استخدم مينسر(*) مفهوم رأس المال البشري في بناء نموذج يهدف إلى تفسير الانحرافات في توزيع الإيرادات. ويفترض النموذج أن الاختيار الرشيد لوظيفة معينة يتضمن مساواة القيمة الحالية للإيرادات مع مدى حياة الفرد المتوقعة عند الوقت الذي قام فيه الفرد بهذا الاختيار، وتمثل الاختلافات بين الوظائف المختلفة وفقا للنموذج انعكاسا لاختلاف طول الفترة التدريبية و الاختلافات في توزيع الدخل للوظائف المختلفة، بينما تعكس الاختلافات داخل الوظيفة الواحدة نمو وتحسين الخبرة و الإنتاجية بتقدم عمر الفرد. فالزيادة في الإنتاجية تكون ظاهرة في الأعمال المتطلبة لمقدار أكبر من التدريب.
ويساعد التركيز على العلاقة الموجبة بين الاستثمار في رأس المال البشري ونمو الإنتاجية في النموذج على إظهار مدى الاختلافات بين الوظائف المختلفة فيما يتعلق بالاستثمار في كل من التعليم و التدريب؛ حيث يرتبط التفاوت في الدخل و الناتج من التدريب، أو تقدم عمر الفرد ارتباطا موجبا بمتوسط حجم الاستثمار البشري.
وقد حدد مينسر ثلاثة أهداف ينبغي تحقيقها من خلال الأبحاث و الدراسات في مجال الاستثمار البشري. تمثلت هذه الأهداف في تحديد حجم الموارد المخصصة للتدريب، كذلك تحديد معدل العائد على الاستثمار في التدريب، وأخيرا تحديد مدى المنفعة المترتبة على تحديد التكلفة و العائد على التدريب في تفسير بعض خصائص سلوك القوى العاملة. أما بالنسبة لتعريف مينسر للتدريب فقد اتسع ليشمل كل من التدريب الرسمي وغير الرسمي في مجال العمل وأيضا التعلم بالخبرة. وقد برر مينسر تضمين هذه المجالات في التعريف إلى الاعتقاد بأن كل منها يزيد ويحسن من مهارات وإنتاجية الأفراد، وعلى هذا فهو يمثل نوعا من أنواع التدريب. كما برر إدخال التعليم بالخبرة في إطار التعريف بأن الفرد قد يقبل عملا ما يقدم له أجرا منخفضا لتوقعه تحقيق منفعة مستقبلية نتيجة الخبرة المكتسبة من هذا العمل. وبناءا على هذا فإن التعليم بالخبرة يتضمن تكلفة استثمار يجب أخذها في الحسبان.
وقد امتد استخدام المبادئ النظرية لتحليل تكلفة التعليم لتطبق على تحليل تكلفة التدريب. فقد قسم مينسر تكلفة التدريب إلى نوعين هما:
- التكلفة المباشرة؛
- التكلفة غير المباشرة.
تمثل التكلفة المباشرة تكلفة العدد و الآلات و المواد المستخدمة في التدريب، وأجور المتدربين. أما التكلفة غير المباشرة فهي التكلفة غير الملموسة وتتمثل في تكلفة الفرصة الضائعة. ومن أمثلة هذا النوع من التكاليف الإيرادات الضائعة و التي تمثل أكثر من نصف التكلفة الكلية للتعليم كما أن نسبة الإيرادات الضائعة للمتدرب قد تفوق مثيلتها في مجال التعليم.
وقد أشار مينسر إلى الصعوبة النسبية في قياس التكلفة و العائد على التدريب، أما بالنسبة لقياس التكلفة فينطوي على عدد من المشاكل منها:
- نقص البيانات الخاصة بالتكلفة؛
- صعوبة حساب الخسارة في الإنتاج و الناتجة عن ضياع وقت العامل القديم في تدريب عامل جديد؛
- اعتبار بعض البنود - مثل المواد المستهلكة أثناء التدريب- تكلفة استهلاك بينما يجب حسابها كتكلفة مباشرة للتدريب؛
- صعوبة حساب إيرادات الفرد قبل وبعد التدريب نتيجة صعوبة تقسيم الأفراد إلى مجموعات تجريبية ومجموعات ضابطة للمقارنة.
ونتيجة لهذه الصعوبات اقترح مينسر استخدام قائمة دخل الفرد بجانب قائمة تكاليف المنظمة. لكن يشوب هذه الطريقة بعض جوانب القصور منها:
- اختلاف تكلفة التدريب باختلاف عمر الفرد، حيث تقل بتقدم العمر لذا يجب أخذ العمر في الاعتبار؛
- احتمال وجود بعض الانحرافات في البيانات لعدم أخذ احتمال الوفاة في الحسبان وعدم حصول الفرد على العائد مما يظهر تكلفة التدريب أكبر من قيمتها الحقيقية؛
- إضافة الدخل الخاص للفرد إلى الدخل المتحقق له من العمل مما يساعد على توسيع الاختلافات في الإيرادات في عمر متقدم؛ حيث توجد علاقة موجبة بين الدخل الخاص و العمر؛
- عدم صحة الافتراض بأن الاختلاف بين إيرادات المجموعة التجريبية و الضابطة يرجع إلى الاختلاف في التدريب وحده؛ حيث توجد عوامل أخرى تؤثر على مستوى وشكل الإيرادات وفقا لعمر الفرد. أما قياس معدل العائد على التدريب فتتمثل صعوبته في وجود بعض العوامل غير المادية المؤثرة عليه وصعوبة تقدير قيمة هذه العوامل ماديا مما يؤثر على حسابات القيمة الحقيقية لمعدل العائد.
وقد توصل مينسر إلى عدد من الاستنتاجات فيما يتعلق بدراسة أثر الاستثمار في التدريب على دخل وسلوك الأفراد ومنها:
- كلما زادت مستويات الفرد التعليمية كلما زادت احتمالات حصوله على مزيد من التدريب في مجال العمل، ( تنمية رأس المال البشري تتأثر إيجابيا بالتعليم، بمستوى الموظفين، ومستوى رضاهم الوظيفي.(1) )؛
- كلما زاد معدل دوران العمل ومعدل البطالة كلما زادت تكلفة الاستثمار في التدريب؛
- كلما زاد الاستثمار في التدريب خاصة التدريب المتخصص كلما زادت احتمالات بقاء الفرد في المنظمة واحتمالات استقرار العمالة.
.....................
الهوامش:
(*) Jacob Mincer: اقتصادي أمريكي من أصل بولندي (1922-2006)، يعتبر أب اقتصاد العمل الحديث، ساهم طويلا في التعليم العالي في جامعة كولومبيا، أدخل مفهوم "رأس المال البشري" إلى اقتصاد العمل، أول حاصل على جائزة IZA في اقتصاد العمل، له العديد من المساهمات العلمية لتطوير نظرية رأس المال البشري.(1) Nick, BONTIS, « Intellectual Capital ROI: a Causal Map of Human Capital Antecedents and Consequents », JOURNAL OF INTELLECTUAL CAPITAL, Vol 3, N° 3, 2002, p 243.