المبحث الثاني
الطبيعة القانونية لمسئولية الطبيب

المسئولية ، مركز قانوني يسبغه القانون على الشخص عندما يخل بالتزام قانوني او عقدي بدون حق يقره القانون ، يستو أن يكون هذا الإخلال إيجابياً ، كالاعتداء على النفس أو المال، أو سلبياً كالامتناع عن تنفيذ هذا الالتزام ، أو ان يكون عمدياً أو تقصيرياً ، ويتوافر بذلك ركن الخطأ ، ويكون خطأ تقصيرياً إذا تنازل الإخلال التزاماً يفرض على الكافة عدم الإضرار بالغير ، فالإخلال بهذا النهي ينطوي على خطأ تقصيري ولو لم يجر به نص في القانون ، ذلك أن الخطأ التقصيري قد ينصرف إلى الخطأ الجنائي عندما يرد الإخلال على نص قرر له القانون عقوبة جنائية ، سواء ورد في قانون العقوبات أو قانون آخر، وقد ينصرف إلى الخطأ المدني ، فيكون خطأ تقصيرياً مدنياً ، عندما يكون الفعل غير معاقب عليه جنائياً ويمثل إخلالاً بحقوق الغير ويخرج عن السلوك المألوف للشخص العادي في ذات الظروف التي حدث فيها الفعل ، ويتولى قاضي الموضوع تكييف هذا الفعل معتداً تلك الظروف لاستخلاص ما إذا كان ينطوي على خطأ تقصيري من عدمه ، وهو بذلك يخضع لرقابة محكمة النقض ، خلافاً لاستخلاصه للخطأ ، وهو مرحلة تالية لتكييف العمل يستقل بتقديرها قاضي الموضوع متى كان استخلاصه سائغاً.

وتثور المسئولية الطبية عندما يختلف أبناء المهنة الواحدة عن بذل العناية التي تتطلبها مهنتهم والتي ينتظرها منهم المرضى . وقد كانت تلك المسئولية محلاً للعديد من التطبيقات القضائية وبالتالي للكثير من التساؤلات حول تحديد طبيعتها ، عقدية أم تقصيرية.

وقد استقر القضاء الفرنسي على أن المسئولية الطبية هي في الأصل مسئولية عقدية والاستثناء أن تكون تقصيرية ، إلا أن القضاء المصري يقضي بأن مسئولية الطبيب مسئولية تقصيرية إلا أنها يمكن أن تكون عقدية في بعض الأحوال .

المطلب الأول
الطبيعة العقدية للمسئولية الطبية

يشترط لقيان المسئولية العقدية للطبيب توافر الشروط الآتية :
1- أن يكون هناك عقد فإذا باشر الطبيب العلاج دون أن يسبق ذلك عقد كانت المسئولية تقصيرية.
2- أن يكون العقد صحيحاً ، ذلك لأن العقد الباطل لا يترتب عليه التزام او المسئولية عنه تكون تقصيرية . ومن الأمثلة التي يبطل فيها العقد إذا كان لسبب غير مشروع أو مخالفاً للآداب العامة كما لو كان الغ7رض من العقد إجراء تجربة طبية لا تحتاج إليها حالة المريض الصحية.
3- يجب أن يكون المتضرر هنا هو المريض فإذا كان من الغير كمساعد الطبيب الجراح الذي يصيبه الطبيب أثناء إجراء عملية فالمسئولية هنا تكون تقصيرية .
4- يجب أن يكون الخطأ المنسوب إلى الطبيب نتيجة لعدم تنفيذ التزام ناشئ عن عقد العلاج أما إذا كان الخطأ المنسوب للطبيب لا يمت بصلة غلى الرابطة العقدية كانت المسئولية تقصيرية مثال ذلك الطبيب الذي لم ينتبه إلى أخطاء مطبعية خاصة بتحديد جرعة الدواء مما تسب عنه وفاة الشخص.
5- أن يكون المدعي صاحب حق الاستناد إلى العقد.

بعد تناول الشروط الواجب توافرها حتى تكون مسئولية الطبيب مسئولية عقدية لا بد أن نتناول موقف القضاء والفقه الفرنسي لكون القاعدة العامة في القضاء الفرنسي أن المسئولية الطبية هي مسئولية عقدية وفي بعض الحالات تكون تقصيرية.

أولاً : موقف القضاء الفرنسي :

استقر قضاء محكمة النقض الفرنسية في حكم شهير لها في يوم 20 مايو 1936 على أنه من المقرر نشوء عقد بين الطبيب والمريض يلتزم بمقتضاه الأول لا بشفاء الثاني بل بتقديم العناية اليقظة التي تقتضيها الظروف الخاصة للمريض ، والتي تتفق مع أصول المهنة ومقتضيات التطور العلمي ، ويترتب على الإخلال بهذا الالتزام التعاقدي – ولو بغير قصد – ميلاد مسئولية من نفس النوع أي المسئولية التعاقدية .

ومنذ أن صدر هذا الحكم عن محكمة النقض الفرنسية ، فإن قضاء محاكم الدرجة الأولى والاستئناف في فرنسا مجمع على قبول مبدأ المسئولية العقدية للطبيب، وأصبحت المحاكم لا ترى في الرابطة القائمة بين الطبيب والمريض إلا تعاقدية ، على اعتبار أن المبدأ الذي وضعه الحكم الصادر في 20 مايو 1936 ، يقوم على التزام الطبيب بتقديم العناية بكل ضمير وانتباه ، وبصورة مطابقة للأصول العلمية الطبية .

وتظل مسئولية الطبيب تعاقدية حتى ولو كان العلاج والرعاية الطبية التي تمت بدون مقابل من جانب المريض ، أي على سبيل الود أو الصدقة .
وتعتبر المسئولية تعاقدية كذلك بالنسبة لباقي أفراد المهنة من جراحين وأطباء الأسنان وصيادلة إلى غير ذلك ، وتظل المسئولية ذات طبيعة تعاقدية كذلك بالنسبة للمؤسسات العلاجية .

كما تقوم المسئولية العقدية في حالة قيام طبيب بمعالجة زميلاً له مجاناً على تقدير قيام عقد بينهما ، ولا يعتبر ما يؤديه الطبيب لزميله خدمة مجانية ، لأن انعدام المقابل الذي ارتضاه الأطباء فيما بينهم طبقاً لعادة ثابتة ، يمكن تفسيره على أنه إبراء اختياري من الدين مؤسس على فكرة التبادل ليكون العقد في حقيقته معاوضة.

ثانياً : موقف الفقه الفرنسي :

استقر الفقه الفرنسي القديم على ان الأعمال الأدبية والفنية لا يمكن أن تكون محلاً لتعاقد ملزم . ورتب هذا الفقه على ذلك لأن العلاقة بين الطبيب والمريض ليست علاقة عقدية ، أن الطبيب لا يسأل عقدياً في مواجهة المريض ،كما أن المريض لا يجبر قضاء على أن يدفع مقابلاً للخدمة التي أداها له الطبيب ولو كان قد اتفق معه على ذلك .

إلا أن الفقه الفرنسي تنبه في بداية القرن العشرين إلى خطأ النظرية السابقة، فأخذ الفقهاء ينادون بوجوب اعتبار مسئولية الطبيب الذي يختاره المريض أو نائبه لعالجه ، مسئولية تعاقدية ، بل أنه حتى عندما يكون اختيار المريض للطبيب حاصلاً من الغير ، كمستشفى أو رب عمل ، فيكون هناك اشتراط لمصلحة المريض ، يجعل المسئولية تعاقدية أيضاً.


ثالثاً : موقف القضاء المصري :

يذهب القضاء المصري إلى القول بأن مسئولية الطبيب مسئولية تقصيرية ، فقد قضت محكمة النقض المصرية بان لا يمكن مسألة طبيب المستشفى العام إلا على أساس المسئولية التقصيرية ، لأنه لا يمكن الق44ول في هذه الحالة بأن المريض قد أختار الطبيب لعلاجه حتى ينعقد عقد بينهما ، كما لا يمكن القول بوجود عقد اشتراط لمصلحة المريض بين إدارة المستشفى العام وبين أطبائها لأن علاقة الطبيب الموظف بالجهة الإدارية التي يتبعها هي علاقة تنظيمية وليست تعاقدية ، وبذلك لا يكون هناك محل لبحث مسئولية طبيب المستشفى العام في دائرة المسئولية لا تعاقدية.

وبالنظر لهذا الحكم نجد صراحةً أنه يقرر أن مسئولية الطبيب تقصيرية في فرض وه العلاج عند طبيب عام بمستشفى عام ومكن ثم تنتفي المسئولية العقدية لعدم تصور وجود عقد بين المريض الذي يتلقى العلاج وبين الطبيب العام.

كما ذهبت أحكام القضاء المصري إلى القول بالطبيعة التقصيرية للمسئولية الطبية فقد قضت محكمة النقض بأن الطبيب مسئول عن تعويض الضرر المترتب على خطئه في المعالجة ومسئوليته هذه تقصيرية بعيدة عن المسئولية العقدية.

وطبيعة الحال أن القضاء لا يتفق مع المنطق القانوني في تجاهله للعلاقة التعاقدية التي قد تنشأ بين الطبيب والمريض وبصفة خاصة في الحالات التي يلجأ هذا الأخير إلى الأول عن وعي واختيار له . فالرابطة العقدية تجد جذورها وتضرب بأوصالها في هذه الحالات ، ويترتب على الضرر الذي يصيب المريض من جراء إخلال الطبيب بالتزامه نشوء المسئولية العقدية .


ولكن يجدر الإشارة في هذا الصدد على أن محكمة النقض تطبق قواعد المسئولية التقصيرية على الالتزام بتعويض الضرر المرتد الذي يصيب أقارب المريض ، وهذا أمر بديهي فإذا أمكن القول بقيام علاقة عقدية بين المريض والطبيب ، فإن مثل هذه العلاقة لا توجد بين الأقارب والطبيب.

ولكن الفقه المصري يعارض القضاء المصري ويؤيد القضاء الفرنسي في اعتبار أن الأصل هو أن تكون المسئولية الطبية تعاقدية إلا في حالات معينة يتم معالجتها في المطلب التالي .
المطلب الثاني
الحالات التي تكون فيها المسئولية الطبية تقصيرية

قلنا كما ذكرنا مسبقاً أن مسئولية الطبيب وفقاً على ما أستقر عليه الفقه والقضاء الفرنسي هي مسئولية تعاقدية ، إلا أن هناك حالات تكون فيها تلك المسئولية تقصيرية ، وهذه الحالات هي :

1- عندما تأخذ مخالفة الطبيب لالتزامه ببذل العناية طابعاً جنائياً ، أي يصبح فعله يشكل جريمة ، فسيي المسئولية الطبية هو الفعل المكون للجريمة ، ويكون القضاء الجنائي مختصاً بالدعويين الجنائية والمدنية .
2- إذا نجم ضرر للغير بسبب المريض ذاته ، فتكون مسئولية الطبيب أمام هذا الغير مسئولية تقصيرية – حتى ولو كان بين الطبيب والمريض ( أو نائبه ) عقد صحيح ونافذ – ومن قبيل ذلك ، ولو تسبب المريض بنقل مرضه إلى الغير عن طريق العدوى ، أو كما لو استعمل الطبيب ذات الأداة من مريض مصاب بدا معد مع آخر سالم من هذا الداء ، فنقل إليه العدوى بسبب هذا الخطأ(من الطبيب)

3- تدخل الطبيب بغير دعوة المريض كأن يصاب شخص في الطريق العام فيسارع بعض المارة باستدعاء طبيب لإنقاذه أو أن يشاهد الطبيب حادثاً ويتدخل من تلقاء نفسه لإسعاف المصاب فإن المسئولية هنا تكون تقصيرية لعدم وجود عقد .

4- الطبيب الذي يعمل موظفاً يعتبر في مركز تنظيمي أو لائحي وأنه يخضع تبعاً لذلك للقوانين واللوائح الخاصة بالعاملين بالدولة وفي هذه الحالة لا يمكن مساءلة الطبيب إلا على ساس المسئولية التقصيرية .

5- وكذلك في حالة امتناع الطبيب ع علاج المريض أو إنقاذه بلا مبرر مشرع ، وذلك أن تقديم المساعدة لشخص في خطر يعد واجباً إنسانياً بدائتاً يلام إذا امتنع القيام به أي شخص ، ومن ثم من باب أولى يلام الطبيب الذي يمتنع عن علاج مريض أو إنقاذه مخالفاً بذلك قانون أخلاقيات المهنة التي يفرض عليه التدخل السريع لإنقاذ حياته .


الخاتمة

وبدراستنا حول الموضوع الذي يعد جديد نسبياً بالنسبة لي ، والذي تناولها في تعريف الخطأ الطبي وبيان صفاته سواء أكان بسيط أو جسيم مهني أو عادي . ثم تناولت في المبحث الثاني طبيعة مسئولية الطبيب المدنية وتطورها وبيان موقف الفقه والقضاء في كل من فرنسا ومصر ، و قد اعتمدت في ذلك على عدد من المراجع التي تناولت الموضوع بإسهاب كبير .

و أرى من وجهة نظري أن طبيعة القانونية للمسئولية المدنية للطبيب أنها عقدية وحتى وإن كنا بصدد علاج في أحد المستشفيات العامة كما ذهب البعض ومعهم القضاء المصري سابقاً .

لذلك لا بد من إثارة مسئولية الطبيب نتيجة لخطئه مسئولية عقدية وذلك مع وجود نوع من الحرية التي يجب أـن تثبت للطبيب المعالج حتى يتم عمله بأكمل وجه ، لبذلك لا بد من تعيين لجنة تتكون من أطباء محترفين والتي يجب على المحكمة أن تستعين بهم في تقرير خطأ الطبيب ، مع ما يتفق به في قانون الإثبات .




والله ولي التوفيق ،،،
المراجع

1- المستشار أنور طلبة / المسئولية المدنية / الجزء الأول ( المسئولية العقدية) / الطبعة الأولى / المكتب الجامعي الحديث / الإسكندرية / 2005
2- الدكتور حسن الإبراشي / مسئولية الأطباء والجراحين المدنية في التشريع المصري والقانون المقارن / دار النشر للجامعات العربية / 1951
3- الدكتور حسن ربيع طه / المسئولية الجنائية / بدون ناشر / مطبعة النسر / 1995
4- المستشار الدكتور رمضان جمال كامل / مسئولية الأطباء والجراحين المدنية / المركز القومي للإصدارات القانونية / الطبعة الأولى / 2005 /
5- القاضي طلال عجاج / المسئولية المدنية للطبيب دراسة مقارنة/ الطبعة الأولى / المؤسسة الحديثة للكتاب / لبنان / 2004
6- الدكتور عبد الحميد الشواربي / مسئولية الأطباء والصيادلة والمستشفيات ( المدنية والجنائية والتأديبية ) / منشأة المعارف / الإسكندرية / 2004
7- الدكتور عبد السلام التونجي / المسئولية المدنية ( مسئولية الطبيب في القانون المقارن ) / الطبعة الثانية / 1975
8- المحامي قيس إبراهيم الصقير / المسئولية المهنية الطبية في المملكة العربية السعودية / الطبعة الأولى / 1996
9- الدكتور محمد حسين منصور / المسئولية الطبية / دار الجامعة الجديدة للنشر / الإسكندرية/1999
10- الدكتور محمد شنة / شرح قانون العقوبات البحريني ( القسم العام ) / مطبوعات جامعة البحرين / 2006


منقووول للاهمية