في مطلع شهر محرم المنصرم أقر مجلس الشورى مشروع نظام تحت مسمى " تحديد ساعات العمل في المحلات التجارية " تعود نشأته إلى مقترح كان قد تقدم به لمعالي رئيس المجلس أحد أعضائه السابقين كمبادرة شخصية خلال الدورة الماضية, الدورة الثالثة, التي انقضت قبيل استكمال دراسة المشروع. وقد رأى المجلس في مطلع دورته الحالية في عام 1426هـ تشكيل لجنة خاصة لاستكمال تلك الدراسة من مجموعة مختارة من بين الأعضاء, وهي آلية يعتمدها المجلس في الحالات التي تتسع فيها دائرة مشروع النظام المقترح وتتعدد خطوط تماسه مع اختصاصات أكثر من لجنة من اللجان الدائمة.
وكما يبدو من التاريخين المشار إليهما آنفاً فإن دراسة مشروع النظام استغرقت أكثر من عامين ما أتاح للجنة وقتاً كافياً لسماع كم كبير من الآراء ووجهات النظر التي طرحها رجال الأعمال, الجهات الحكومية, وغيرهم. ويهدف مشروع النظام, حسبما نصت مادته الأولى, إلى " تنظيم العمل في المحلات التجارية وتحديد ساعات فتحها وإغلاقها ". وفي ذلك السياق يرى كل من رئيس اللجنة والأمين العام المساعد للمجلس، في تصريحات نشرتها جريدة "الرياض" بتاريخ 11/1/1429هـ, أن مشروع النظام سيوفر فرص عمل للسعوديين, زيادة الإنتاجية, وترشيد استخدام الكهرباء في المدن الكبرى. لكن بالرغم من تلك المزايا والمكاسب المنتظرة للاقتصاد الوطني، ذكرت " الرياض " أن رئيس اللجنة " اعترف بأن هذا النظام أحد أكثر الأنظمة ( جدلية ) واختلافاً في وجهات النظر ". وقد كان بودنا أن يستفيض رئيس اللجنة في تفصيل ذلك الجدل وشرح تلك الاختلافات في الرأي, إلا أن الجريدة كفتنا باستطلاع ممتع رصدت فيه آراء وملاحظات أبداها مواطنون ورجال أعمال حول مشروع النظام جاءت في معظمها معارضة له.
تلك الآراء التي أبداها المواطنون جديرة بأن يطلع عليها المجلس الاقتصادي الأعلى إذ إنها تشير في مجملها إلى أضرار وخسائر محتملة للاقتصاد الوطني دونما أية مصلحة عامة قد تبرر ذلك. فالكثير يرى أن إقحام قضية السعودة لا محل له في مشروع النظام. وسبق أن صدرت قرارات من الدولة لمعالجة تلك القضية في المحلات التجارية وغيرها. كما أن هناك إنجازات جيدة تحققت بشكل تدريجي على ذلك المسار لا تخفى على أحد وبالذات في الوظائف الإشرافية ونقاط البيع ذات الرواتب المناسبة. أما الأخذ بما جاء في مشروع النظام من اختزال لساعات البيع والشراء والخدمات فسيترتب عليه تقليص فرص العمل للسعوديين, لازيادتها, ووضع عراقيل أمام المستثمرين ما يدفعهم إلى التوجه إلى أسواق الدول المجاورة ومن ثم حرمان المواطنين من وظائف هم في حاجة إليها.
ثم هناك مأخذ آخر على مشروع النظام المقترح أبداه المشاركون في الاستطلاع وهو ارتفاع أسعار السلع والخدمات في السوق المحلية إذا انخفضت كمية المبيعات في ظل تكلفة ثابتة من الإيجارات, الرواتب, التأمين, وغيرها. كما لاينبغي أن نغفل المخاوف التي أبداها أولئك المشاركون من الآثار السلبية المتوقعة لمشروع النظام على قطاع السياحة نتيجة تضييق مساحة الكسب أمام المواطنين, والانصراف المحتمل لكثير من المتسوقين لتأمين حاجياتهم من خارج المملكة أثناء فترة قضاء إجازاتهم.
أما الجانب الاقتصادي الآخر لمشروع النظام, كما ورد على لسان رئيس اللجنة والأمين العام المساعد للمجلس, وهو توفير الكهرباء, أمر فيه نظر. إذ إن ذروة استهلاك الكهرباء في المملكة تقع عادة بين وقت الظهيرة وبين العصر حيث يكون الناس قد عادوا إلى بيوتهم وبدأ ترتب أحمال كبيرة من أجهزة التكييف. لذا فإن تقليص ساعات عمل المحلات التجارية في المساء لن يؤدي إلى تخفيض الأحمال التي على شركات الكهرباء توفيرها, بل سيحرم تلك الشركات من دخل هي في حاجة إليه بتعرفة تجارية مجزية يسد بعضاً من عجزها المترتب على التعرفة السكنية المخفضة.
هناك أيضاً أبعاد اجتماعية لمشروع النظام لاتقل أهمية عن جوانبه الاقتصادية. تلك الأبعاد يلعب طقس المملكة الحار دوراً رئيساً في صياغتها, إذ يرى الكثير أن إغلاق المراكز الترفيهية ومراكز التسوق في أوقات مبكرة سيدفع الشباب إلى البحث عن أماكن أخرى, منزوية في الغالب, لقضاء أوقات فراغهم بدلاً من تلك الأماكن العامة تحت سمع وبصر المجتمع. ولا شك أن تلك الخطوة, إن تحققت, ستفرز مشكلات تفوق بمراحل جميع المحاسن المرتجاة من مشروع النظام.
كلمة أخيرة, لقد جاء لب مشروع النظام وهو تحديد ساعات فتح وإغلاق المحلات التجارية ومنافذ البيع في مادة من فقرتين فقط, بينما جاءت مادة الاستثناءات في خمس فقرات كاملة. ولنا أن نتصور حجم البيروقراطية التي يحتاج إليها فرض تلك الأحكام, على ألا ننسى في خضم ذلك التصور الأبواب الواسعة التي يمكن أن تُفتح أمام الرشا والفساد.
هناك مثل شعبي فحواه " دعوا الناس وشأنهم فالذي فيهم يكفيهم " !.