العزلة النفسية تقلق المتسمر أمام شاشة الكومبيوتر
شهدت السنوات العشر الماضية ولادة نظام عمل جديد خرج من رحم التكنولوجيا المعاصرة ليحدث ما يشبه الانقلاب في نظام العمالة التقليدي. ويسمى غالباً «نظام العمل من بعد». ويتميز بالتحرر من قيود الزمان والمكان ويعتمد على التواصل بين الحياتين الخاصة والمهنية.
محرك في «اقتصاد المعرفة»
ويستند «نظام العمل من بعد» إلى ثلاثة عناصر: المنزل كمصدر للمعلومات, منظومة الكومبيوتر والانترنت والاتصالات كناقل لها, والمؤسسة كمُستقبِل ومستثمر, ويمارسه الملايين من جيل مستخدمي التكنولوجيا المتطورة, وبات محركاً رئيساً في «اقتصاد المعرفة» في الدول المتقدمة. ويسمح هذا النظام بتحويل المنزل إلى «مكتب من بعد» ويحمل إمكان جعل نظام العمل التقليدي من مخلفات الماضي ومن «لزوم ما لا يلزم». لكنه يتطلب مهارات فنية عالية وتجهيزات الكترونية حديثة وشبكات اتصال سريعة بين المنزل-المكتب ومؤسسة العمل. ويسمح للشخص أو لمجموعة من الأفراد بمزاولة العمل بأنفسهم لحساب شركة أو اكثر، سواء من داخل بيوتهم أو من مراكز خاصة غالباً ما تكون قريبة من أماكن سكنهم.
ويحدد عاملان رئيسان الأجور في هذا النظام, هما حاجة المؤسسة ومهارة العامل. ويشير «المكتب العالمي للعمل» إلى ان معدل الاجور قد يتفاوت بين قطاع وآخر، وان «العمال من بعد» غالباً ما تكون أجورهم أقل من زملائهم في العمل النظامي بنسبة تراوح بين 19 و29 في المئة.
أما دوام العمل فلا وقت محدداً له، وتتحكم فيه اعتبارات عدة مثل أوقات الفراغ والأمزجة والظروف العائلية والاجتماعية والأوضاع الصحية والنفسية. فمثلاً، يعمل في الولايات المتحدة الاميركية راهناً أكثر من 26 في المئة من دون أي وقت محدد, ونحو 40 في المئة بدوام جزئي. ولا يتجاوز معدل «العمل من بعد» في بريطانيا أكثر من 23 ساعة اسبوعياً. ويحاول البعض دمجه مع العمل التقليدي, كما هي الحال في ألمانيا، حيث تصل نسبتهم إلى أكثر من 21 في المئة. ويؤدي الدمج إلى زيادة مداخيلهم ويعزز خبراتهم.
ومن الواضح أن نظام «العمل من بعد» يعود بمردود ايجابي على كل من العمال وأرباب العمل. فقبل أعوام عدّة، حققت «شركة نيويورك فون» زيادة في الارباح بلغت 20 في المئة، بفضل «نظام العمل من بعد».
وتقدر شركة «الكومبيوتر العالمية» ان كل ساعة عمل من بعد تعادل نحو 40 ساعة في المؤسسات. وتتوقع بريطانيا ان يؤدي النظام الجديد إلى زيادة الانتاج بنسبة تراوح بين 15 و20 في المئة في عام 2010.
وكشفت دراسة للاتحاد الاوروبي أخيراً ان 13 مليون «عامل من بعد» مؤهلون للانخراط في السوق في السنوات القليلة المقبلة. واشار «مكتب العمل الفيدرالي» في كندا إلى ان 42 شركة من أصل 250 تبنت حديثاً هذا النظام.
عمل اكثر عدلاً
ويحقق «العمال من بعد» مكاسب انسانية واجتماعية وبيئية تفوق ما يوفره العمل النظامي تشتمل على سهولة التوظيف وتوفير الوقت الضائع في التنقل, وتجنب التلوث البيئي في المدن الصناعية الكبرى والشعور بالارتياح النفسي وغيرها ويؤمن النظام عملاً للمعوقين جسدياً يساويهم بغيرهم. إن الفرضية القائلة بأن المعوق عالة على المجتمع والدولة لا وجود لها في قاموس هذا النظام. ففي الولايات المتحدة أهّلت شركة «اميركان اكسبرس»، قبل بضعة أعوام، قرابة 200 معوق على مختلف البرامج والاجهزة الالكترونية تمهيداً لإدخالهم إلى سوق العمل.
ويتيح «نظام العمل من بعد» فرصاً ذهبية لقاطني المناطق النائية، كما يساهم في تخفيف حدّة البطالة في صفوف الشباب، وكذلك يحقق توازناً انمائياً بين المركز والاطراف, وبين المدن والارياف أيضاً، إضافة الى قدرته على الحدّ من عمق الفوارق الاقتصادية والاجتماعية بين الطبقات.
ويعد هذا النظام بكسر حلقات التخلف في البلدان النامية، ويحجز مكاناً لها في قاطرة التطور التكنولوجي والعلمي. ومن التجارب المضيئة في هذا الإطار ما حدث في بلدان مثل الهند واندونيسيا ونيجيريا وتانزانيا وسيرلانكا وبعض بلدان اميركا اللاتينية.
ويشمل النظام عينه متوسطي الأعمار، كما يتلاءم مع اوضاع شرائح من النساء تفضل البقاء في المنازل. ففي بريطانيا, يعمل في هذا النظام نحو 15 في المئة من النساء وفي «لوس انجليس», تعمل فيه نحو 14 آلف امراة.
ويبقى الحديث عن بعض الآثار السلبية صحياً ونفسياً. وتشمل الجلوس طويلاً أمام شاشة الانترنت ما يحدث أمراضاً في العيون وآلاماً في الظهر اضافة إلى الشعور بالعزلة عن الآخرين والضغط النفسي الناجم عن خلل مفاجئ او تعطل بعض الأجهزة الالكترونية وغيرها.