عنف السنوات الأخيرة في منطقتنا العربية، لا يحمل رسالة احتجاج ايجابية على الواقع من اجل تغييره إلى فضاء الحرية والديمقراطية ، فالعنف على أرض العراق ، وما يحدث في لبنان من اغتيالات استهدفت أخيرا رجال الصحافة ، وما حدث في أكثر من بلد عربي ، عنف يجمع بين سوء الرسالة المحمولة ، وعدم مشروعية وأخلاقية الأداة . إنه عنف لا يحتاج إلى البحث عن تفاصيل من وراءه عند كل عملية، فغموض الفاعل لا يقابله غموض الرسالة التي يقدمها. إنها تفاصيل هامشية لمقاومات كبرى ضد التغيير، ومواجهة رياح التحولات في المنطقة. هناك عنف من اجل التغيير وعنف ضد التغيير. جزء كبير من عنف السنوات الأخيرة كان ضد التغيير والتجاوب مع متطلبات المرحلة.
فهم حقيقة التغيير يبدأ من الوعي بأساليب مقاومته المختلفة التي تنشأ في كل مرحلة، وتعزز حالة الممانعة ضد التغيير وقبول الاصلاح، هذه المقاومة نجحت اكثر من مرة في تعطيل واعاقة التغيير الحقيقي في أكثر من بلد عربي. وقد تتعدد آليات هذه المقاومة وفقا للمكان والمجال الذي تتحرك فيه وتسعى إلى أهداف مختلفة، تبدأ من محاولة تعطيل مسار التغيير والإصلاح، إلى رفع كلفة وضريبة هذا التغيير بالعنف. أو اللجوء إلى تشويه سمعته وتفريغه من مضمونه. وقد برزت ملامح مقاومة التغيير مبكرا في أكثر من حاله عربية، فما زال العراق يحتفظ بالنموذج الأسوأ في تدمير الذات، فمنذ حرب الخليج الثانية لم يعترف العراق في ذلك الوقت بضرورة التغيير والتجاوب مع تحولات العالم من حوله ، مرورا بسنوات الحصار. في هذه المرحلة تواجه محاولات انشاء عراق جديد بعد زوال النظام السابق حالة ممانعة عبثية لتعطيل أي جهد نحو عراق مستقر. مسار الاصلاح أخذ تعرجات محيرة، فكل خطوة تقدم يصحبها تعثر وتراجع.
عراق اليوم ربما أفضل من عراق الأمس وسنوات الحصار وحروب صدام ، لكنه أسوأ في قلقه على المستقبل الذي لم تتضح معالمه بعد . في هذا الوقت تبدو لبنان وسوريا أيضا في مواجهة رياح التحول المتسارع لكن مقاومة التغيير أظهرت قدرتها في رفع كلفة التغيير أو تعطيله بأكثر من طريقة لحرف مساره ، ولو بالعودة إلى شبح أجواء العنف والاغتيالات.
اكتشاف أساليب تفريغ الإصلاح من مضمونه أكثر تعقيدا في الحالة العربية التي تمتلك خبرة عريقة في هذا الشأن ، وتتعدد حيلها وأساليبها من خلال انشاء مسارات دائرية في الفضاء السياسي والاجتماعي تشبع مجتمعاتها بالحراك الوهمي، تفريغ الاصلاح من مضمونه يأتي بأكثر من عمل حتى وإن كان عن طريق المسارعة إلى التقارب مع اسرائيل لمواجهة الضغوط الخارجية.
أقوى مظاهر هذه المقاومة جاءت من الخطاب الذي نشأ مؤخرا في منطقتنا العربية لمقاومة التغيير من خلال تشويه سمعته، نتيجة تحالف أطياف وتيارات مختلفة، ومع أن بعضها ليس ضد الإصلاح والتغيير من ناحية المبدأ إلا أنها وجدت نفسها منخرطة في مسار ضد التغيير لأسباب تكتيكية. خطاب مناهضة التغيير قدم محاولات ذكية في تشويه الاصلاح وصوره بأنه خضوع لجهات وأجندة أجنبية، أو لخدمة مصالح اسرائيل في المنطقة، وفي المناطق والمنابر الأكثر محافظة تستعمل لغة أكثر شحنا ضد فكرة التغيير لتدنيس المبدأ ذاته من خلال المبالغات حول استهداف الاسلام والتآمر عليه من الخارج . هذه الازمة تتضخم عندما تتحول آليات مقاومة التغيير إلى فعل بطولي ونضالي كما يحدث عند التيارات المحافظة في مقاومة إصلاح أوضاع التعليم والمرأة ومواجهة أي بادرة انفتاح، وجعلها معارك تاريخية تستحق التحزب والانتحار من أجلها، وتجذير الصراع الاجتماعي المدمر.
محصلة السنوات الماضية توحي بنجاح هذه المقاومة من بعض التيارات والاتجاهات الرسمية في العالم العربي في تعطيل مسار التغيير وتشويه سمعة الاصلاح ، عبر استعمال الوسائل المشروعة وغير المشروعة في تضليل الجماهير، ومع أنه بعد كل عمل وخطوة في اعاقة التغيير، يحاول البعض الحديث عن عجز أصحاب الأيدي الخفية في إيقاف عجلة التغيير والإصلاح القادم ، مع إغراء الحديث عن رغبة الشعوب بالحرية والديموقراطية ، إلا أن حصيلة الواقع تشهد بنجاح هذه المقاومة، فالتفاؤلية المتصنعة تفشل في تقييم الواقع . الكثيرون يعتقدون أن بعض أساليب مقاومة التغيير عند بعض الأحزاب والأنظمة انتهى عصرها، وأن الزمن تغير لكن الواقع يفاجئنا بهمجيته من خلال سيارة مفخخة لإسكات صاحب قلم، أو ناشط سياسي . فلأكثر من مرة يفشل الرهان على تفهم أعداء الإصلاح، وأنهم ليسوا بهذا الغباء والتهور في التعامل مع ظروف المرحلة وتغيرات العالم.
أجواء الديكتاتوريات تولد العنف من داخلها وتعزز حالات التمرد، إلا أن معطيات الواقع الحالية تغري بالممانعة ضد التغيير، فهذه المعطيات تؤكد أن الأنظمة العربية ليست مهددة بثورات شعبية، وما زالت أدوات مقاومة التغيير عند بعض الأنظمة أكثر فعالية من ارادة التغيير الشعبي، فاستقرار الدولة العربية وتعملقها أمام المجتمع كان أهم منجزات المرحلة الماضية .
ومع أن مقاومة التغيير لها تأثيراتها السلبية على الحراك السياسي والاجتماعي العربي، إلا أنها لا تخلو من إيجابيات ضرورية لتحقيق الاصلاح المنشود، هذه الإيجابيات ليس مصدرها رؤية تفاؤلية لتجميل حركة الواقع وصراعاته، وإنما طبيعة المجتمعات وحراكها في مواجهة التحديات المحكومة بقوانين توجه مسار التحولات التاريخية من خلال تناقض معقد للرغبات البشرية تظهر على السطح السياسي والاجتماعي في قوى مختلفة لتكوين الصورة الأخيرة للمجتمع . فالمصلحة هي التي تدفع البعض للمطالبة بالإصلاح والتغيير، ودعوى المصلحة ذاتها هي التي تدفع إلى هوس المقاومة والصمود بأي ثمن ضد التغيير، والمساس بواقع قديم انتفعت منه تيارات وأحزاب معينة.
مقاومة التغيير لها أوجه إيجابية تبدو من خلال إعاقتها لأي اندفاع نحو التغيير المتسرع، لأنها تخلق في المجتمع مسارات أكثر معقولية في إرضاء كل التيارات والأطياف المختلفة، فهي تقدم أشكالا من التوازنات الواقعية والمرنة تنتج عبر مراحل الصراع بين هذه الأطياف. كما يحدث عادة في مواجهات التيارات المحافظة مع خصومهم. محصلة الصراع بين ارادة التغيير ومقاومته مع كل نتائجها المأسوية إلا أنها عادلة في تقديم استحقاقات كل مجتمع في التغيير من عدمه . فهذه النتائج تعبر عن حجم مختلف القوى ، ومدى تأهل هذا المجتمع أو ذاك إلى المرحلة التالية.