الطبيعة القانونية لمسئولية الطبيب المدنية...إعداد : محمد عادل الأبيوكي
المقدمة

يثير موضوع مسئولية الطبيب الكثير من التساؤلات ولا سيما في العصر الحالي مع التطور الطبي وما يصاحبه من أخطاء من ناحية والوعي القانوني للأفراد من جهة أخرى . و لا شك أن المسئولية الطبية ليست وليدة العصور المتأخرة من تاريخنا البشري، بل أنها قديمة تضرب جذورها في أعماق التاريخ الإنساني . فالدراسات والاكتشافات التاريخية والأثرية وجدت أن قدماء الفراعنة قد قطعوا شوطاً كبيراً في الطب وأكبر دليل على ذلك فن التحنيط الذين اشتهروا به ، بل وأن فن التحنيط لا يزال من الأسرار غير المعروفة للأطباء حتى الآن . كما أنهم – الفراعنة – أول من عرف وظائف الأعضاء البشرية، وتفصيلات الجسم البشري وأقسامه ومسار الدورة الدموية ... إلخ . وكانت مهنة الطب لديهم تسجل في كتب كان لها من القدسية ما حملهم على تكريمها في الأعياد . بل وقد اهتم المشرع المصري القديم بحماية الناس من الأطباء، فأوجب على الطبيب إتباع ما دونه كبار الأطباء في كتاب السفر المقدس، وإلا تعرض للمسئولية والعقاب الذي قد يصل إلى الإعدام.

وقد عرف اليهود أيضاً الطب كسائر الأمم القديمة، إلا إنهم لم يسمحوا بمزاولة الطب إلا بعد أخذ إذن من مجلس القضاء. وقد عالج التلمود مسألة مسائلة الطبيب. وقد عرف الإغريق أيضاً الطب ومسائلة الطبيب وخير دليل على ذلك ما تم نقله لنا من كتب قام بكتابتها الفيلسوف الإغريقي أفلاطون . وعرف أيضاً الرومان مهنة الطب.

وقد عرفت شريعتنا الإسلامية الغراء المسئولية الطبية وناقشتها وعالجتها أيضاً بشرط أن يقوم بممارسة الطب العارف بمهنة الطب ، وذلك حفاظاً على النفس الإنسانية من التلف ، والقاعدة الشرعية أن كل من يزاول عملاً أو علماً لا يعرفه يكون مسئولاً عن الضرر الذي يصيب الآخرين نتيجة ممارسة العمل ، وقد جاء الحديث الشريف (( من تطيب ولم يكن بالطب معروفاً فأصاب نفساً فما دونها فهو ضامن )) . لذلك فإن الشريعة الإسلامية الغراء تثير مسئولية الطبيب العارف وليس الطبيب الجاهل حيث أن الأخير لا يعد طبيباً بالمرة لذلك لا يسأل على أساس المسئولية الطبيب .

لذلك فإن مسئولية الطبيب يتم معالجتها منذ العصور القديمة مروراً بالعصور الوسطى حتى عصرنا الحالي وستستمر في العصور المستقبلية ما دام الطب يتقدم يوماً تلو الآخر.

وتبدو حساسية التحدث عن مسئولية الطبيب لاتصال عمله بالجسم الإنساني وما يقتضيه ذلك من احترام وتقدير وتكمن الحساسية والحيرة في أمرين :
أولهما: حماية المرضى مما قد يصدر من الأطباء من أخطاء تكون لها آثار سيئة ، وضمان توفير العناية الطبية اللازمة من تأكيد مسئولية الأطباء.
ثانيهما: هو توفير الحرية اللازمة للأطباء في معالجة مرضاهم ، فالطبيب الذي يخشى إرهاب المسئولية سيحجم عن الإقدام على فحص المريض وتبني الطرق اللازمة والتي تستدعيها حالته . فعمل الأطباء يجب أن يتم في جو كاف من الثقة والاطمئنان.

لذلك يجب الموازنة بين مصلحتين غالباً ما تكونا متضاربتين هما مصلحة المريض في سلامة جسده وعدم المساس به من قبل الغير ، ومصلحة الطبيب في ممارسة مهنته بقدر كبير من الحرية دونما قيود أو خطر قد يلحق به .

ويثير خطأ الطبيب عدة مسئوليات إلا أننا سوف نتطرق عن الحديث حول الطبيعة القانونية للمسئولية المدنية للطبيب، دون المسئوليات الأخرى، والتي أساسها يعود وبلا شك إلى القواعد العامة للمسئولية المدنية من ارتكب خطاً سبب ضرراً للغير يلتزم بالتعويض. وذلك على النحو التالي :

المبحث الأول: الخطأ الطبي وصفته
المطلب الأول : تعريف الخطأ الطبي.
المطلب الثاني : صفة الخطأ الطبي .
المبحث الثاني : الطبيعة القانونية لمسئولية الطبيب
المطلب الأول : الطبيعة العقدية للمسئولية الطبية
المطلب الثاني : الحالات التي تكون فيها المسئولية تقصيرية
الخاتمة







المبحث الأول
الخطأ الطبي وصفته

سوف نتناول في هذا المبحث بيان بتعريف الخطأ الطبي ( المطلب الأول ) ثم نبين صفة الخطأ الطبي ( المطلب الثاني )

المطلب الأول
تعريف الخطأ الطبي

يمكن لنا تعريف الخطأ الغير العمدي –بصفة عامة – بأنه إخلال الجاني عن تصرفه الإرادي بواجبات الحيطة والحذر التي يفرضها المشرع ‘إلى كافة الأفراد فيما يباشرونه من أفعال حرصاً على الحقوق والمصالح التي يحميها القانون ، وعدم حيلولته تبعاً لذلك من إفضاء سلوكه لإحداث النتيجة المعاقب عليها لاعتقاده – بغير أساس – أنها لن تحدث ، أو لعدم توقعه هذه النتيجة بينما كان من واجبه وفي مقدوره توقعها وعدم الإقدام على السلوك المؤدي إليها ، أو مباشرته بما لا يتجاوز الحيطة الواجبة .

أو يمكن تعريفه بأنه إخلال بواجب سابق كان بالإمكان معرفته ومراعاته . ويعرفه شريحة كبرى من الفقهاء بأنه إخلال بواجب قانوني عام يقترن بإدراك المخل بهذا الواجب .

ويبين لنا من التعريف أن جوهر الخطأ غير العمدي يتمثل في إخلال الجاني بالالتزام العام الذي يفرضه المشرع على كافة الأفراد بالتزام مراعاة الحيطة والحذر فيما يباشرونه من ذو شقين الأول : موضوعه اجتناب التصرفات الخطرة، او مباشرتها في حدود تجنب خطرها ، او حرصها في النطاق الذي يرخص به القانون ، والثاني ، موضوعه التبصر بآثار هذه التصرفات ، فالواجب يفرض على كل من يقدم على سلوك خطر أن يتوقع ما قد يتمخض عنه سلوكه من أثر وأن يتخذ منه العناية والاحتياط ما يحول بينه وبين المساس بالحقوق والمصالح التي يحميها القانون.

وإذا كان الخطأ غير العمدي يتوافر – بصفة عامة – إذا تصرف الشخص على نحو لا يتفق مع واجبات الحيطة والحذر المفروضة قانوناً على كافة الأفراد فيما يباشرونه من أفعال وعدم حيلولته تبعاً لذلك من إفضاء سلوكه لإحداث النتيجة المعاقب عليها قانوناً ، معتقداً – بغير أساس – أنها لن تحدث أو عدم توقع هذه النتيجة بينما كان من واجبه وفي استطاعته توقعها.

وهذا أيضاً مفهوم الخطأ الطبي ،وكل ما هنالك أن عدم التذرع بواجبات الحيطة والحذر يعنس حينئذ عدم قيام الطبيب – في غير الظروف الاستثنائية – بمهنته وواجباتها وفقاً لما تقضي به القوانين واللوائح والقرارات والأنظمة في هذا الشأن فضلاً عما تقضي به أصولها العلمية والفنية المقررة الثابتة .

والمشاهد لأغلب التشريعات التي تناولت تنظيم مهنة الطب يجدها أنها لم تضع تعريفاً للخطأ الطبي ، تاركة ذلك لفقه والقضاء ، واقتصرت تلك القوانين على بيان واجبات والتزامات الطبيب ، دون وضع الجزاء المناسب في حالة الخروج عليها أو الإخلال بها ، مما حدا بالقضاء إلى تطبيق القواعد العامة في المسئولية المدنية على الأطباء شأنهم في ذلك شأن جميع الأفراد من أرباب المهن الأخرى.

لذلك فإن أغلب الفقه يعرف الخطأ الطبي بأنه " الخطأ الذي يتصل ويتعلق بالأصول الفنية للمهنة " والملاحظ لهذا التعريف يجد أنه أستمده من الخطأ المهني بشكل عام . وعرفه البعض بأنه " عدم قيام الطبيب بالالتزامات الخاصة التي فرضتها عليه مهنته "

وهنالك من يعرف الخطأ الطبي بأنه خطأ ينشأ حين يكون هناك إخلال بالعقد الطبي أو بالالتزام المفروض قانوناً على الطبيب أو القائم بالعمل الطبي .

ومن خلال استقراء التعريفات المختلفة نشايع من جانبا الفقه الذي يرى أن الخطأ الطبي يمكن تعريفه بأنه: ( الخطأ الذي يرتكبه الطبيب أثناء مزاولته مهنته إخلالا بموجب بذل العناية ، ويتجلى في كل مرة لا يقوم فيها الطبيب بعمله بانتباه وحذر ، ولا يراعي فيها الأصول العلمية المستقرة ، مع الأخذ بعين الاعتبار كل الظروف الاستثنائية في الزمان والمكان ، وعدم الأخذ بالضرورة بنتيجة عمله دائماً والتي قد تقترن أحياناً بالفشل نتيجة للمخاطر المحتملة التي تكتنف معظم الأعمال الطبية ، وهو بالنتيجة كل خطأ يرتكبه الطبيب أثناء مزاولته لفنه إذا كان السبب في الإضرار بمريضه )

ولكن ما يجب مراعاته عن إثارته مسئولية الطبيب نتيجة خطأه الطبي هو صفة الخطأ الطبي ذاته من حيث جسامته وطبيعته . وهذا ما سوف نبينه في المطلب التالي.

المطلب الثاني
صفة الخطأ الطبي

يتخذ الخطأ الطبي عدة صفات حتى يتم من خلاله مسائلة الطبيب مدنياً وإثارة مسئوليته نتيجة خطأه ، وتختلف صفة الخطأ الطبي نتيجة لاختلاف نوعه إذا ما كان مهني أو عادي ، يسير أو جسيم وهذا ما سوف نبينه تالياً :

أولاً: الخطأ الجسيم واليسير :

يتم النظر وفقاً لهذه الصفة حول جسامة الخطأ الطبي نفسه الصادر من الطبيب بعيداً عن طبيعته سواء أكان خطأ مهني او عادي. ووفقاً لذلك فإن الأخذ بهذا المعيار لتحديد صفة الخطأ الطبي أدى - حتى وقت قريب – إلى تضييق نطاق مسئولية الأطباء عن مسئولية غيرهم ، وذلك بسبب محاسبتهم على الجسيم من أخطائهم دون اليسير منها .

فقد قضي وفقاً لذلك بأن المسئولية تتناول كذلك الأعمال الطبية البحتة ولا تمنع المحاكم من النظر بحجة أن يؤدي ذلك إلى التدخل في فحص مسائل تقع في علم الطب وحده ، بل أن الطبيب في مثل تلك الحالات يجب أن يسأل عن خطئه الجسيم ، المستخلص من وقائع ناطقة واضحة ، ويتنافى مع القواعد المقررة التي لا نزاع فيها.

لذلك نجد وفقاً للنظر لمدى جسامة الخطأ الطبي أو يسيره حتى يمكن لنا أن نثير مسئولية الطبيب أن يسأل الطبيب فقط عن الجسيم من خطئه دون اليسير منه ، وذلك الرأي مستمد من الأطباء أنفسهم الذين يرون أنهم لا يسألون إلا ما يقع منهم من أخطاء جسيمة أما اليسيرة فلا يسأل إلا أمام ضميره.

وقد اعتنق نظرية الخطأ الجسيم القضاء الفرنسي لفترة قريبة وقد تأثر به القضاء المصري ، فقضت المحاكم المختلطة إعمالاً لهذه النظرية بأن الطبيب لا يسأل عن خطئه اليسير بل عن خطئه الجسيم ، وقضت أيضاً بأن الطبيب لا يسأل عن أخطائه الفنية في التشخيص والعلاج إلا في حالتي الغش والخطأ الجسيم.

ثانياً : الخطأ العادي والخطأ المهني :

الخطأ العادي هو ما يصدر من الطبيب كغيره من الناس أي كفعل مادي يشكل ارتكابه مخالفة لواجب الحرص المفروض على الناس كافة . كإجراء العملية الجراحية في حالة سكر أو الإهمال في تخدير المريض قبل العملية . أما الخطأ المهني فهو ما يتصل بالأصول الفنية للمهنة ، كخطأ الطبيب في تشخيص المريض أو اختيار وسيلة العلاج.

وقالت بهذه التفرقة محكمة النقض الفرنسية ، إذ استقر القضاء الفرنسي أن يسأل الطبيب عن خطأه العادي في جميع درجاته وصوره يسيراً أم كان جسيماً ، أما بالنسبة للخطأ المهني أو الفني فإن الطبيب لا يسأل إلا عن خطئه الجسيم .

وتكمن الحكمة من هذه التفرقة عند أصحابها هي أن رجال افن يجب أن تتسع لهم حرية العمل حتى يسهل عليهم مسايرة النظريات الحديثة والانتفاع بها بعد التحقق من صحتها ، ومن جهة أخرى أن كثيراً من المسائل الفنية لا تزال موضوع خلاف عند الفنيين فما يراه بعضهم خطأ يراه البعض الآخر صحيحاً ، ومؤاخذة الطبيب عن خطئه الفني اليسير قد تستلزم توغل القضاء في مناقشات يجدر به ألا يمعن فيها صوناً عن زلل لا يعصمه منه أن يرجع إلى نصح الأطباء ومشورتهم ، لان القاضي يجب أن يقضي بما يؤمن به لا بما يؤمن به غيره. إلا أن هذه التفرقة بين نوعي الخطأ العادي والفني أو المهني لم تصمد كثيراً وذلك لسببين :
أولهما : عدم وجود مبرر قوي يسندها ، وذلك للتفرقة بين الخطأ العادي والمهني.
ثانيهما : تطور فكرة المسئولية العقدية منها والتقصيرية والميل نحو توفير حماية أكبر للمضرور في مواجهة المسئول مدنياً.

لذلك فقد عدل القضاء في مصر وفرنسا من تلك التفرقة لذلك أصبح الطبيب مسئولاً عن خطئه مهما كان نوعه ، سواء كان خطأ فنياً أو غير فني ، جسيمتاً أو يسيراً.

مسئولية الطبيب عن خطئه الطبي بكافة صوره :

نظراً لما وجه إلى نظرية التفرقة بين الخطأ العادي والخطأ الفني من نقد – كما اشرنا سابقاً – فقد ذهب القضاء الفرنسي يشايعه في ذلك القضاء المصري إلى مسائلة الطبيب عن خطئه الطبي بكل صوره متى كان هذا الخطأ ثابت في حقه بقطع النظر عما إذا كان هذا الخطأ عاديا أو فنياً جسيماً أو بسيطاً.

لذلك فإن الفقه والقضاء يأخذ بوحدة الخطأ الطبي لاتفاقه مع حكم القانون الذي لم يفرق بين نوع وآخر من الأخطاء ، بحيث يسأل الطبيب عن كل خطأ ثابت في حقه سواء أكان خطاً عادياً أو فنياً ، ولا بد من ثبوت الخطأ لو كان يسيراً في حق الطبيب ، على أن يكون هذا الخطأ ثابتاً على وجه التحقيق ، أما إذا انتفى هذا الخطأ فلا يجوز مساءلة الطبيب ، على محاولة إنقاذ مريض محاولة غير مضمونة ، طالما كان من المحتمل أن تنجح هذه المحاولة وتؤدي إلى إنقاذ حياة المريض .

فقد قضت محكمة النقض الفرنسية أن المادتين 1382 ,1383 مدني فرنسي قد قررتا قاعدة عامة هي قاعدة ضرورة إسناد الخطأ إلى مسئول لإمكان إلزامه بتعويض الضرر الذي ينشأ عن فعله بل حتى عن مجرد إهماله او عم تبصره ، وأن هذه القاعدة تسري على جميع الناس مهما كانت مراكزهم وصناعاتهم دون استثناء ، إلا في الحالات التي نص عليها القانون بصفة خاصة ، وأنه لا يوجد أي استثناء من هذا القبيل بالنسبة غلى لأطباء، وأنه مما لاشك فيه أن الحكمة تتطلب من القاضي ألا يوغل في فحص النظريات والأساليب الطبية ، وأنه توجد قواعد عامة يمليها حسن التبصر وسلامة الذوق وتجب مراعاتها في كل مهنة ، وأن الأطباء فيما يتعلق بذلك خاضعون للقانون العام كغيرهم من الناس .

وفي مصر قضت محكمة النقض المصرية أن الطبيب الذي يخطئ مسئول عن نتيجة خطئه ، بدون تفريق بين الخطأ الهين والجسيم ولا بين الفنيين وغيرهم ، ويسأل الطبيب عن إهماله سواء كان خطاً جسيماً أو يسيراً ، فلا يتمتع الأطباء باستثناء خاص .

وقضت كذلك بأن الطبيب يسأل عن كل تقصير في مسلكه الطبي لا يقع من طبيب يقظ في مستواه المهني وجد في نفس الظروف الخارجية اللتين أحاطت الطبيب المسئول ، كما يسأل عن خطأه العادي أياً كانت درجة جسامته. لذلك فإن الطبيب مسئول عن خطأه الطبي أياً كان مستواه وأياً كان نوعه ما دام ثبت خطأ الطبيب .