يعيش العالم في وقتنا الراهن مضامين ثورة تدريبية أحدثت انقلابات عدة في مفاهيم التدريب مع دخول الألفية الثالثة، فالعالم بدون استثناء سواء كان المتقدم منه أو الساعي للتقدم أو النامي أعلن حربه على التدريب ومفاهيمه. وكانت هذه النماذج «Approaches»الجديدة التي خرجت علينا من العالم المتقدم مثل «School- to -Career» والتي يُجيّر انتماؤها للمدرسة الأمريكية أو «Dual Learning System»للمدرسة الألمانية أو National Vovational Qualifica tion (NVQ) للمدرسة البريطانية Development and Curriculam (Dacum) للمدرسة الكندية. كل هذه النماذج تهدف في المقام الأول إلى مزج النظرية بالتطبيق لإعداد شباب قادر على مواصلة دراسته الأكاديمية وفي الوقت نفسه متمكن من الالتحاق بسوق العمل والحصول على وظيفة براتب معقول تتناسب وقدراته. وإن كانت هذه المشكلة قائمة منذ زمن بعيد «مسألة التصاق النظرية بالتطبيق» بل وكان العالم يدرك أن مخرجاته التعليمية لا تتناسب واحتياجات سوق العمل لسببين. الأول مسار التعليم الأكاديمي من خلال الجامعات والكليات النظرية يعد الشباب من ناحية نظرية بحتة ويزج بهم في سوق العمل، وحينها يصعب على الشباب تطبيق ما اكتسبه من معلومات نظرية على الواقع العملي. وإن كانت الاحتياجات الوظيفية للمؤسسة التي سيلتحق بها بسيطة، قامت هذه المؤسسة بتأهيله مهنياً بما يتناسب مع احتياجاتها ومن ثم العمل على توظيفه وإن كانت غير ذلك أضيف الخريج إلى قائمة العاطلين عن العمل. والدليل على أن مخرجات الجامعات لا تلبي احتياجات سوق العمل هو قيام أعداد كبيرة من شركات ومصانع القطاع الخاص بإنشاء مراكز تدريبية ضخمة بعضها يعادل في تجهيزاته كليات تطبيقية في بعض الدول المتقدمة. وما ذلك إلا دلالة على فشل المؤسسات التعليمية ذات الطابع التنظيري في إعداد القوى العاملة. السبب الثاني من خلال مسار التعليم التقني والفني فهو الآخر ناله من الفشل نصيب إذ من البرامج التعليمية والتدريبية لهذا المسار ما صمم على أن يزود المتدرب بمهارات معينة تؤهله لمهنة معينة تتغير احتياجاتها بصورة سريعة ومستمرة فعندما ينهي الشاب مرحلته الدراسية يفاجأ باحتياجات المهنة التي أعد لها تختلف تماماً عما درسه حتى ولو كان عملياً. إذاً لا الجامعات أعدت الشاب بصورة تؤهله للانخراط في سوق العمل ولا مؤسسات التعليم الفني والتقني على حد سواء، وإن كانت الأخيرة معنية بعملية إعداد القوى البشرية المؤهلة لسوق العمل. ومع فشل المؤسسات التعليمية من نظرية وتطبيقية في تأهيل مخرجاتها بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل، ومع تقليص ميزانيات التدريب في شركات ومصانع سوق العمل وربط ذلك بالنمو السكاني المتزايد والذي انعكس على زيادة مدخلات التعليم سواء العام أو ما فوق الثانوي وبالتالي تضاعفت أعداد مخرجاته، كل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى كارثة تدريبية هي التي أيقظت العالم من سباته العميق ليبحث عن نهج تدريبي وتعليمي يلبي حاجة سوق العمل وفي الوقت نفسه يؤهل الشباب لإكمال تعليمه إن رغب ذلك. ولم يكن لهذا العالم أن يستيقظ لولا زيادة عدد العاطلين في الدول المتقدمة والتي قدمت اعترافاً رسمياً بفشل أنظمتها التعليمية في تلبية احتياجات سوق العمل، مما ترتب عليه هدر تعليمي من جراء عدم إيجاد وظائف مناسبة لمخرجات التعليم والتدريب. ولم يقتصر الأمر على مخرجات التعليم فوق الثانوي بل بسبب النمو المطرد السكاني وعدم قدرة المؤسسات الجامعية على استيعاب طلبة الثانوية العامة عكف العالم على تمهين التعليم الثانوي كالمدرسة الأمريكية على سبيل المثال «School-to-Career» من خلال تزويد طالب الثانوية العامة خلال دراسته بمهارات عملية ترخص له الالتحاق بإحدى المهن في سوق العمل. والسؤال الذي يأتي الآن وبقوة: هل ستعمل هذه النماذج التعليمية المستحدثة على تلبية احتياجات سوق العمل؟ وهل ستشجع هذه النماذج زيادة إقبال سوق العمل على مخرجات التعليم؟ هل ستنجح هذه النماذج في مزج النظرية بالتطبيق؟ كل هذه الأسئلة لا تجيب عنها إلا دراسات تقويمية وتتبعية لهذه النماذج، ولكن الحال لا يمنع في أن ألوح بوجهة نظر شخصية بحتة في هذا الموضوع علها تجيب عن هذه الأسئلة من ناحية تنظيرية على الأقل، وتكون نواة لدراسات ميدانية مستقبلية. أقول طالما أن عملية إعداد وتأهيل القوى العاملة هي عملية مشتركة بين المؤسسات التعليمية وأوعية التوظيف المتمثلة في سوق العمل، إذاً لن يكتب النجاح لهذه النماذج أو غيرها إلا بالمشاركة الفعلية لأرباب العمل في العملية التعليمية والتدريبية. وبالمناسبة فإن كل النماذج التي ذكرتها في صدر هذه المقالة تعتمد بالدرجة الأولى على مشاركة أرباب العمل بدءاً من وضع المناهج الدراسية وانتهاء بتقويم المخرجات. وفي اعتقادي الشخصي أن هذه النماذج لن تؤهل الخريج لكي يعمل مباشرة في الجهة التي ستعمل على توظيفه لسبب بسيط، ذلك أن هذه النماذج تعد وتؤهل الخريج على مهنة معينة في سوق العمل حسب مواصفات محددة من جهات مختصة وهو ما يطلق عليه التأهيل المهني «Competency-based- Standards» وعندما يزج بالشاب في سوق العمل سيجد أن احتياجات المهنة نفسها تختلف من مؤسسة إلى أخرى. أعطي مثالاً على ذلك: فلو أخذنا المهارات المطلوبة لمندوب مبيعات حسب المواصفات المتوفرة في أدلة التصنيف المهني سنجد أن مهنة مندوب مبيعات تختلف احتياجاتها من جهة توظيفية إلى أخرى. وتقع المشكلة مرة أخرى وتخرج علينا المقولة الجائرة «عدم توافق مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل». وإن كان لي رأي حيال هذه المقولة التي يرددها الكثيرون ولكن علها تكون محور مقالة قادمة . وقد يسأل سائل ويقول إن كانت هذه النماذج التي تعمل على تفصيل المخرجات التعليمية لاستيفاء مهن محددة لا تلبي احتياجات سوق العمل، إذاً ما هو الحل في ذلك؟ هل نعمل على إيكال مهام التعليم والتدريب لسوق العمل؟ هل نعد مناهجنا الدراسية على احتيجات سوق العمل دون النظر إلى احتياجات الأمة؟ لا هذا ولاذاك ولكني سأطرح وجهة نظر شخصية قد تبدو للوهلة الأولى مثار استغراب. إذ قد يتساءل القارئ: كيف أصرح لنفسي أن أطرح حلاً بعد الحلول والنماذج التي طرحتها الدول المتقدمة؟ لِمَ لا أيها القارئ الكريم، فالعقل الذي تفتح وخرج علينا بهذه المفاهيم الجديدة في تمهين التعليم هو العقل نفسه الذي يتمتع به إنسان الدول النامية. نعود إلى إجابة السؤال لأقول إن الحل هو طرح ما أطلقت عليه مصطلح التأهيل الوظيفي «Occupation- based-Standards» والذي يقوم على فلسفة تأهيل الخريج بعد تخرجه على احتياجات وظيفة محددة يتم التنسيق بشأنها مع الجهة الطالبة على أن تعمل هذه الجهة على توظيفه بعد انتهاء مرحلة التأهيل. مثل ذلك بالطبع يتطلب إنشاء مراكز للتأهيل الوظيفي تعمل على إيجادها مؤسسات التعليم الفني والتقني. وأقترح أن تنحصر مهامها في حصر الفرص الوظيفية وتحديد احتياجاتها التدريبية مع الجهة الطالبة للوظيفة ومن ثم ترجمة هذه الاحتياجات إلى برامج تأهيلية تلبي احتياجات الوظيفة التي ستناط بالخريج ليسلم بعدها جاهزاً إلى جهة عمله. إن مثل ذلك لايعزز عملية التوظيف فحسب بل سيبني قاعدة معلوماتية ضخمة لدى هذه المراكز عن احتياجات سوق العمل العددية والتخصصية والمهاراتية. نشر في مجلة (التدريب والتقنية) عدد (4) بتاريخ (ربيع الآخر 1420هـ)