مسلسل نزيف الكوادر .. المادة بطلا والعولمة مخرجا

مها صحفية تعمل بإحدى المؤسسات الإعلامية الكبرى منذ تخرجها، ساعدتها جهة عملها على بناء نفسها مهنيا وصقل مهاراتها حتى أصبحت محترفة، عرض على مها العمل في جهة منافسة بمقابل يفوق مرتبها بأضعاف، فحارت بين الجري وراء الدخل الأعلى وبين التمسك والولاء للمؤسسة التي تربت فيها وأكسبتها كل ما لديها من الخبرة، وتحت وطأة الظروف الاقتصادية الطاحنة اختارت الخيار الأول.
هذا الاختيار لم يكن مفاجأة لكل من عرف قصة مها؛ ذلك لأن نفس السيناريو تكرر كثيرا في أوساط العمل العربية، وقدر تقرير نشرته جريدة (دار الخليج) أن هذه الظاهرة التي تعرف بتدوير العمالة، أو ما يسمى "نزيف الشركات والمؤسسات من الكوادر والكفاءات" وصل معدلها لنحو 20% بالمؤسسات الإماراتية، وأكد التقرير وجودها بالعديد من دول الخليج.

مصطفى عمر (36 عاما)، مهندس معماري مصري، أحد الذين كرروا نفس القصة ويحكي تفاصيلها قائلا: "عملت بشركة مقاولات بالقطاع العام لمدة تسع سنوات، صرت خلالها من أهم كفاءات الشركة، ولكن رغم ذلك لم أتردد في الاستقالة عندما عرض علي العمل بشركة مقاولات جديدة نظير دخل يصل لثلاثة أضعاف ما كنت أتقاضاه".

وبدافع مختلف كان تعامل محمد (26 عاما)، مهندس مصري متخصص بشبكات الاتصالات، فرغم أن الفرصة التي أتيحت له في شركة بمدينة الإسكندرية (شمال القاهرة) لا تتيح له سوى راتب مقارب من الذي يحصل عليه بالشركة التي يعمل بها في القاهرة، فإنه فضلها لأنها ستمنحه الاستقرار؛ حيث تقيم أسرته بمدينة الإسكندرية، وعن مدى شعوره بالضيق وهو يترك الشركة قال محمد: "الفترة التي قضيتها بالشركة قصيرة جدا، فلم تمكني من تكوين صداقات أحزن عليها، فهي ثاني شركة أعمل بها بعد التخرج في الكلية".

ضحايا العولمة

ويرى خبراء الإدارة أن نسبة من يكررون هذه القصة بمؤسسات الأعمال يجب ألا تتعدى 5% سنويا، وتعرض أي زيادة عن ذلك -في رأيهم- الخبرات الوظيفية المتراكمة داخل المؤسسات لخلل جم.

إلا أن هذه النسبة -كما يوضح خبير التوظيف المصري شريف عاصم- أصبح من الصعب على المؤسسات الصغيرة الحفاظ عليها.

ويقول عاصم: "المشكلة أن هذه المؤسسات تجني وحدها أضرار العولمة؛ حيث تجتذب الكيانات الأكبر نسبيا والعابرة القارات الكفاءات التي تربت في أحضان تلك المؤسسات بعد أن تكون قد أنفقت الكثير في عمليات التدريب لإعدادها".

وللتغلب على هذه المشكلة يوضح عاصم أن بعض المؤسسات بدأت في وضع بعض الشروط في عقود العمل للمحافظة على كفاءاتها، كأن تتفق مع الشخص ألا يترك العمل بالمؤسسة قبل عامين، أو أن يدفع للمؤسسة ثمن الدورات التدريبية التي حصل عليها إذا تركها قبل قضاء وقت معين بها.

منطق السوق

ويرفض هشام جعفر، رئيس تحريرقطاع المحتوى العربي بشبكة أون إسلام.نت ، هذا الأسلوب للحفاظ على العمالة، ويرى أنه يربي كوادر ليس لها انتماء للمؤسسة، ويقول: "الأفضل أن تحرص كل مؤسسة على كوادرها التي تربت بين أحضانها"، ويكون ذلك بالاقتراب من منطق السوق عن طريق تمييز هذه الكفاءات، ولا يكون ذلك بالجوانب المادية فقط، ولكن بمنحهم مزايا أخرى، كالدورات التدريبية المتخصصة، وتوفير بيئة عمل مميزة تتيح للفرد العمل في مناخ مريح، مما يجعلهم أميل للبقاء بها.

ويسير جنبا إلى جنب مع هذا التوجه -كما يشير جعفر- ضرورة تطعيم الكفاءات ذات الخبرة بالشباب حديث التخرج؛ حيث يضمن ذلك ضخ دماء جديدة للمؤسسة يمكن تربيتها لتحل مكان الكوادر التي ترحل، وتحافظ للمؤسسة على استمرارية الإبداع والابتكار بها، وهذا لا يكلف المؤسسة الكثير؛ فتكلفة حديثي التخرج أقل بكثير، كما يمكن للمؤسسة -ونحن نعيش في السوق العولمي- أن تستعين أو تستكمل جزءا من الموارد البشرية بها من بلد آخر كالسودان، أو أي من بلاد الشام، تكون خبراتهم مناسبة، وتكلفتهم أقل.

وترى رباب حسين، مديرة وحدة الموارد البشرية بإحدى المؤسسات، أنه من الصعب إقرار أسلوب موحد يصلح للتطبيق على كل مؤسسة لحل هذه المشكلة، مشيرة إلى ضرورة إجراء دراسة وتحليل لأسباب خروج الكفاءات من المؤسسة، ورصد لما يقدمه المنافس من مزايا، وعلى ضوء نتائج الدراسة يتم اتخاذ الأسلوب الأمثل، سواء بزيادة الامتيازات المادية والمعنوية الموجودة بالشركة، أو بتنويع شكل التعاقدات بما يتناسب مع مستوى السوق، أو بالاهتمام بالتدريب.

انتقل.. لكن بإيجابية

وسواء نجحت المؤسسة في الحفاظ على كفاءاتها باتباع الوسائل السابقة أو لم تنجح، فلا يستطيع أحد أن يلوم من يتخذ قرار الانتقال لمن يمنح الراتب والدخل الأعلى؛ فهذا حق مشروع كما يؤكد د. عبد الحليم حافظ، خبير التنمية البشرية، في ظل الارتفاع المستمر لأسعار الإيجارات والسلع وغلاء تكاليف المعيشة.

إلا أن د. حافظ ينصح من يترك مؤسسته ليعمل بأخرى أن ينتقل بإيجابية، وذلك من خلال:

- تواصل بشكل مفتوح ومباشر مع مدير مؤسستك الأولى التي تود الانتقال منها.

- اجعل خطابك لمديرك من مدخل إنساني؛ فهو لك مستشار أكثر خبرة يدلك على الطريق الصحيح لترتقي في مسارك المهني.

- وضح له أن في الأفق عرضا من شركة أخرى مميزاته كذا وكذا، فماذا كان يفعل لو كان مكانك؟!

- إذا كان رده أنه سيزيد راتبك، فقد حللت 90% من المشكلة، لكن ضع في توقعاتك أن الزيادة قد لا تتناسب مع عرض الشركة الأخرى.

- وإن لم يوافق مديرك على زيادة راتبك، فقد أخبرته ضمنيا أنك سوف تترك العمل.

بقلم: وفاء محسن