[مشاهدة الروابط متاحة فقط لأعضاء المنتدى .. ]
مريم سيد علي مبارك /صحفية وكاتبة جزائرية
من الناس من لم يدرس الطب في حياته ولكنه يستطيع أن يشخّص الدّاء ويصف الدواء ،ومن الناس من ليس بطبيب ولكنه يستطيع أن يعالج ، ببساطة لأن الطب فن لا يتوقف عندمجرد تحليلات للدم وأشعة وفحوصات..
الطبيب الماهر في نظري ليس فقط ذاك الذي يزيح بعلمه ونور فهمه الداء عن الأجسامويذهب الأسقام لأن الطبيب الماهر قد يعالج بحكمته ونور فهمه ما لا يعالجه طبيب آخربأجود أدواته..
قد يسقط الإنسان جرّاء حادث مادي ويحتاج لطبيب يخيط جرحه المفتوح ، وقد يسقطالإنسان جرّاء حادث معنوي ويكون الضرر الذي يسببه السقوط أشدّ على النفس من الضررالملاحظ بالعين المجرّدة ، ذلك لأن الخطأ “حادث أليم”..
الطبيب الماهر هو الذي لا يسخر ولا يلوم ولا يوبخ المخطئ إذا أخطأ لوما وتوبيخاوسخرية توغل الجرح في الجسد الأليم لأن اللوم والتوبيخ والسخرية يحطمان كبرياءالنفس ولا يعودان على “المصاب” بحادث “الخطأ” غالبا بالخير لذلك فمن الظلم أن نعالجالخطأ بخطإ أكبر منه..
هذا السلوك لا يجرح الكرامة ويحطم الكبرياء ويؤذي الشعور فحسب، بل من شأنه أنيثير الكراهية والعداء..
والطبيب الماهر هو الذي لا يلجأ إلى المقصات الحادة والمشارط والسكاكين لطالماهناك وسائل تقنية أرحم وأكثر فعالية.. فلم يكن العنف أبدا الوسيلة المثلى لعلاجالأخطاء ويبقى دائما الخيار الأخير طالما أن الإنسان من لحم ودم .. يحس ويشعر بتأنيبالضمير.. لم يكن العنف أبدا الدواء الأكثر نجاعة ولا الحل الأمثل للمشكلات ، وهناكمثل صيني يقول
:لا تستخدم الفأس لإزالة ذبابة عن رأسزميلك !.
ولَكَم أعجبتني قصة قصيرة قرأتها :
اختلفت الشمس والريح أيهما الأقوى ، فقالت الريح للشمس : “ سأبرهن أنني الأقوى ،هل ترين الرّجل العجوز الذي يرتدي المعطف ؟، أراهن أن باستطاعتي أن أجعله يخلع معطفهأسرع منك ”، وقفت الشمس وراء غيمة وبدأت الريح تهب حتى كادت تكون عاصفة ، وكلمااشتدّت الريح كلما ازداد الرجل تمسكا بمعطفه . وأخيرا هدأت الريح واستسلمت ، ثم خرجتالشمس من وراء الغيمة وابتسمت برفق للرجل ، وسرعان ما مسح جبينه وخلع معطفه ، عندئذقالت الشمس للريح : “إن اللطف والصداقة هما دائماأقوى من العنف والقسوة ! ”
فكما ينتقي الطبيب الماهر الإبرة الدقيقة التي لا تسبب الألم كذلك ينتقي الكلمةالرقيقة التي يكون لها أعمق الأثر على النفس البشرية ..
أعترف أنني عندما كنت أصغر سنا، كنت “أحقد” على من تسببوا لي بألم كبير، لكننياكتشفت عندما كبرت كم أن الناس الذين كنت أحقد عليهم طيبون ليس لأنني شريرة ، بللأنني لم أكن أرى سوى سيئاتهم وأدركت كم كنت ظالمة إذ حكمت على تصرف واحد سيئ دونالالتفات إلى تصرفات كثيرة حسنة..
وأدركت أنني لست معصومة من الخطأ وقد أقترف في حق أناس آخرين أكبر مما اقترفوههؤلاء في حقي ولا أشد على النفس من أن تكون ظالمة ومظلومة في ذات الوقت !!
لماذاعندما يقوم شخص ما بتصرفات سيئة نغضب ونثور، وعندما يقوم ذات الشخص بتصرفات جيدةنلتزم الصمت ولا نقول شيئا ؟؟
الجواب لأننا نفتقر للعدل في تصرفاتنا ! إصلاح الضرر من الجسم أو الروح يتطلبحكمة وفهما لطبيعة النفس البشرية ، يتطلب تؤدة وحلما ورفقا ودراسة ليس من أجل نيلشهادات عليا وإنما لحلّ مشكلات الحياة ، والطبيب الماهر هو الذي يضع نفسه موضعالمريض ، ويضع في الحسبان أنه قد يقع فيما وقع فيه المخطئ إذا كان في ظروف مماثلةولا ينسى أن الإنسان كما له عقل ، له عاطفة أيضا ، عاطفة لا تعترف في كثير من الأحيانبالمنطق ، عاطفة قد يثيرها الغرور والخيلاء والانحياز وأشياء كثيرة .. وكما يدل الطبيبالماهر مريضه على موضع الأماكن المتضررة من جسمه ويطمئنه على سلامة أخرى ، كذلك يدلهعلى جوانب الصّواب في سلوكه الخاطئ ، فلا يسرد عليه زلاته وسقطاته دون الإشارة إلىجوانب الصواب والخير فيه ، فإن حدّث الطبيب المريض عن قوته وقدرته على المشي والحركةارتاح وسكنت نفسه ونسي مرضه ، كذلك إن حدّثه عن الخير الذي في شخصه ارتاح وانشرحصدره وبرئ من همه .. لأنه يكون حينذاك قد شعر بالإنصاف من نقد الناقد له تماما كمايشعر بالثقة عندما يسلم للطبيب جسمه في غرفة العمليات.. إنك تستطيع أن تتعلم منالإنسان المخطئ أو المسيء ببساطة لأنه مثلما لديه مساوئ فكذلك لديه محاسن ومزايا ،والذكي في نظري هو الذي ينفتح على جميع الناس ويصغي لجميع الناس صغيرهم وكبيرهم ،قويهم وضعيفهم ، غنيهم وفقيرهم ، المحسن منهم والمسيء ، فيأخذ ما يمكن أن يستفيد منهويتعلم ويرمي ما يضره أو يتنافى مع قيمه ومبادئه في “سلة المهملات”
وقد نظر الله إلى حسنة واحدة لامرأة بغي وتغاضى عن جميع سيئاتها بمزية وحسنةواحدة فيها وهي الرحمة تجلت في سقي كلب . فالإنسان معرض للخطأ بل إنه يبدأ السقوط منأول خطوات يتعلم فيها المشي ..
ليس عيبا أن نخطئ ، ليس ضعفا أن نسامح .. العيب أن نستمر في الخطأ ونصر عليه .. العيبأن نلجأ إلى أكثر الوسائل حدة للعلاج .. العيب أن نحقد ونسمّم أرواحنا بالضغائنوأمراض القلوب الأشد فتكا .. والضرر كل الضرر أن نعالج الأجسام ونترك الأرواح .. لاأجمل أن يكون المرء متفهّما متسامحا ولا أفضل من كلمة طيّبة يطيب بها الخاطر وتطيبلها الجراح .. ذاك هو الدواء وتلك هي وسيلة الطبيب الماهر للعلاج ..