادة 510 على أن: (إذا تعهد شريك بأن يقدم حصته فى الشركة مبلغاً من النقود ولم يقدم هذا المبلغ لزمته فوائده من وقت استحقاقه من غير حاجة إلى مطالبة قضائية أو إعذار وذلك دون إخلال بما قد يستحق من تعويض تكميلى عند الاقتضاء). فى هذه الحالة مجرد حلول أجل استحقاق مبلغ حصة الشريك دون وفاءه بها يرتب فى ذمته سريان فوائد التأخير دون حاجة إلى إعذار أو مطالبة قضائية بها.
ج) مسئولية الشريك عن فوائد ما فى ذمته مبالغ: نصت المادة 522/1 مدنى على أنه: (إذا أخذ الشريك أو احتجز مبلغاً من مال الشركة لزمته فوائد هذا المبلغ من يوم أخذه أو احتجازه بغير حاجة إلى مطالبه قضائية أو إعذار وذلك دون إخلال بما قد يستحق للشركة من تعويض تكميلى عند الاقتضاء). وذلك سواء كان الشريك منتدباً أو غير منتدب لإدارة الشركة، فواجب الشريك ألا يحتجز ما قبضه أو أخذه بوصفه مالاً للشركة، بل عليه المبادرة إلى الوفاء به وعدم استبقاءه معه، فإن استبقاه لديه لاستعمال شخصى، أو لأى غرض آخر كان مسئولاً عن رد هذا المبلغ بفوائده القانونية أو الاتفاقية من يوم أخذه حتى يوم رده دون حاجة إلى إعذار أو مطالبة قضائية. ويذهب الفقه إلى أن الشريك إذا أخذ مالاً للشركة غير النقود كان مسئولاً أيضاً عن التعويض ولو لم يكن قد أفاد من هذه الأموال شيئاً ما دامت الشركة قد لحقها ضرر، بعكس ما إذا كانت الأموال نقوداً فإن الفوائد تستحق ولو لم يلحق بالشركة أى ضرر.
ثانياً: إعذار الــــدائن
إن التنفيذ العينى للالتزام؛ هو الصورة الغالبة للوفاء الذى به تبرأ ذمة المدين، إلا أن الدائن فى بعض الأحيان قد يرفض لأى سبب يراه قبول الوفاء الذى تقدم به مدينه، وحتى يبرئ المدين ذمته من هذا الالتزام يقوم بتوجيه إعلان رسمى على يد محضر إلى دائنه يسجل عليه به رفضه لقبول الوفاء.
وقد أوردت المادة 334 مدنى تعنت الدائن برفضه قبول الوفاء فى عدة حالات حيث نصت على أن: (إذا رفض الدائن دون مبرر قبول الوفاء المعروض عرضاً صحيحاً أو رفض القيام بالأعمال التى لا يتم الوفاء بدونها أو أعلن أنه لن يقبل الوفاء اعتبر انه قد تم إعذاره من الوقت الذى يسجل المدين عليه هذا الرفض بإعلان رسمى).
ونعرض فى المبحث الأول لصور تعنت الدائن برفضه قبول الوفاء من مدينه، ونشير فى المبحث الثانى إلى آثار إعذار المدين لدائنه.
فكرة وصور إعذار المدين للدائن:
تتلخص فكرة إعذار المدين لدائنه فى تعنت الأخير فى رفضه قبول وفاء مدينه بما عليه من دين نشأ عن الالتزام القائم بينهما، كما أن الإعذار الذى يوجهه المدين إلى دائنه يجب أن يكون بعد عرض الدين عليه عرضاً حقيقياً قابله بالرفض، مع ملاحظة أن هذا العرض حتى يكون صحيحاً يجب أن يشمل كامل الدين، وملحقاته دون نقصان، وفى الوقت المتفق عليه للوفاء أو بتحقق الشرط الواقف، وفى المكان المتفق عليه للوفاء، وأن يكون كلاً من المدين والدائن أهلاً لتنفيذ الالتزام بالوفاء من الأول، والاستيفاء من الثانى.
ويجدر الإشارة إلى أن عرض المدين للوفاء لا يكون على يد محضر، كما تجرى طبيعة الأمور، وإنما يتم مباشرة بين المدين ودائنه، فإن رفض الدائن قبول عرض الوفاء هذا، فما على المدين إلا أن يوجه له إعلاناً رسمياً- الإعذار- على يد محضر يعرض فيه على دائنه الوفاء بما عليه من دين قِبَلِهِ، مثال ذلك إنذار عرض الأجرة الذى يقوم المستأجر بتوجيهه إلى المؤجر عارضاً عليه القيمة الإيجارية للعين المؤجرة بعد رفض هذا الأخير لقبول القيمة الإيجارية من المستأجر بلا مبرر.
فبرفض الدائن قبول وفاء مدينه بالدين بعد عرض الدين عليه عرضاً فعلياً، فما على هذا المدين إلا أن يسجل موقف الدائن الرافض لقبول الوفاء بإعلان رسمى على يد محضر، إعذاراً للدائن برفضه للوفاء يترتب عليه نتائج قانونية هامة.
صور أو حالات إعذار المدين للدائن :
نصت المادة 334 مدنى على صور ثلاث كما سبق:
الصورة الأولى : رفض قبول الوفاء المعروض دون مبرر
ورفض الدائن فى هذه الصورة سواء كان صريحاً، أو يستفاد من تصرفاته، يوجب على المدين اتخاذ هذه الإجراءات التى نص عليها القانون، بأن يقوم بتسجيل هذا الرفض فى إعلان رسمى، حتى يكون الدائن معذراً من تاريخ هذا الإعلان.
حيث يقوم من خلال هذا الإعلان بعرض الدين على دائنه عرضاً قانونياً، يودعه بعد ذلك على إثره خزينة المحكمة على ذمة المعروض له وهو الدائن.. وبهذا الإجراء يكون المدين قد أوفى بما عليه من دين، ويكون الدائن معذراً من تاريخ هذا الإعلان.
وقد يكون رفض الدائن لقبول وفاء مدينه راجعاً إلى اختلاف الاعتقاد فيما بينهما حيث قد يعتقد الدائن أن الوفاء جزئياً، بينما يعتقد المدين أن الوفاء يكون كلياً.. كما يمكن أن يكون رفض الدائن راجعاً إلى تعنت منه وسوء نية كما قضت فى حالة شبيهة بذلك محكمة الاستئناف بأنه يعتبر من قبيل التعنت أن (يرفض الدائن الوفاء لتأخر المدين زمناً قليلاً عن دفع ثمن الأرض التى اشتراها، أملاً فى فسخ البيع بعد أن ارتفعت قيمة الأض)( ).
الصورة الثانية : رفض القيام بالأعمال التى لا يتم الوفاء بدونها
من أمثلة هذه الصورة أن يكون الوفاء فى موطن المدين ويرفض الدائن السعى إليه فى هذا الموطن ليتقاضى دينه، أو أن يمتنع البائع لعقار عن الذهاب مع المشترى إلى مصلحة الشهر العقارى للقيام بالإجراءات اللازمة للتسجيل، ففى مثل هذه الحالات وما شابهها، يجب أيضاً على المدين اتخاذ الإجراءات التى نصت عليها المادة 334 مدنى من ضرورة العرض الرسمى للوفاء بإعلان رسمى على يد محضر.
الصورة الثالثة : إعلان الدائن أنه لن يقبل الوفاء
قد يسبق الدائن الأحداث ويوجه إلى مدينه إعلاناً يخبره فيه أنه لن يقبل الوفاء، حتى من قبل أن يقوم المدين بعرض هذا الوفاء، ففى هذا التوقيت يحق للمدين سلوك الطريق الذى رسمته المادة 334 مدنى من وجوب تسجيل رفض الدائن لقبول الوفاء بالدين، بعرض الوفاء عرضاً حقيقياً ثم الإيداع، وهو بذلك يكون قد رد على الدائن رداً قانونياً على تصريحه بعدم قبوله الوفاء.
ويجب فى كل من الصور السابقة أن يكون إعذار المدين للدائن كتابةً بإعلان رسمى على يد محضر.
آثار إعذار المدين للدائن:
نصت المادة 335 مدنى على آثار إعذار الدائن بقولها: (إذا تم إعذار الدائن تحمل تبعة هلاك الشئ أو تلفه ووقف سريان الفوائد وأصبح للمدين الحق فى إيداع الشئ على نفقة الدائن والمطالبة بتعويض ما أصابه من ضرر).
وسنعرض لكل أثر من هذه الآثار فى مطلب مستقل.
على أنه يجب الالتفات إلى أن مجرد الإعذار لا يبرئ ذمة المدين، بل يلزمه بعده اتخاذ إجراءات العرض الحقيقى والإيداع( ).
تحمل الدائن لتبعة هلاك أو تلف الشئ:
هلاك الشئ يكون بزواله ومقوماته الطبيعية من الوجود( )، ومن يقوم بتوجيه الإعذار لا يتحمل تبعة الهلاك، هذا هو الحال، فلقد رأينا أن المدين– خلافاً للأصل- يتحمل تبعة الهلاك متى أعذره الدائن بتسليم الشئ وتأخر فى تسليمه( ).
لذلك فإن قيام المدين بإعذار الدائن يؤدى إلى انتقال تبعة الهلاك إلى الدائن بنص القانون، مثال ذلك: قيام البائع بعرض تسليم المبيع على المشترى عرضاً صحيحاً، فيمتنع الأخير دون مبرر عن الاستلام، فيقوم البائع بتسجيل هذا الامتناع على المشترى بإعلان على يد محضر، فتنتقل تبعة هلاك المبيع- رغم كونها تحت يد البائع المدين بالتسليم- إلى المشترى- الدائن بالتسليم- من لحظة وصول الإعلان إليه، على الرغم من أن تبعة الهلاك كانت على عاتق المدين البائع قبل توجيه هذا الإعذار إلى المشترى الدائن.
وفى حالة التلف أو الهلاك الكلى للمبيع لسبب أجنبى عن البائع قبل التسليم فإن المادة 437 قد أوردت حكمها بفسخ التعاقد إلا إذا سبق الهلاك أو التلف إعذار الدائن: (إذا هلك المبيع قبل التسليم لسبب لا يد للبائع فيه، انفسخ البيع واسترد المشترى الثمن إلا إذا كان الهلاك بعد إعذار المشترى لتسليم المبيع)، فمجرد إعذار المدين للدائن يلقى عن كاهله انفساخ العقد بما يكون قد تحقق له من منفعة بصدده وعدم رد الثمن إلى المشترى، فتعنت المشترى فى استلام المبيع أو تأخره إهمالاً يؤدى إلى تحمله تبعة هلاك العين المبيعة أو تلفها.
وعلى هذا فإن إعذار المشترى- الدائن- بإعلان رسمى على يد محضر يماثل وضع المبيع تحت تصرفه، ويؤدى إلى نقل تبعة الهلاك اللاحق للإعذار إليه بنص القانون مع التزامه بدفع الثمن إن لم يكن قد دفعه بالفعل، وإن كان قد دفعه فلا يحق له استرداده، حيث الفرض هنا أن ملكية المبيع قد انتقلت إلى المشترى، أما إذا كانت الملكية لم تنتقل إليه بعد وكانت ملكيته لا تزال للبائع فإن الأخير هو الذى يتحمل تبعة الهلاك( ).
وقف سريان الفوائد:
المدين إذا تأخر عن الوفاء بالتزامه فإنه ملزم بدفع فوائد التأخير بالكيفية التى قدرتها المادة 226 مدنى: (إذا كان محل الالتزام مبلغا من المال وكان معلوم المقدار وقت الطلب وتأخر المدين فى الوفاء به, كان ملزما بأن يدفع للدائن على سبيل التعويض عن التأخر فوائد قدرها أربعة فى المائة فى المسائل المدنية وخمسة فى المائة فى المسائل التجارية. وتسرى الفوائد من تاريخ المطالبة القضائية بها...).
إلا أن قيام المدين بإعذار الدائن يوقف سريان الفوائد، وهى هنا فوائد من نوع آخر هى الفوائد التى يُغلها الدين ذاته، فإذا كان الدين يغل فائدة وتم إعذار الدائن ورفض الوفاء من مدينه، فإنه يتوقف سريان فوائد غلة الدين سواء كانت فوائد اتفاقية أو قانونية- إذا كان الدين نقوداً- دونما حاجة للعرض الحقيقى والإيداع( )، وذلك حماية للمدين من دائنه المتعنت والذى ربما كان سيئ النية يريد تأخير وفاء مدينه بالدين حتى يستفيد بأكبر قدر من الفوائد التى يغلها الدين، وتعليل هذا الحكم يستند إلى فكرة العدل، فالمدين يريد الوفاء، والدائن يتعنت، فمن العدل وقف سريان الفوائد.
جواز عرض الدين عرضاً حقيقياً وإيداعه:
ذكرت المادة 335 مدنى: (...وأصبح للمدين الحق فى إيداع الشئ على نفقة الدائن..)، فمن آثار توجيه المدين الإعذار إلى دائنه أنه يكون بإمكانه أن يودع الدين وهو حق الدائن الذى تم إعذاره على نفقة هذا الدائن.
وقد أوردت المادة 487 مرافعات على أن: (يحصل العرض الحقيقى بإعلان الدائن على يد محضر ويشتمل محضر العرض على بيان الشىء المعروض وشروط العرض وقبول المعروض أو رفضه . ويحصل عرض ما لا يمكن تسليمه من الأعيان فى موطن الدائن بمجرد تكليفه على يد محضر بتسليمه)، فبنص هذه المادة فإن العرض الحقيقى هو الذى يكون بإعلان على يد محضر مشتملاً على بيانات المعروض وشروط العرض، وبالطبع يثبت فى هذا الإعلان قبول أو رفض الدائن للوفاء.
فالعرض الحقيقى هو أن يُسلم المدين للمحضر الشئ محل الدين سواء كان نقوداً أو أشياءً أخرى تصلح لتسليمها للدائن فى موطنه ليعرضها عليه، أما إن كان محل الدين مما لا يمكن تسليمه للدائن فى موطنه كالعقار فيحصل عرضها بمجرد تكليفه بتسلمها على يد المحضر حسب ما نصت عليه المادة 487 مرافعات، فالوفاء عندئذ يكون بقبول الدائن لهذا العرض، فإن رفض ذكر المحضر رفضه فى محضره وانتقل بعد ذلك إلى الإيداع( ).
والإيداع يكون فى خطوة تالية للعرض، أى يجب سبق العرض على الإيداع وليس العكس، وهذا ما تُفضى إليه عبارات المادة 339 مدنى والتى تنص على أن: (يقوم العرض الحقيقى بالنسبة إلى المدين مقام الوفاء, إذا تلاه إيداع يتم وفقاً لأحكام قانون المرافعات, أو تلاه أى إجراء مماثل, وذلك إذا قبله الدائن أو صدر حكم نهائى بصحته)، فيجب حتى يتم اعتبار المدين قد أوفى بما عليه من دين فعليه الإعذار أولاً، ثم العرض الحقيقى بإعلان على يد محضر، ثم الإيداع أو أى إجراء مماثل.
وأجد أن الإعذار والعرض الحقيقى ما هما إلا خطوة واحدة متحدة الغرض والهدف، فكلاهما يهدف إلى نفس الغاية المترتبة على الإعذار، فيكون من قبيل التكلف الإصرار على توجيه إعذاراً يتلوه عرضاً حقيقياً ثم الإيداع، والإيداع يكون على نفقة الدائن بحسب نص المادة 335 مدنى، فهو المتسبب فى تأخر الوفاء لذا فكان لزاماً عليه أن يتحمل نتيجة رفضه بأن تكون نفقات الإيداع على عاتقه.
وقد أوردت المادة 488 مرافعات تنظيماً لعملية الإيداع: (إذا رفض العرض وكان المعروض نقودا قام المحضر بإيداعها خزانة المحكمة فى اليوم التالى لتاريخ المحضر على الأكثر , وعلى المحضر أن يعلن الدائن بصورة من محضر الإيداع خلال ثلاثة أيام من تاريخه. وإذا كان المعروض شيئاً غير النقود جاز للمدين الذى رُفض عرضه أن يطلب من قاضى الأمور المستعجلة الترخيص فى إيداعه بالمكان الذى يُعَيِّنَهُ القاضى إذا كان الشىء مما يمكن نقله أما إذا كان الشىء معداً للبقاء حيث وجد- كالعقارات المبنية، والأراضى الزراعية- جاز للمدين أن يطلب وضعه تحت الحراسة).. ولسهولة عبارات هذه المادة فهى لا تحتاج إلى توضيح.
والمادة 337 مدنى قد قررت حكمها فى مسألة محل الدين سريع التلف حيث نصت على: ((1) يجوز للمدين بعد استئذان القضاء أن يبيع بالمزاد العلنى الأشياء التى يسرع إليها التلف أو التى تكلف نفقات باهظة فى إيداعها أو حراستها وأن يودع الثمن خزانة المحكمة. (2) فإذا كان الشئ له سعر معروف فى الأسواق أو كان التعامل فيه متداولا فى البورصات فلا يجوز بيعه بالمزاد إلا إذا تعذر البيع ممارسة بالسعر المعروف)، وذلك متى كان محل الوفاء يخشى عليه من التلف كالفاكهة فهى سريعة التلف، أو كان يتكلف فى حفظه نفقات باهظة كالطيور أو الحيوانات غالية الثمن نادرة الوجود، فقد أجاز المشرع للمدين عند امتناع الدائن عن قبول الوفاء بعد إثبات هذا الامتناع عليه بالإعذار، أن يبيع محل الدين بعد استئذان القاضى قبل اتخاذ إجراءات البيع، لكن عند الضرورة فإن المشرع قد سمح للمدين أن يقوم ببيع الشئ عند الضرورة دون استئذانه، على أن يتم البيع بسعر الشئ المعروف فى الأسواق ثم يقوم بعد ذلك بإيداع الثمن، فإن تعذر البيع بهذه الطريقة فإن للمدين أن يلجأ إلى البيع عن طريق المزاد العلنى على أن يقوم أيضاً بإيداع ثمن البيع( ).
و يكون الإيداع أو ما يقوم مقامه من إجراء جائزاً أيضاً إذا كان المدين يجهل شخصية الدائن وموطنه كأن يكون الدائن وارثاُ مجهولاً, أو كان الدائن عديم الأهلية أو ناقصها ولم يكن له نائب يقبل عنه الوفاء، أو كان الدين متنازعاً عليه بين عدة أشخاص ولم يتحقق المدين يقيناً من شخصية الدائن الحقيقى منهم, أو كانت هناك أسباب جدية أخرى تبرر هذا الإجراء كأن يكون المدين يطالب بالتزام مقابل تعذر عليه استيفاؤه قبل أن يقوم بالوفاء بما عليه من دين( )، وهذا ما نصت عليه وأوضحته المادة 338 مدنى.
حق المدين فى مطالبة الدائن بالتعويض:
الدائن حين يتعنت ويرفض استيفاء الدين دون مبرر سائغ أو مشروع، فإنه يترتب على ذلك نقل تبعة الهلاك على عاتق الدائن، ووقف سريان الفوائد، وقيام المدين بعرض الوفاء بالدين عرضاً حقيقياً والإيداع على نفقة الدائن، كما أنه يكون للمدين الحق فى المطالبة القضائية بالتعويض عما لحقه من أضرار بسبب هذا الرفض المتعنت، والامتناع غير المبرر.
وعلة ذلك أن محل الدين قد يكون معيناً بالذات، ويمتنع الدائن دون مبرر عن تسلمها، فتبقى شاغلة للمكان الذى هى فيه مدة طويلة، فيكون للمدين وقتها مطالبة الدائن بتعويضه عن الضرر الذى أصابه من جراء امتناع الأخير عن قبول الوفاء، وتسلم محل الدين، وهو فى المعتاد أجر المكان طوال فترة شغل العين له دون مبرر( ).
المراجع
1 أ. د. إسماعيل غانم النظرية العامة للالتزام، الجزء الثانى، أحكام الالتزام والإثبات،
1967.
2 أ. د. حسن عبد الباسط جميعى النظرية العامة للالتزام، الجزء الثانى، أحكام
الالتزام، 2002.
3 أ. د. عبد الرزاق السنهورى الوسيط فى شرح القانون المدنى الجديد، الجزء
الثانى، آثار الالتزام، 1982.
4 أ. د. محمد شتا أبو سعد بحث منشور فى مجلة القانون والاقتصاد، العدد 57، 1987.
5 أ. د. محمد شكرى سرور موجز الأحكام العامة للالتزام فى القانون المدنى المصرى،
1996.
6 أ. د. محمود جمال الدين زكى الوجيز فى النظرية العامة للالتزامات، 1978.
7 أ. د. محمود عبد الرحمن النظرية العامة للالتزامات الجزء الثانى، أحكام الالتزام، 1999.