سلبية والكل يريد ....


أينما تجلس تجد من يتحدث عن آمال المستقبل وأحلام إذا سمعتها شعرت أن الخير كثير وأن المستقبل سيتحول في أقرب وقت، ولكن، لا شئ يحدث، ويبقى الحال على ما هو عليه.

الكل يريد أن يرى عملا بطوليا شجاعا .. الكل يريد أن يرى الأمة تزدهر .. الكل يريد أن يرى حوارات بناءة بين الناس .. الكل يريد أن يرى من حوله أفضل خلقا .. الكل يريد أن يرى التغيير .. الكل يريد أن يرى .... ويرى .... ويرى ....

الكل يريد أن يرى خيرا وقليل من يفعله .. الكل يريد أن يرى وقليل من يشترك في العمل الذي يحب أن يراه


والمشكلة لا تقف عند ذلك ولكنها تمتد لتصل إلى
"إذا رأى أحدهم غيره يفعل ما يريد أن يراه يمتلئ قلبه بالغيرة والحقد"

أي أن النتيجة "الأغلبية لا يريدون أن يفعلون ويحقدون على القليل جدا الذين يفعلون ويجتمعون عليهم لتدميرهم" لتصبح النتيجة صفر
ولكن لماذا لا نسمع في المجالس إلا الجمل التي ذكرتها أعلى هذا المقال

السبب في ذلك هو:


- إما أن القائل لا يعني ما يقول

- أو أنه يعنيه ولكنه أفرغ طاقته في الكلام بدلا من الفعل

- أو أنه شخصية لا تستطيع أن تتحمل المسئولية فيجاهر بالقول وعند الفعل يجد آلاف المبررات التي تبيح له التنصل من المسئولية.

- أو أن الخوف يكبله ويجعله عاجز ضعيف

الأول
لا يشفع له قوله لأن القول يجب أن يصاحبه نية وعمل فإن لم يصاحبه لا نية ولا عمل فكأنه لم يقل شيئا، وهو منافق، يقول لك ما يريحك ولكنه لن يحرك ساكنا في ما يتطلب موقفا جادا ولو كان في متناول يده ولو كان بأبسط الوسائل التي لن تكلفه شيئا، وإذا جاءه من يخالفك الرأي سيقول له عكس ما قاله لك، لأنه يبحث عن مكسب إرضاء الناس والإستحواز على إعجابهم، ولا يقول الرأي لأنه مقتنع به.

الثاني
فيه أمل لو وضع طاقته في العمل وليس في الكلام، فالإنسان الإيجابي الناجح يحتاج إلى فترات تأمل وصمت ومراقبة للأحداث والتفكر فيها، أما كثرة الكلام فهي أداة تخرج الطاقة التي يستخدمها الشخص في بث الحماس داخله ويحبط حرارته ودافعه للعمل.

والكلام معروف أنه تفريغ للطاقة لذا يحاول المكروب الحديث عن مشاكله كي يهدأ وينساها، ومثال آخر على ذلك مبدأ شهير وهو أنه من يصيح في وجهك لا تخف منه لأن ليس لديه إلا الصوت العالي الذي يخبئ وراءه إما ضعف الحيلة أو محاولة تنفيس بشكل واعي كي لا يتحول الغضب إلى فعل يندم عليه، إنما تحسب ألف حساب لمن صمت عن الرد لأن الصمت يعني تحويل كل الطاقة إلى فعل وأذى ولن يصمت إلا من يعرف أنه قوي وأنه قادر على أن يفعل. هذا في مجال الغضب وظلم وإنتقام وما إلى ذلك وهو مجرد مثال واضح ولكنه ليس موضوعنا.

والكلام ليس فقط تفريغ للطاقة ولكن حديثك عن خطتك تحصل بها على مكاسب تكفيك وتشعرك أن الجهد الذي ستبذله لا يتفق مع مكاسبه على أساس أنك حصلت على بعض المكاسب المرضية بمجرد الكلام.
وعلى سبيل المثال، تريد أن تتعلم علما جديدا فتتحدث عن ذلك مع جميع من حولك فيعاملونك وكأنك أصبحت عالما في هذا المجال مع أنك لم تبدأ من الأصل ولكنها كانت مجرد فكرة، أو كأنك أخذت ثمن شئ ستفعله بالكامل وصرفته قبل أن تبدأ العمل فتجد حماسك وقد انتهى لأن العمل أصبح تعب دون مكسب. وعكس ذلك لو أبقيت المكسب كله للنهاية فتظل لاهثا تريد أن تنتهي بسرعة وبأفضل ما لديك كي تستمتع بالنتيجة.

والصمت لا يتعارض مع الشورى فالإنسان الناجح يستشير من حوله ويجمع الآراء من كل إتجاه ويدرس كل ما يسمع ليخرج في النهاية بأفضل ما يرى ولو تابعنا خطوات الشورى سنجد معظمها صمت وقدرة على الإنصات وتقبل الرأي الآخر والتفكر فيه.

ونستخلص هنا أن لحظات الصمت والتأمل هي عنصر مساعد على العمل الإيجابي

الثالث
: يعرف طريق الخير ولكنه لا يستطيع تحمل مسئولية فعله فيتحدث به لإرضاء ضميره ويضع الحجج حتى يشعر في النهاية أنه خالي من المسئولية وأنه "لولا ... لفعل". والتنصل من المسئولية تقبع وراءه شخصية كسولة مرفهة أو شخصية تكبلها قيود الخوف من أي شئ، وفي كلا الحالات تُعرف هذه الشخصية بين أفراد المجتمع على أنها شخصية ضعيفة غير قادرة على إتخاذ القرار.

وهذه الشخصيات تزايدت في مجتمعاتنا كنتيجة مباشرة للأسباب الآتية


- غياب دور القدوة الإيجابية لعدم وجود قدوات فعلية تذكر أمام الأعين ومعظمها أصبح قدوات سلبية من نجوم الكرة ونجوم الفيديو كليب ونجوم تجارة السلب والنهب والكسب السريع.

- التربية الخاطئة التي صورت للشباب أن الحياة ملهى كبير وأن العمل فقط للمحتاج بقدر حاجته للمال وإذا حصل عليه قصر في عمله وجعل طموحه خارج نطاق العمل وداخل ملهى الحياة.

- واستنادا على الخطوة السابقة فقد حدث تطور تكنولوجي كبير وأخذ منه الشباب ما يستطيع أن يلهيه 24 ساعة دون كلل أو ملل.

- ولشيوع فكرة أن العمل مشقة فإن إعمال العقل أيضا أصبح عبء ومشقة ويحتاج الشباب لتعطيله كي تزيد متعته وهذا هو سبب شيوع تعاطي المخدرات والخمور حاليا أكثر من أي وقت سبق.

بعد ذلك من أين لك بشباب تعمل من أجل رقي الأمة، من أين لك بشباب تتحمل مسئولية جادة، وهل سيتركوا متع الحياة ليتكبد أحدهم العناء من أجل قرار يقر به حق أو يدافع به عن كلمة حق، ومن يريد أن يذيق نفسه الهم من أجل آخرين.


والحل في رأيي أن يتعلم الناس قيمة العمل ومتعته وأن العمل ليس فقط من أجل المال ولكن العمل له متعته التي تتوازى مع متعة إعمال العقل. يجب أن نشيع فكرة كيف تستمتع بعقلك وكيف تبدع به وترى ثمرات إبداعك ولو لم تأخذ على ذلك مالا أو أجرا. والأهم من ذلك أن نربي الأجيال القادمة على هذه المبادئ فلا ندفع إليهم بالألعاب المختلفة كي نجعلهم يصمتون ويتلهون بها لنسكتهم ونريح أنفسنا وكأننا نربي حيوانات أليفة لا عقل لها ولا قدرات ولكن أن نجذبهم بأساليب مشجعة لممارسة نشاطات علمية تثقلهم للإستمرار في هذا الدرب كهواية ومتعة وليس كتعب ومجهود يهربون منه، ويا حبذا لو أدخلناهم مجالات العمل ولو بشكل تدريبي بسيط ليعتادوا تحمل هذه المسئوليات ولأن وجودهم في نشاطات جادة يجعلهم ينتقون قدوتهم من داخل هذه النشاطات بشكل تلقائي.

والآن لو عدنا ونظرنا إلى معظم أفراد المجتمع من حولنا سنجد فيهم كثير من الكسل والتردد والخوف والإستسلام وقبول الأمر الواقع وفي النهاية لا أحد يستطيع الإقدام على عمل متميز ومعظمهم يريد أن يراه.

ولأن الخوف (وهو السبب الرابع للسلبية) يشكل جزءا كبيرا من المشكلة فسوف نفرد له مساحة كافية في الرد التالي على الموضوع

بقلم داليـا رشـوان