يدخل الإنسانُ المؤسّساتِ المجتمعيةَ سواء أكانت مؤسّسات اقتصادية أم صناعية أم شركات تجارية أم مؤسّسات اجتماعية، كمؤسّسة الزواج أو علاقات الجوار أو الصداقة، مسكوناً بهواجس متعدّدة، تنطلق أوّلاً وقبل كلّ شيء من مفهومه لذاته وهويته الفردية التي تظهر دائماً عندما يبدأ الحديث عن الآخر، الذي تتعدّد أشكال علاقاتنا به وتتنوّع بتنوّع الالتقاء على اختلاف أشكاله.
فالفرد ينضمّ -عادة- إلى المجموعات الاجتماعية التي يشعر نحوها بالانتماء الناتج عن وحدة الهوية الاجتماعية، التي يُقارنها الفرد بهويات غيره من أعضاء الجماعة، فيترتّب على تلك المقارنة أن يستمرّ الفرد في المجموعة إيجاباً أو سلباً، أو أن ينسحب منها باحثاً عن مجموعة أخرى، وذلك بحسب نظرية الهوية الاجتماعية المعروفة باسم (نظرية تاجفيل وتيرنر).
وهذا هو عين ما يحدث عندما ينضمّ الفرد إلى مجموعة جديدةّ تتمثل في مجتمع العمل، إذ يبدأ ممارسةَ أفعال المقارنة التي تبين أوجه الشبه والاختلاف بينه وبين أطراف العمل ومحيطه، ليتخذ بعد ذلك موقفاً من المجتمع الجديد، غير أنّ هذه المقارنات -وهي مقارنات لا بدّ منها، تحدث في اللاشعور- تسير في مجتمع العمل على نحوٍ مختلفٍ عمّا تسير عليه في المجتمعات الأخرى، إذ لا يتوقّع من مجتمع العمل أن يبدي تكيُّفاً أو استعداداً للتكيُّف مع الوافدين الجدد ليوائم حاجاتهم، فمجتمع العمل يتمتّع بخصوصية تجعله ناضجاً إلى حدٍّ بعيد، على مستوى الأعراف والتقاليد والقوانين، وهو الأمر الذي لا يقبل التغيير بمرونة.
بين التوحّد والتحيّز
غالباً ما يصارع الفرد الذي يدخل مجتمعَ العمل الجديد عاملين مهمّين.. أوّلهما: التوحُّد ونعني به الشعورَ بضرورة الانضمام إلى المجموعة الجديدة، على نحو يجعل الفرد فيه من نفسه جزءاً من جسد المؤسّسة العام، فيتوحّد معها لتصبح مُشكلاً من مُشكلات هويته، ومؤَلفاً من مؤلّفات ذاته، وهذا التوحّد عامل يجذب الفرد إلى المجتمع الجديد بالتأكيد.
وثانيهما: التحيُّز ونعني به تحيز الفرد الجديد إلى ذاته وهويته الفردية، التي تشكل المجتمعاتُ التي انتمى إليها في السّابق ملامحَها العامة، وهذا التحيز يمثل قوة طاردة للفرد من مجتمعه الجديد، لأنّه يشدّه دائماً إلى الاختلافات التي تحول بينه وبين البيئة الجديدة.
يشبه ما يحدث للفرد أو الموظف الجديد في مجتمع العمل أن يكون كتلك الأمور التي تحصل للوافد الجديد إلى ثقافة جديدة، وحضارة متباينة مغايرة، إذ تبدو الاختلافات في بداية الأمر عظيمة غير قابلة للشرح أو التوضيح، عصيَّة على الفهم والإدراك، يكسوها ثوب التعقيد واللا منطقية، ويتسبّب هذا بردّة فعل تستدعي الارتداد نحو الذات في محاولة للدفاع عن منظومة مرتبطة بتاريخ الفرد العقلي والنفسي.
فيرى الموظفون الجدد -في بداية الأمر- أنّهم باندماجهم مع المحيط الوظيفي الجديد يتخلّون عن تقاليدهم والأعراف السائدة في حياتهم أو عن بعضها، لذا غالباً ما يحاول الموظفون الجدد التملّص من العمل الجديد بدعوى الحنين إلى العمل القديم أو الرّغبة في فرصة أفضل، على أنّ الأمر في حقيقته لا يعدو أن يكون صدمة ثقافية بمفهومها البسيط والمعقّد في الوقت نفسه.
الاندماج مع مجتمع العمل الجديد
يتزامن مع كلّ ذلك الصراع النفسي الذي يعانيه الموظف الجديد محاولاتُ مجتمع العمل الجديد استقطابَه ودمجه في المحيط العام، سواء أكانت تلك المحاولات عاطفية تتفاعل مع انكماش الوافد الجديد وانعزاله، أم كانت عملية تتجه نحو صالح العمل العام وطبيعة المهمات الوظيفية، وهذه المحاولات تأخذ أبعاداً متعدّدة، ففي حين تقتصر محاولات بعض مجتمعات العمل على جذب الموظف الجديد إلى إجادة العمل، تتعدّى بعض المحاولات ذلك إلى محاولات دمج متكاملة، تمتدّ لتطال كيان الموظف وهويته ومنظومته الثقافية بأكملها، وتلك المحاولات تؤثر -لا ريب- في الموظف الجديد، من حيث أنّها تشدّه نحو جوّ العمل وهواجس المكان، وأنّها تحقق له شرط التفاعل الزَّماني مع زملاء العمل الجديد، وهذا يجعله يتلمّس على مهل ملامح الآخر الذي يمثل الشريك في مجتمع العمل.
وعندها تبدأ خبرة الإنسان في التكيف بالتحرّك نحو رؤية المجموعة الخارجية، التي هي مجتمع العمل الجديد، على أنّها المجموعة الداخلية الجديدة التي ينتمي إليها الموظف -اليوم- بدلاً من مجموعته السابقة.
على أنّ هذا التكيف والاندماج لا يعني أن يقف الفرد من منظومته النفسية والعقلية والعاطفية موقفاً سلبياً بأن يتخلّى عنها أو يفرّط بها، فالأمر يعني أن يصل الموظف الجديد إلى درجة يوازن فيها بين هويته الخاصة بوصفه فرداً ذا طبيعة مختلفة، وانتماء فكري ثابت، ونموذج متميّز يشكّل جزءاً من مجموعة أو مجموعات دينية وسياسية وفكرية وسلوكية وغيرها، وبين أنّه قد أصبح بفعل انضمامه إلى الوظيفة الجديدة واحداً من جماعة ذات هوية مؤسّسية تجارية أو صناعية أو إدارية واحدة، الأمر الذي يحتّم عليه أن يلتزم بأخلاقيات العمل الجديد وأساسياته ومبادئه التي ارتضاها لنفسه -سابقاً- عندما وافق على الانضمام إلى صفوف العاملين في المؤسّسة.
على أنّ إظهار المرونة لا يعني بأيِّ حال التبعية والانسياق وراء الآخر، لأنّ تحقيق التميز والانفراد لا يتأتى أبداً من التقليد الأعمى أو محاكاة الآخرين المحاكاةَ السقيمةَ، ولا بدّ لكل فرد يريد التميز والإبداع من أن يحافظ لنفسه على كيان خاصٍّ مستقلٍّ، لكنّه يتوافق مع المحيط ويتفاعل معه على ما ينبغي.
احترام ثقافات الآخرين
فالفرد الجديد في المجتمع لا بدّ له من احترام الآخرين وثقافاتهم، وإن بدت لذلك الفرد غريبة أو غير مقبولة، لأنّها فيما بعد ستصبح جزءاً من ثقافته الشخصية بفعل الألفة والمعاينة، ما نعنيه.. هو أنّ ما يبدو غريباً بالنسبة إليه أو إلى الآخر سيصبح مألوفاً بعد حين، ولا يعني ذلك تبني سلوك الآخرين أو الاحتكام إلى ثقافاتهم، بل يعني قبولها كما هي لأنّها تخصّهم وحدهم، ولسنا مجبرين على امتثالها.. وامتثالنا لهذه الثقافة يعني أنّهم مكلّفون بمثل هذا تجاه أفكارنا وثقافتنا وأنماطنا السلوكية والحياتية بشكل عام.
ويبقى الانخراط في العمل الجديد في حقيقته أمراً يشبه أيّ محاولة إنسانية للاندماج في أي نوع من أنواع المجتمعات الجديدة، التي يستطيع الفرد من خلالها أن يبرهن على مدى كونه فرداً جديراً ومميزاً ومرناً، وعلى مدى رسوخ منظومته القيمية والثقافية العامة في ذهنه.
وكلّما استطاع الفرد أن يحفظ هويته الشخصية من الضياع والتحوّل السلبي دون أن يحجب عنها رياح التجدد، كان قادراً على التصدّي للآخر بفاعلية وإيجابية.