جاء في تقرير اقتصادي نشرته منظمة العمل الدولية بعنوان نظرة جديدة إلى النمو الاقتصادي: نحو مجتمعات عربية منتجة وشاملة عددًا من الموضوعات التي تتناول قضية التنمية بكافة أصعدتها. وننشر هنا عددًا من الفصول التي تلامس جوانب البطالة المرتبطة بالنمو السكاني في الدول العربية.
تشير بيانات القوى العاملة إلى ثلاث سمات مهمة تنطبق بشكل أو بآخر على جميع الدول العربية بشكل عام. أولًا، لا تزال معدلات مشاركة القوى العاملة متدنية في المنطقة العربية. ثانيًا، بالرغم من تدَّني هذه المعدلات، تشهد المنطقة أعلى معدلات البطالة عالميًا سواء بين الشباب أو في البطالة الإجمالية. ثالثًا، تتأثّر معدلات مشاركة القوى العاملة ومعدلات البطالة بشكل كبير بالفروقات الكبيرة في النوع الاجتماعي. في المقابل، أحرزت المنطقة العربية تقدَّمًا مع مرور الوقت على صعيد السمات الثلاث المذكورة، في مجال التعليم حيث تضاعفت نسبة الشباب المتمدرسين من إجمالي السكان في السنوات العشرين الفائتة (من 2.8 في المائة إلى 5.6 في المائة)، ولا سيما نسبة النساء المتمدرسات. وتراجعت نسبة الشباب المستخدمين والعاطلين عن العمل من إجمالي القوى العاملة (جميع الشرائح العمرية). وفي المقابل، زادت نسبة السكان في سن العمل (15-64 سنة) من نحو 55 في المائة إلى 63 في المائة؛ وذلك يعود بشكل أساسي إلى زيادة عدد السكان البالغين (25-64 سنة). وبالتالي، زادت معدلات المشاركة في القوى العاملة، بشكل أساسي نتيجة انخراط عدد أكبر من النساء في سوق العمل. وبالرغم من شيوع هذه الاتجاهات على نطاق واسع في معظم الدول العربية، جاءت معدلات البطالة متفاوتة في الأقاليم الفرعية الثلاثة، حيث تراجعت تراجعًا ملحوظًا في شمال إفريقيا نتيجة تراجع البطالة بشكل كبير في الجزائر (بموازاة تزايد الأنشطة غير المنظّمة) والمغرب، وراوحت مكانها في الشرق الأوسط، وسجّلت ارتفاعًا في دول مجلس التعاون الخليجي (رغم انطلاقها من مستويات متدنية) في العقدين الأخيرين اللذين انطلقت فيهما الإصلاحات الاقتصادية. زاد إجمالي السكان في المنطقة العربية من 224 مليون نسمة إلى 343 مليون نسمة أي 52 في المائة. أما عدد الأطفال (دون سنّ الـ15) فقد زاد بأقل من 50 في المائة من الزيادة في إجمالي عدد السكان (20 في المائة) وساهم فقط بواقع 16 في المائة في إجمالي النمو السكاني. وتعكس هذه الأرقام تدني الخصوبة في المنطقة حيث تراجعت من معدل 7 أطفال للمرأة الواحدة في الخمسينيات إلى قرابة 3 أطفال اليوم. وقد أثر ذلك بشكل متناسب على حجم السكان في سنّ العمل ونمو القوى العاملة. ويعتبر ذلك مهمًا نظرًا لأهمية حجم ومعدل نمو القوى العاملة مقابل حجم ومعدل نمو الاقتصاد. على سبيل المثال، قد يزداد معدل مشاركة القوى العاملة بسرعة، لكن لن يدخل سوق العمل سوى عدد قليل من العمال في حال تراجع حجم السكان في سن العمل بوتيرة أسرع. وعندما نأخذ هذه الاعتبارات بالحسبان، لا يفاجئنا تحسّن نتائج الاستخدام في العقدين الأخيرين بالمقاييس التاريخية، فيما راح معدل النمو في القوى العاملة يتراجع في التسعينيات ليصبح أدنى من معدل النمو الاقتصادي.
لقد تم إيلاء الكثير من الاهتمام إلى مقولة «طفرة الشباب»، التي تفيد بتفاقم مخاطر الاضطرابات الاجتماعية في حال ازداد عدد الشباب كثيرًا وانتشرت البطالة في صفوفهم على نطاق واسع. وبالفعل، تُرجع الكثير من الدراسات نشوء الاضطرابات إلى حجم الشباب والبطالة، لكن طفرة الشباب بلغت ذروتها في المنطقة العربية في بداية التسعينيات. كان يوجد 50 شابًا من أصل 100 بالغ في السبعينيات في الأقاليم الفرعية الثلاثة. بعبارة أخرى، كانت الأقاليم الفرعية الثلاثة متشابهة بهذا الخصوص. ومنذ ذلك الحين، واصلت نسبة الشباب إلى البالغين تراجعها في شمال إفريقيا ودول مجلس التعاون الخليجي، حيث تدّنى المعدل المذكور عن المعدل العالمي في دول مجلس التعاون الخليجي. وشهد الشرق الأوسط ارتفاعًا أوليًا في نسبة الشباب إلى البالغين في التسعينيات لكن عادت هذه النسبة لتتراجع ابتداء من تلك الفترة. وبالتالي، يمكن القول إن المنطقة العربية وصلت إلى بداية نهاية الديناميكيات الديمغرافية المطرّدة القائمة في الماضي، حيث وصلت نسبة الأطفال ما دون سن الـ15 إلى 42.5 في المائة من عدد سكان المنطقة العربية عام 1991، ثم تراجعت وبلغت 23.4 في المائة عام 2010. أما نسبة المسنّين (65 سنة وما فوق) فقد ارتفعت من 2.7 في المائة إلى 3.5 في المائة في العقدين المنصرمين. وقد أدّت هذه التغييرات مجتمعة إلى تراجع نسبة الإعالة الديمغرافية أي الأشخاص خارج شريحة السكان في سن العمل (دون الـ15 وفوق الـ65) إلى الأشخاص ضمن شريحة السكان في سن العمل.
وإذا تخطينا هذه الصورة الإجمالية، اتضح لنا تعقيد الهيكلية والتغييرات ذات الصلة بالسكان والقوى العاملة. أولًا، تُعتبر هذه الأخيرة مهمة من أجل قياس الاستخدام والبطالة وتصميم سياسات التعليم والنوع الاجتماعي والحماية الاجتماعية. على سبيل المثال، تشهد المنطقة العربية تنامي حصة الأشخاص الذين تجاوزوا سن العمل. ثانيًا، في ظل تنامي التحصيل العلمي لدى النساء قد تشمل معدلات البطالة الكثير من النساء «المحبطات» واللواتي لا تظهر أعدادهن في إحصائيات البطالة الرسمية. ثالثًا، بالرغم من ارتفاع معدل التعطّل بين الشباب الذكور (غير المتمدرسين وغير العاملين) يوجد معظم غير المتمدرسين في القوى العاملة لكن بصفة عاطلين عن العمل. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى ارتفاع معدل البطالة في المنطقة العربية في مختلف المراحل الزمنية لكن هذا لا يعني بشكل تلقائي تنامي حصة الشباب العاطلين عن العمل من إجمالي السكان مع مرور الوقت، بل على العكس، لم تشكل هذه الأخيرة منذ عام 1991 سوى أقل 1 في المائة من إجمالي النمو السكاني، باعتبارها الشريحة الأقل نموًا قياسًا إلى الشرائح السكانية الفرعية الأخرى. ويُعزى ذلك من جهة إلى تراجع حصة الشباب الإجمالية من السكان، ومن جهة أخرى إلى تزايد عدد الطلاب في السنوات العشرين الأخيرة بواقع الثلث (37 في المائة) للذكور وبأكثر من ثلاثة أضعاف (355 في المائة) للإناث. ونتيجة لذلك، شكّل نمو عدد الطلاب 10.8 في المائة من إجمالي الزيادة السكانية في المنطقة العربية، أي 5 في المائة للرجال و5.8 في المائة للنساء.
معدل مشاركة القوى العاملة،
غير متدن جدًا باستثناء معدل مشاركة النساء
بصورة عامة، تسجّل المنطقة العربية معدلات متدنية لمشاركة القوى العاملة، لكن، يعُزى هذا الوضع بشكل أساسي إلى تدني مشاركة الإناث في القوى العاملة. وبالفعل، يتطابق معدل مشاركة الرجال في المنطقة العربية مع المتوسط العالمي (الرسم 1).
لكن القوى العاملة تضمّ نحو ربع النساء في العالم العربي (26 في المائة) مقابل متوسط عالمي يبلغ 51 في المائة. وتسجل دول مجلس التعاون الخليجي أعلى المعدلات (38 في المائة بشكل إجمالي، لكن فقط 31 في المائة بين العاملات الوطنيات مقابل 55 في المائة بين العاملات الأجنبيات) يتبعها شمال إفريقيا (27 في المائة) ثم الشرق الأوسط (19 في المائة). وخلاصة القول، يُعزى تدني معدل المشاركة في القوى العاملة في المنطقة العربية إلى تدني مشاركة النساء في القوى العاملة حتى وإن استثنينا الطلاب من السكان في سن العمل، بيد أن الاتجاهات الأساسية تُعتبر إيجابيةُ نتيجة تزايد مشاركة النساء في القوى العاملة بموازاة ارتفاع تحصيلهن العلمي بشكل كبير في المنطقة العربية. وبالتالي، بالرغم من عدم انخراط العديد من الشابات العربيات في القوى العاملة اليوم نتيجة الالتحاق بالمدارس والجامعات، قد ينخرطن بأعداد أكبر في القوى العاملة في المستقبل أكثر منه في الماضي القريب: فقد ارتفع معدل مشاركة الإناث في القوى العاملة في جميع البلدان العربية تقريبًا في العقدين المنصرمين، حيث زاد بواقع 50 في المائة تقريبًا أو أكثر في سبع دول عربية، على الرغم من التراجع الطفيف في مصر والمغرب وسوريا.
تفاوت الانخفاض في معدل البطالة
أسوة بمعدل مشاركة القوى العاملة، يتأثّر معدل البطالة في المنطقة العربية إلى حدّ كبير بمعدل البطالة بين النساء. ويُعتبر معدل البطالة بين الذكور عاليًا أيضًا ولكن غير استثنائي باستثناء المعدل المسجل في منطقة الشرق الأوسط، حيث يبلغ 11.7 في المائة. وفي المقابل، يسجّل معدل البطالة لدى الذكور في شمال إفريقيا نسبة 7.4 في المائة و3.1 في المائة في دول مجلس التعاون الخليجي. وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه المعدلات أدنى من المعدلات السائدة في دول أوروبا الوسطى/ جنوب شرقي أوروبا غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وفي رابطة الدول المستقلة في آسيا الوسطى (9.8 في المائة) والبلدان مرتفعة الدخل (9.1 في المائة) وإفريقيا جنوب الصحراء (7.7 في المائة). وتسجّل جميع الدول العربية في شمال إفريقيا معدلات أدنى من هذه المعدلات باستثناء تونس، حيث يبلغ معدل البطالة بين الذكور 13.5 في المائة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى تراجع معدل البطالة في الدول العربية وإن بدرجات متفاوتة مع مرور الوقت.
في المقابل، تتسم البطالة في المنطقة العربية بميزتين مختلفتين: أولًا، ارتفاع معدل البطالة بين الإناث بشكل كبير (17.4 في المائة) وثانيًا، بخلاف المناطق الأخرى حيث تؤثر البطالة على أفراد الأسر ذات الدخل الأدنى، ثم في المنطقة العربية تؤثر على جميع فئات الدخل بشكل أو بآخر.
البطالة بين الشباب:
تغيرات ملموسة أكثر
يُعتبر معدل البطالة بين الشباب في المنطقة العربية الأعلى (22.2 في المائة) مقارنة بسائر المناطق الأخرى في العالم (13.9 في المائة كمتوسط عالمي). لكن، أسوة بالإحصاءات الأخرى، تتفاوت بطالة الشباب بشكل ملحوظ بين الأقاليم الفرعية العربية الثلاثة.
وتجدر الإشارة إلى أن العلاقة بين بطالة الشباب والبالغين غير مستقرة في المراحل الزمنية المختلفة، وهي تسير عكس عقارب الساعة منذ مطلع التسعينيات. قد تراجعت بطالة الشباب في الفترة 2005-2009 فيما حافظت بطالة البالغين على استقرارها، وقد يُعزى ذلك إلى أحد السببين التاليين أو كليهما: أولًا، قد يكون الطلب على العمال الشباب تزايد بوتيرة أسرع من الطلب على العمال البالغين؛ ثانيًا، تراجع عرضًا لليد العاملة الشابة نتيجة ارتفاع معدلات الالتحاق بالتعليم. نتيجة استمرار العاملين المذكورين، تراجعت أعداد الشباب والشابات العاطلين عن العمل بوتيرة أسرع من البالغين العاطلين عن العمل.
تراجعت بطالة الشباب أكثر من بطالة البالغين منذ عام 1990 رغم التحديات الماثلة أمام جميع العمال في الأسواق العربية.
تتمايز المنطقة العربية عن سائر المناطق من حيث التركيبة الجندرية للبطالة. في الواقع، قد تُعزى معدلات البطالة المرتفعة بين الشباب إلى ارتفاع معدلات البطالة في منطقة الشرق الأوسط، ويبلغ معدل البطالة بين الشابات في الأقاليم العربية الثلاثة الفرعية 38 في المائة، أي أعلى من جميع مناطق العالم، حيث يبلغ 38 في المائة في الشرق الأوسط مقابل 34 في المائة في شمال إفريقيا ودول مجلس التعاون الخليجي.
يبلغ معدل بطالة الإناث في المنطقة العربية 38 في المائة تقريبًا ضعف نسبة الذكور، لكن نسبة الشبان العاطلين تزيد 50 في المائة عنها بين الشابات العاطلات، لكن عدد الشباب العاطلين عن العمل في المنطقة يتجاوز بأشواط عدد الشابات العاطلات عن العمل. والحقيقة، باستثناء جنوب آسيا، تعتبر نسبة بطالة الشبان إلى الشابات الأعلى في المنطقة: 150 شابًا لكلّ 100 شابة. ويأتي هذا ليعزّز الرأي القائل بضرورة اعتماد إجراءات تستهدف الشبان نظرًا لحجم البطالة في صفوفهم ولزيادة مشاركة الإناث في القوى العاملة.
الطريق لا يزال طويلًا أمام النساء العاملات
يشير النقاش الدائر حتى الآن إلى تأثر عدد كبير من مؤشرات سوق العمل في المنطقة العربية بأوجه الاختلاف بين العاملين الإناث والذكور، ويُمكن رؤية هذه الازدواجية أقلّه في جزء من بعض الأنظمة القانونية والمعايير المجتمعية، علمًا أن هذه الأنظمة والمعايير تسري على جانبَي سوق العمل. فهي من جهة، تحدّ من بحث النساء عن عمل ومن جهة أخرى، لا تسمح لأصحاب العمل بالنظر إلى النساء على أساس طاقتهن الإنتاجية.
وتُعتبر التجربة الدولية مفيدة لفهم ديناميكية مشاركة النساء العربيات في القوى العاملة. وبخلاف الرجال الذين يميلون إلى العمل بصرف النظر عن الدخل والثروة، قد تقرّر النساء إنفاق الوقت على أنشطة أخرى مختلفة أسرية ومجتمعية وغير مأجورة بشكلِ عام.
ولا تدخل النساء سوق العمل إلاّ إ ذا كانت الأجور مرتفعة للتعويض عن خسارة قيمة العمل في المنزل، وهذا يفسّر بشكل أو بآخر تنامي مشاركة الإناث في القوى العاملة في أنحاء أخرى من العالم في مختلف المراحل الزمنية، على سبيل المثال، انخرطت النساء في القوى العاملة في البلدان مرتفعة الدخل، لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية، بسبب ارتفاع الأجور وازدياد جاذبية العمل نتيجة النمو الاقتصادي السريع وشحّ اليد العاملة. وكما ورد سابقًا، يعُتبر حجم ونوع الطلب على اليد العاملة عاملًا أساسيًا في جذب مزيد من النساء إلى سوق العمل.
وقد تقوم الأجور المرتفعة والمداخيل المرتفعة كل منهما بتحييد دور الآخر في اتخاذ قرار الانضمام إلى القوى العاملة, فالأجور المرتفعة تشكّل حافزًا إيجابيًا لدخول النساء إلى سوق العمل, لكن بما أن التنمية الاقتصادية تترافق بارتفاع المداخيل، فإن ذلك يضعف الأثر الإيجابي لارتفاع الأجور.
ومع تسارع وتيرة التنمية الاقتصادية، يتحوّل الاقتصاد من البنية الزراعية إلى بنى أكثر تعقيدًا، ومع هذه الأخيرة يأتي التمدّن والزيادة في الدخل الفردي. وتُسهم هذه التغيّرات في خفض فرص العمل أمام المرأة في القطاعات الأساسية وداخل الأسرة. فالأطفال يحتاجون إلى مزيد من الاهتمام والرعاية في المدن، حيث فرص العمل أيضًا أقل ملاءمة للمسؤوليات الوالدية أو بعيدة عن مكان إقامة الأسرة. تشهد الاقتصاديات فائضًا في عرض العمل لمرحلة معيّنة، الأمر الذي يحول دون ارتفاع الأجور، وبالتالي دون توفير حوافز كافية للنساء غير العاملات لدخول سوق العمل.
يمكن تفسير تدني مشاركة الإناث في القوى العاملة في المنطقة العربية جزئيًا فقط ببلوغ معظم دول المنطقة مصاف الدول متوسطة الدخل. كما أن العوامل المؤسسية مهمة أيضًا.
وفي المراحل الأولى من التنمية الاقتصادية، لا يفاجئنا وجود فائض من النساء في العمل الأسري غير المدفوع أو في الاستخدام المأجور, وينطبق ذلك أيضًا على المنطقة العربية. وفي الواقع، يبدو أن المنطقة العربية تواكب الاتجاهات العالمية لاستخدام الرجال ما خلا استثناء واحدًا ألا وهو وجود فائض من الرجال العرب بين أصحاب العمل، ويتماشى ذلك مع هيمنة المؤسسات التجارية الصغرى والصغيرة في المنطقة العربية بحسب ما ورد سابقاً، ويدل ذلك مرة أخرى على الطابع التجاري للقطاع الخاص وافتقاره إلى الديناميكية. وينطبق ذلك بشكل خاص على المنطقة العربية التي تتكون بمعظمها من دول متوسطة الدخل. أولًا، يوجد في جميع مستويات الدخل عدد أكبر من النساء في القوى العاملة في السنوات الأخيرة بالمقارنة مع السابق. وتُعزى هذه الظاهرة إلى ارتفاع التحصيل العلمي للإناث إلى جانب التغيّرات في بنية الاقتصاد، وإن كانت خجولة، وأحد هذه التغيرات هو تشريع أبواب التعليم نتيجة ارتفاع معدلات الالتحاق، وقد تحسّن أداء المنطقة العربية على هذا الصعيد في الآونة الأخيرة. ويعود ارتفاع مشاركة النساء في القوى العاملة إلى هذا الأثر. ثانيًا، بلغت أكثرية الدول العربية مرتبة الدول متوسطة الدخل، لكن، يميل معدل مشاركة النساء في القوى العاملة إلى بلوغ أدنى المستويات.
إلى ذلك، يُعتبر التمييز في الاستخدام مرتفعًا لا بل في تراجع بطيء في المنطقة العربية. على سبيل المثال، بين الخمسينيات والثمانينيات، تراجع التمييز في الاستخدام حسب الجنس في العالم من 0.39 إلى 0.31، أي بأكثر من 20 في المائة، الأمر الذي يشير إلى تقدم النساء في الوظائف التي كان يهيمن عليها الرجال سابقًا. أما في المنطقة العربية، فقد تراجع التمييز في الاستخدام على أساس النوع الاجتماعي الاستخدام حسب الجنس من 0.43 إلى 0.38، أي بواقع 11 في المائة فقط.
حالة دول مجلس التعاون الخليجي:
تسارع نمو الاستخدام لكن ليس لصالح العمال الوطنيين
يؤثّر عاملان اثنان إلى حدّ كبير على العرض على اليد العاملة في دول مجلس التعاون الخليجي. أولًا، يتطلّع العمال الوطنيون إلى العمل بشروط وظروف تتناسب مع الشروط والظروف السائدة في الدول مرتفعة الدخل. وتتمتع الدول مرتفعة الدخل عادةً بشروط وظروف تنظّم الاستخدام وتقترن بتقنيات كثيفة رأس المال وعالية الإنتاجية. وتلبي هذه التقنيات الحاجة إلى إبقاء كلفة اليد العاملة متدنية، وتستجيب بالتالي إلى ضغوط العولمة والمنافسة في البلدان الصناعية الجديدة. من هنا، تبرز محدودية الشرخ بين القطاعين العام والخاص نتيجة التعامل إلى حدّ كبير مع العمال الوطنيين والقليل فقط من العمال المهاجرين (الذين يتمتعون بالحقوق عينها التي يتمتع بها العمال الوطنيون) في مجال الرواتب وظروف الاستخدام. وفي بعض الدول، لا يوجد أي فرق يذكر في الراتب بين العاملين في القطاع الخاص والعاملين في القطاع العام (مثل: فرنسا وألمانيا). وفي بعض الحالات، يتقاضى العمال المتعلمون (أصحاب الشهادات الجامعية مثلًا) علاوات هزيلة بينما في حالات أخرى يتقاضى الفنيون المهرة (كالسباكين والنجّارين والميكانيكيين) أجرًا أعلى من أترابهم الأكثر تعليمًا. وبعبارة أخرى، يتأثر تحديد الأجور بشكلِ كبير بالعرض النسبي لليد العاملة من جانب مجموعة بالمقارنة مع مجموعة أخرى إلى جانب القصور في المهارات الناجم عن هذا العرض. وعلى سبيل المثال، في ظلّ التقدم التكنولوجي منذ الثمانينيات أو مع رفع القيود القانونية في القطاع المالي مؤخرًا، ارتفع أجر أصحاب الشهادات الذين يتمتعون بالمهارات المناسبة (مثلاً في مجال الحواسيب والمحاسبة). وهذا ما يجعل هذه الوظائف جذابة أمام الباحثين المحتملين عن عمل الذين التحقوا بالتالي بهذه الاختصاصات بأعداد أكبر. وكانت النتيجة أنه بعد وقت قصير بدأت ميزات الأجور لدى الخريجين في اختصاصي تكنولوجيا المعلومات والمحاسبة تتآكل.
ثانيًا، هناك عرض العمال المهاجرين، لا سيما الوافدين من بلدان متدنية الدخل، الذين يتوافرون بأعداد كبيرة في دول مجلس التعاون الخليجي. تراجعت نسبة العمال الوطنيين إلى العمال المهاجرين بشكل ملحوظ منذ السبعينيات باستثناء الكويت. ففي عام 1975، بلغ عدد العمال الوطنيين 1.7 مليون عامل في دول مجلس التعاون الخليجي مقابل 1.1 مليون عامل مهاجر. وبحلول عام 2010، ارتفع استخدام العمال الوطنيين إلى 5.9 ملايين عامل مقابل 14 مليون عامل مهاجر تقريبًا. وبالتالي، تُعتبر تداعيات الزيادة في عرض اليد العاملة المهاجرة كبيرة، حيث يمكن استخدام العمال المهاجرين بأجور أدنى من أجور العمال الوطنيين. وحيث يمتلك هؤلاء الكثير من المهارات العملية إلى جانب الاستعداد للعمل وفق الشروط السائدة في بلدانهم وغير المقبولة من العمال الوطنيين. ونتيجةً لذلك، يُحجم أصحاب العمل عن الاستثمار في التقنيات عالية الإنتاجية ويختارون تقنيات كثيفة العمالة ومتدنية الأجر. في المقابل، لا يشعر الباحثون الوطنيون عن عمل بالحماس لتحسين مهاراتهم والعمل بالتالي في الوظائف التي يشغلها العمال المهاجرون. من هنا أهمية بذل المزيد على مستوى القطاع غير المنظم والبطالة والحقوق.
لقد تزايد متوسط الاستخدام في المنطقة العربية بنسبة 41 في المائة في العقد الأخير أي بوتيرة أسرع من الزيادة في القوى العاملة (37 في المائة)، والسكان في سن العمل (34 في المائة) والبطالة (8 في المائة فقط)، على الرغم من حدوث زيادة طفيفة في معدل مشاركة القوى العاملة (2 في المائة).
لكن، تدعو الحاجة إلى ضبط هذه الصورة الإيجابية أولًا، لقد كان أداء شمال إفريقيا أفضل من أداء الإقليميين الفرعيين الآخرين. لكن التراجع في البطالة في شمال إفريقيا يعود بشكل أساسي إلى تراجع البطالة في الجزائر. على سبيل المثال، بلغ عدد العاطلين عن العمل في الجزائر 1.3 مليون شخص في العامين 1991 و2010، أي أن معدل البطالة تراجع من 20.6 في المائة عام 1991 إلى 11.4 في المائة عام 2010. وأدى ذلك إلى تراجع متوسط معدل البطالة في إقليم شمال إفريقيا من 12.6 إلى 10.1 في المائة. وبالرغم من تراجع معدل البطالة أيضًا في المغرب (من 13.6 في المائة عام 2000 إلى 9.1 في المائة عام 2010) وفي تونس ( من 15.7 في المائة إلى 14.1 في المائة) وفي ليبيا ( من 9.2 في المائة إلى 8.1 في المائة). بقي هذا المعدل في مصر عند مستوى 9 في المائة تقريبًا.
ثانيًا. ترافق التراجع اللافت في معدلات البطالة في الجزائر مع زيادة في الاستخدام غير المنظم وبمعدل واحد إلى واحد تقريبًا، ويُعتبر هذا مؤشرًا آخر إلى أن بعض استجابات الاستخدام على الأقل تنبع من ردود فعل دفاعية لدى المواطنين العرب التواقين إلى كسب العيش وليس من نموذج تنموي يعود بالمكاسب على الاقتصاد برمته.
ثالثًا، بالنسبة إلى الأقاليم الفرعية الأخرى، زادت نسبة العاطلين عن العمل بواقع 37 في المائة في منطقة الشرق الأوسط، أي بمعدل أعلى من نسبة المستخدمين (32 في المائة) بالرغم من الانخفاض في معدل مشاركة القوى العاملة وإن كان طفيفًا ( 2 في المائة). وقد أفضت هذه التغييرات إلى زيادة معدل البطالة بنسبة 3 في المائة. أما بالنسبة إلى أداء دول مجلس التعاون الخليجي فكان أقل جودة. وبالرغم من تزايد الاستخدام بواقع 88 في المائة (نتيجة سياسات الهجرة المنفتحة). تضاعفت البطالة بين العمال الوطنيين بأكثر من مثلين ( بواقع 118 في المائة). وما يدعو للقلق سرعة تراجع معدل بطالة الشباب إلى البالغين في دول مجلس التعاون الخليجي، ما يعني أن المواطنين البالغين واجهوا صعوبات أكثر في الانخراط في العمل. في المقابل، أدّى ذلك إلى الضغط باتجاه توظيف مزيد من العمال الوطنيين في القطاع العام، بصرف النظر عن جدارة وجهد الباحثين عن عمل وعن الحاجات الحقيقية في القطاع العام. ويمكن لهذا الوضع أن يطول طالما أن الوضع المالي يسمح بذلك على الرغم من عدم استدامته على المدى الطويل.
ترتبط قضايا النوع الاجتماعي والهجرة بشكل وثيق بحقوق الإنسان وبحسب ما ورد في التقرير الحالي، تُعتبر حقوق الإنسان بشكل عام وفي مجال الاستخدام بشكل خاص (مثلًا الحوار الاجتماعي ومعايير العمل) ضرورية من أجل تحقيق النمو الاقتصادي الشامل.
لقد أضاء ما سبق ذكره على مجموعة من القضايا ذات الصلة بجانب عرض اليد العاملة في المنطقة العربية، وقد اتسم بعضها بالإيجابية، رغم التفاوت الكبير بين الأقاليم الفرعية العربية الثلاثة وبين البلدان الواقعة فيها، ومن الأمثلة على ذلك تراجع معدل البطالة في المنطقة ولو ببطء. بينما كانت الزيادة في معدل مشاركة النساء أكثر اتساقًا. أما تحسّن بطالة الشباب نسبيًا بالمقارنة مع بطالة البالغين فتحمل معنى مختلطًا. فمن جهة أولى، يعطي هذا أملًا للشباب بالعودة إلى سوق العمل لانتفاء الموجبات التي تحول دون التحاقهم بسوق العمل. وهو من جهة ثانية، يشكّل تحديًا أمام استحداث طلب كاف على اليد العاملة لصالح جميع العمال وليس لصالح فئة منهم فقط.
واتسمت قضايا أخرى بالسلبية، وبالإجمال، ثمة الكثير مما يمكن عمله، وينبغي من أجل إنشاء أسواق عمل وطنية، وبالنسبة إلى هذه الأخيرة، كانت أسواق العمل أسواقًا بشكل جزئي في فترة العقد الاجتماعي فقط، حين كانت الحكومات تحدّد مخصصات وأجور اليد العاملة. ولا تزال هذه السمة سائدة في دول مجلس التعاون الخليجي.
بالنسبة إلى أسواق العمل «الوطنية»، لا تساهم سياسات الهجرة في خلق ظروف تستقطب العمال الوطنيين إلى القطاع الخاص. وكما ما ورد في الفصل 1، لا تُعتبر هذه المقاربة المنفتحة نسبيًا حكرًا على اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي، فهي موجودة في بلدان أخرى إما بشكل مخطط ( كما في الأردن) أو نتيجة الظروف (كما في لبنان). وهنا تجدر الإشارة إلى الآثار الضارة لسياسة الهجرة المنفتحة بشكل أو بآخر، وبخاصة على العمال ذوي المهارات المتدنية والأقل حراكًا، بمن فيهم النساء.
وكما بين هذا الفصل، تؤثّر البطالة في المنطقة العربية بشكل سلبي على الباحثين عن عمل في الأسر من مختلف مستويات الدخل. وقد يرتبط ذلك بحقيقة أن ارتفاع معدل البطالة في المنطقة العربية مرتبط بارتفاع معدل البطالة بين الإناث الذي يشمل بدوره المتعلّمات الباحثات عن عمل.
ويأتي استخدام النساء المتعلّمات في المنطقة العربية بشكل جزئي ليفاقم الفرص الضائعة المتمثلة في استغلال «طاقة الفرص الديمغرافية». وبحسب المصادر تتراجع نسبة الشباب بين السكان فيما تتزايد نسبة المسنين بوتيرة سريعة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى غياب التقديرات بشأن الخسائر الناتجة من السياسات السابقة التي فشلت في الاستفادة من طاقة الفرص الموجودة. لكن التقديرات المتوفرة عن المناطق الأخرى كافية للتوضيح، على سبيل المثال، يقدّر أن «النعمة الديمغرافية» قد ساهمت في نمو حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في شرق آسيا بين العامين 1965 و1990 بواقع 1.4 و1.9 في المائة سنويًا، أي الثلث. ولو أضيف هذا المكسب إلى اقتصاديات المنطقة العربية في العقدين الأخيرين لساهم في زيادة معدل نمو الاقتصاد.
بالإضافة إلى الفشل الذريع في الاستفادة من النعمة الديمغرافية، يبدو أن المنطقة العربية قد فوتت فرصتين أخريين متداخلتين. أولًا، في غياب تكافؤ الفرص في القطاع الخاص ودعم الاستثمارات الضخمة، فشلت المنطقة العربية في قيادة النمو الاقتصادي من خلال تراكم عوامل الإنتاج التي تشكّل عادة صمام النجاح للنمو المستدام والمشترك. وأبلغ مثال على ذلك شرق آسيا، حيث يبدو أن تراكم عوامل الإنتاج بالمقارنة مع النمو في إنتاجية عوامل الإنتاج يميل إلى جانب التراكم - حيث تشكّل النساء مصدرًا مهمًا من مصادره. ثانيًا، لم تول المنطقة الاهتمام الكافي لمسألة التفاوت في الاستخدام بين الجنسين. وهنا يأتي الاستخدام الجزئي للنساء ليفاقم الخسائر الناتجة من تفويت الفرص كما ورد أعلاه. وبحسب دراسة مقارنة بين إفريقيا جنوب الصحراء وشرق آسيا، فإن عدم المساواة بين الجنسين في مجالي التعليم والاستخدام كلّف إفريقيا جنوب الصحراء 0.8 نقطة مئوية سنويًا في من نمو الدخل الفردي فيها، وذلك في الفترة الممتدة من 1960 إلى 1992. وبالتالي، تشكّل هذه الفروقات 20 في المائة من الفارق في معدلات النمو السائدة بين شرق آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء في الفترة ذاتها. وبعبارة أخرى، يساهم تحسين الاستفادة من النساء العاملات في زيادة الإنتاجية، ليس بسبب ارتفاع متوسط التعليم عادة بين الباحثات عن عمل عن متوسط التعليم السائد وحسب، بل أيضًا بسبب إمكانية زيادة الحراك عبر القطاعات والوظائف على حدّ سواء، وبالتالي تفادي الاكتظاظ في بعض القطاعات الذي يقوده بدوره إلى خفض الأجور. ويمكن لذلك أن يساهم في التنمية من خلال النمو المكثف (الإنتاجية) والنمو الشامل (التراكم). وأخيرًا، ركّز هذا الفصل على الجوانب الكمية ذات الصلة بعرض اليد العاملة بخلاف الفصل السابق الذي ركّز على الجوانب الكمية للطلب على العمل. أما الفصل التالي فسيتناول نتائج التفاعل بين العرض والطلب من حيث جودة الاستخدام ودخل الأسر.
نوعية الوظائف ومستويات المعيشة
يُعتبر مستوى الأجور مكوّنًا من مكوّنات جودة الوظائف وأكثرها أهميةَ تقليديًا، لكن لا تقلّ مسائل مثل نوع العمل (ولو بأجر عال)، والأمن الوظيفي، والوصول إلى الحماية الاجتماعية، ومستوى المسؤولية والاستقلالية الممنوحة للعمال، أهمية لأنها اعتبارات أساسية بالنسبة إلى حماس العمال وكرامتهم. ونظرًا لأن جودة الوظائف مفهوم متعدد الأبعاد، يختلف تثمين مكّوناتها بشكل جوهري باختلاف الأفراد، ويصعب حصرها بمؤشر واحد. بالإضافة إلى ذلك، تُعتبر البيانات في المنطقة العربية غير ملائمة بصورة عامة، حتى بالنسبة إلى مجالات سوق العمل الأكثر قابلية للقياس، كالأجور.
وبالتالي، يعتمد هذا الفصل مقاربة بمؤشرات مختلفة قابلة للمقارنة على المستوى الدولي وقابلة للاستعمال كمؤشرات بديلة عن جودة الاستخدام. وتشمل هذه المؤشرات نسبة الفقراء العاملين، وحصة العمال المستضعفين من إجمالي الاستخدام فضلًا عن مؤشر أكثر ذاتية، ألا وهو نسبة العمال الراضين عن فرص العمل الجيدة المتاحة.
وعلى المستوى الاقتصادي الكلي، يستعين التحليل بستة مؤشرات إضافية هي: حصة الاستهلاك الأسري من الناتج المحلي الإجمالي، وحصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي، ومعدل الفقر، وعدم المساواة في الأجور، ومؤشر التنمية البشرية، ومؤشر آخر أقل موضوعية هو نسبة المواطنين الذين يتوقعون تردي مستويات معيشتهم في المستقبل.
وبالإضافة إلى الفائدة المستقاة من التحليل والنقاش الواردين في الفصلين السابقين، تقدم نتائج هذا الفصل شرحًا أكثر اتساقًا بشأن تطّور التنمية في المنطقة العربية (خارج دول مجلس التعاون الخليجي) في العقود الأخيرة.
أولًا، وصل العقد الاجتماعي القديم إلى طريق مسدود، بسبب اصطدام زيادة الإنفاق بجدار قيود الموازنة، وكان تنامي الإنفاق ناتجًا بشكل أساسي عن تنامي الاستخدام في القطاع الحكومي، إلى جانب المنافع السخية المقدمة لموظفي القطاع وكذلك، عبر التأمينات الاجتماعية للشرائح ذات الامتيازات الأكبر في القطاع الخاص، وبالتالي، اضطرت أكثرية السكان إلى القبول بإجراءات الحماية الاجتماعية الجزئية، لا سيما الدعم الغذائي، من هنا كان لابد من إصلاح النظام القديم.
ثانيًا، ركزّت الإصلاحات بشكل أكبر على الشقّ الاقتصادي بدلًا من الشقّ المؤسسي، واعتنقت اقتصاد السوق دون مراعاة أثره الاجتماعي على اللامساواة.
وإذا استثنينا دولًا محددة بعينها، يكون الملخّص التالي للتطورات الحاصلة في المنطقة العربية منذ التسعينيات منطقيًا:
• كان نمو الإنتاج (معدل التغيّر في الناتج المحلي الإجمالي) مرتفعًا نسبيًا في المنطقة خلال العقد الأخير، أقلّه بالمقاييس العربية التاريخية، وترافق بارتفاع متناسب في الاستخدام واستقرار أو ارتفاع طفيف في الأجور الفعلية.
• لكن معدل الزيادة في النمو الإجمالي للإنتاج (نحو 4 في المائة سنويًا) لم يحقق سوى زيادة بواقع النصف في الدخل الفردي نتيجة النمو السكاني في الفترة المعنية.
• بالإضافة إلى ذلك، تراجعت حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي بشكل جذري في المنطقة، ما يقتضي ضمنًا أن النمو الاقتصادي شجّع عائدات العمل أقل من أشكال الدخل الخاصة بغير الفقراء.
• يعتمد الاختبار النهائي على الاستهلاك الأسري، حيث تراجعت حصة هذا الأخير من الناتج المحلي الإجمالي بواقع 9 نقاط مئوية خلال العقدين الأخيرين.
• إذا ما جمعنا كل هذه العناصر معًا، يظهر انتقال جزء يسير فقط من الزيادة الكبيرة في القيمة الاسمية للناتج المحلي الإجمالي إلى العمال، ومن خلال إيراداتهم، إلى الأسر المعيشية.
• كما يفسّر ذلك التدني الطفيف في معدلات الفقر في المنطقة: بالرغم من الأثر الانتشاري لجزء من النمو الاقتصادي على مستوى المواطنين العاديين، يبدو أن الجزء الأكبر من هذا النمو قد تراكم في مكان آخر.
• بموازاة ذلك، تخلّف التقدم في مجال التنمية الاجتماعية (قياسًا بمؤشر التنمية البشرية) عن النمو الاقتصادي، ما يشير إلى فشل الإنفاق العام في مواكبة التحوّل الاقتصادي الجاري بشكل كامل وفي مجاراة تنامي تطلعات المواطنين التي رافقت تنامي الدخل.
وبالرغم من أن هذه الآثار يفترض أن تُسهم في زيادة الفروقات، تبقى الأدلة العملية مبهمة بهذا الشأن. لكن الأكثر أهمية هو إدراك المواطنين لهذه اللامساواة والذي يترافق مع شعور متزايد بعدم الاستقرار وآمال ضعيفة بتحسين مستويات عيشهم في المستقبل. وفي الحقيقة، تظهر الأدلة التي يعرضها هذا الفصل، تنامي التشاؤم في المنطقة العربية قبل قدوم الربيع العربي.
نوعية الوظائف
الفقراء العاملون: تراجع طفيف لا كبير
في السياق الحالي، يُعتبر العامل في المنطقة فقيرًا إذا كان دخله من العمل لا يكفي لتأمين حاجته وحاجات أسرته أي 3 دولارات أمريكية أو أكثر يوميًا. ويساوي ذلك قيمة خطوط الفقر الوطنية في معظم الدول العربية غير الأعضاء في دول مجلس التعاون الخليجي.
واستنادًا إلى حصة الفقراء العاملين من إجمالي الاستخدام، أبلت المنطقة العربية بلاء حسنًا في بداية التسعينيات. وإذا ما وضعنا جانبًا دول مجلس التعاون الخليجي، حيث تناهز الحصة المذكورة الصفر عمليًا، بلغت حصة الفقراء الكادحين في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا 35 في المائة من إجمالي الاستخدام. وبشكل عام، تجاوزت هذه الحصة في الإقليمين الفرعيين العربيين فقط الحصة السائدة في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى، فيما كانت أقل من النصف بالمقارنة مع الأقاليم الفرعية الآسيوية الثلاثة وإفريقيا جنوب الصحراء. لقد شهد الإقليمان الفرعيان العربيان تراجعًا ملحوظًا في حصة الفقراء العاملين التي تراجعت بواقع الثلث في الشرق الأوسط والخمس في شمال إفريقيا أو بمعدل 20 في المائة للإقليمين المذكورين، وبالتالي، حصل تراجع في حصة هؤلاء من الاستخدام الهش الذي يتم استعراضه في الفصل التالي.
لكن، جاءت نسبة التراجع في حصة الفقراء العاملين بوتيرة أسرع بكثير في الأقاليم الأخرى، ففي شرق آسيا، مثلًا، تراجعت من 83 في المائة إلى 18 في المائة فقط، أي بواقع أربعة أخماس، وذلك عائد في المقام الأول إلى الصين. والأمر سيان بالنسبة إلى أقاليم أميركا اللاتينية والكاريبي وجنوب شرق آسيا والمحيط الهادئ التي سجّلت تراجعًا أسرع من الإقليمين الفرعيين العربيين. وبالتالي، تتطابق هذه النتائج مع التباطؤ في انخفاض الفقر في المنطقة منذ عام 1990، والذي تتم مناقشته لاحقًا في هذا الفصل.
وهنا نذكر حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي كواحد من المؤشرات ذات الصلة. وبحسب التوقعات، لقد ساهم انخفاض حصة الفقراء العاملين إلى جانب زيادة الاستخدام كما ورد في الفصل 1 في زيادة حصة فاتورة الأجور الإجمالية من الناتج المحلي الإجمالي، لكن جاءت الأحوال مغايرة لذلك. وبالرغم من تراجع حصة الأجور في معظم دول العالم منذ أوائل التسعينيات، تتمايز المنطقة العربية عن الأقاليم الأخرى من حيث عمق وسرعة التراجع وبخاصة في شمال إفريقيا، حيث تراجعت حصة الأجور بأكثر من 34 نقطة مئوية منذ عام 1998.
وبالرغم من عدم توفّر بيانات خاصة بالمنطقة العربية، تتراجع حصة الأجور عمومًا بشكل أكبر بين العمال ذوي المهارات المتدنية. وفي حال توفّر البيانات، كما هي الحال في الاقتصاديات المتقدمة، يبرز تراجع حصة الأجور بين العمال ذوي المهارات المتدنية بواقع 12 نقطة مئوية بين أوائل الثمانينيات وعام 2005، فيما يبرز ارتفاعه بواقع 7 نقاط مئوية بين العمال ذوي المهارات العالية. وبالنسبة لذوي الأجور المتدنية، قد تكون مثل هذه التغيّرات كارثية وما يترتب عليها من خسائر كبيرة نسبيًا نتيجة انحدارهم تحت خط الفقر، وفي حال صحّ ذلك في المنطقة العربية، فقد يساهم في تنامي الشعور بعدم المساواة بين أكثرية العمال بموازاة انخفاض بطيء في معدلات الفقر.
انخفضت نسبة الفقراء العاملين وكذلك نسبة العمال في الاستخدام الهش، ولكن حصة الأجور من الناتج المحلي الإجمالي انخفضت بشكل أسرع، هذا يشير إلى أن مصادر الدخل الأخرى غير الأجور زادت بشكل أسرع.
الاستخدام الهش: متدن ما خلا بين النساء العربيات
يُقصد بالاستخدام الهش مجموع العاملين لحسابهم الخاص والعمال المساهمين من الأسرة. وعليه، يُعتبر معدل الهشاشة نسبة هذا المجموع إلى جميع العاملين في وظائف بمن فيهم أيضًا أصحاب العمل والموظفين. وتميل أكثرية هؤلاء العمال إلى الانخراط في الاقتصاد غير المنظّم وإلى العمل خارج منظومة التأمينات الاجتماعية.
وبخلاف مؤشر الفقراء العاملين، لا تنطبق جميع الشروط في حال الاستخدام الهش. أولًا، لا يعاني جميع العاملين لحسابهم أو العاملون ضمن الأسرة من وضع هش، على سبيل المثال، يشمل العاملون لحسابهم أصحاب المهن الحرة كالمهندسين المدنيين، والمهندسين المعماريين، والمحامين والفنيين ذوي المهارات العالية. والأمر نفسه في العمل الأسري الذي لا يتم دومًا في ظروف هشة.
ثانيًا، إذا استثنينا الموظفين (وأصحاب العمل وعددهم قليل نسبيًا)، يغدو من المسلم به ضمنًا أن العاملين بأجر لا يعانون من الهشاشة. وبالرغم من أن هذه الحال قد تنطبق على معظم موظفي القطاع العام وعمال شركات القطاع الخاص المنظّم، فهناك متعاقدون بموجب عقود هشة أو في قطاعات ووظائف مستثناة من أحكام قانون العمل أو من منظومة التأمينات الاجتماعية. وأبلغ مثال على ذلك اقتصاديات دول مجلس التعاون الخليجي التي تسجّل عمليًا معدلات صفرية من الاستخدام الهش، ولديها أدنى حصة من العاملين في الاستخدام الهش. لكن، وبالرغم من أن أكثرية العمال في معظم هذه الدول متعاقدون، فإن غالبيتهم أيضًا مهاجرون لا يتمتعون بالأمن الوظيفي ويعملون بأجور وظروف استخدام أدنى غالبًا من تلك الخاصة بالعمال الوطنيين. كما أنهم مستثنون من بعض أحكام قانون العمل والتأمينات الاجتماعية.
إلى ذلك، تُعتبر اتجاهات الهشاشة في المنطقة العربية، بالمقارنة، أفضل من اتجاهات الفقراء العاملين، حيث تراجعت حصة العمال العرب من الاستخدام الهش بنسبة 20 في المائة مع مرور الوقت.
وعليه، تحلّ المنطقة العربية في المرتبة الثانية بعد شرق آسيا. وبالفعل، تمكّنت المنطقة العربية من ردم معظم الفجوة القائمة سابقًا مع أميركا اللاتينية.
تُعتبر مساهمة النساء في الاستخدام الهش في المنطقة مقارنة بالرجال هي الأعلى في العالم، وبعد أن سجّلت ارتفاعًا خلال السنوات العشرين الفائتة. والنساء في شمال إفريقيا أكثر هشاشة من نظيراتهن في الشرق الأوسط. حيث سجّلن معدلات هشاشة تقارب 32 في المائة (مقارنة مع 55 في المائة للرجال) فيما سجّلت نظيراتهن في إقليم الشرق الأوسط 37 في المائة (مقارنة مع 56 في المائة للرجال). وبالرغم من تطابق المتوسط العالمي لنسبة العاملات بأجر عام 2009 (46.8 في المائة) مع المتوسط العالمي لنسبة العاملين بأجر (47.9 في المائة)، فإن هذه النسبة بين النساء بلغت 79 في المائة في شمال أفريقيا و85 في المائة في الشرق الأوسط.
وخلاصة القول، يُعتبر معدل الهشاشة أعلى من معدل الفقراء العاملين في جميع الأقاليم. وقد تراجع كلا المؤشرين في مختلف أنحاء العالم وفي المنطقة العربية على حدّ سواء. وكان تراجع حصة العمالة الهشة في المنطقة العربية أسرع من تراجع حصة الفقراء. وضمن الأقاليم العربية، بلغت حصة الفقراء العاملين مستويات أعلى من حصة الفقراء العاملين في إقليم شمال إفريقيا، فيما كان معدل الهشاشة أعلى في إقليم الشرق الأوسط في التسعينيات. ويُعزى ذلك إلى سرعة تراجع عدد الفقراء العاملين في الشرق الأوسط قياسًا بشمال إفريقيا الذي شهد في المقابل تراجعًا في مستويات البطالة في العقد الأخير.
الرضا عن فرص العمل الجيدة
سعى مسح تم إجراؤه في عام 2010 إلى جمع بيانات ميدانية بشأن عدم رضا العمال عن وظائفهم، وقد تم طرح السؤال التالي: «هل أنت راض أو غير راض عن توفّر فرص العمل الجيدة في المدينة أو المنطقة التي تقيم فيها؟».
لقد بلغ معدل عدم الرضا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أقل من 60 في المائة، وهي قيمة تتوسط معدلات المناطق الأخرى في العالم، لكن لا ينبغي أن يغيب عن بالنا التفاوت الملحوظ بين الأقاليم، حيث سجّلت معدلات عدم الرضا أكثر من 75 في المائة في عام 2010 في كلّ من مصر والأردن ولبنان والسودان واليمن.
أما الفروقات من حيث عدم الرضا السائد بين الشباب والبالغين العرب فكانت ضئيلة ومتطابقة مع النمط العام السائد، حيث يُعتبر الشباب أكثر رضا عن الوظيفة بالمقارنة مع البالغين. لكن الفارق الضئيل يشير إلى رضا الشباب والبالغين معًا بشكل أو بآخر عن العمل.
في المقابل، تميل هذه الفروقات بين الشباب والبالغين إلى الارتفاع مع ارتفاع دخل البلدان، كما برز من خلال الأدلة ذات الصلة بالتكتلات الإقليمية. وتسجّل جنوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء فروقات عمرية أقل من منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فيما تسجّل الاقتصاديات المتقدمة وأوروبا الشرقية وآسيا الوسطى وأميركا اللاتينية فوارق أكبر بالمقارنة مع منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقد ترتبط هذه الخلاصة بالأزمات المالية التي عصفت بأوروبا والعالم المتقدم أكثر من البلدان النامية وما رافقها من تساهل في الأنظمة الخاصة بالأمن الوظيفي.
وينبغي النظر إلى هواجس الشباب حيال الاستخدام في المنطقة العربية حاليًا من منظور العمال البالغين أيضًا، وبخاصة في ظلّ تغيّر التركيبة الديمغرافية وتراجع نسبة الشباب وتنامي نسبة البالغين.
الفقر يتراجع لكن التنمية البشرية تحقّق مكاسب ضئيلة
تعاني المنطقة العربية من أدنى مستويات الفقر في العالم قياسًا بمعدل الفقر للفرد الواحد عالميًا والمتمثل بدولارين يوميًا، وهي في تراجع مستمر. وبالملموس، تراجع معدل الفقر في المنطقة العربية، مقاسًا بخطوط الفقر الوطنية، من 20.3 في المائة في التسعينيات إلى 18.1 في المائة خلال العقد 2000. وبالتالي، تُعتبر وتيرة انخفاض الفقر بطيئة، لكنها تؤكد في المقابل التراجع البطيء نسبيًا في نسبة الفقراء العاملين في المنطقة العربية.
وقد ترافق البطء في انخفاض فقر الدخل بالبطء في تقدم مؤشر التنمية البشرية الذي يبرز التغيّر في الفجوة القائمة بين البلدان العربية والبلدان العشرة ذات مؤشر التنمية البشرية الأعلى. وبالرغم من حدوث التباطؤ في المناطق النامية الأخرى، إلا أنه يبرز بشكل أكبر في البلدان العربية. ولا يأخذ مؤشر التنمية البشرية بالاعتبار الدخل وحسب، كما هي الحال في مؤشر الفقر، بل المؤشرات ذات الصلة بالتعليم والصحة على حدّ سواء.
بعد انطلاقة سريعة في السبعينيات، راح معدل الزيادة في قيمة مؤشر التنمية البشرية في المنطقة العربية يتباطأ بشكل ملحوظ منذ التسعينيات. وقد تحققت التحسينات الأولى بسهولة نسبية بسبب انطلاق المنطقة من قاعدة متدنية نسبيًا وتنفيذ استثمارات ضخمة في قطاع الخدمات الاجتماعية، في ظل الطفرة النفطية الأولى في السبعينيات ووجود الدولة الأبوية.
بدأ التقدم يتباطأ خلال العقدين الأخيرين. ويعود ذلك جزئيًا إلى الضعف الشديد في قاعدة النمو في بداية السبعينيات وإلى التراجع الذي كان متوقعًا مع التقدم التدريجي نحو السقف. لكنه يعود أيضًا إلى القيود المالية المفروضة على العقد الاجتماعي القديم وفشل هذه الدول في تطبيق سياسات فاعلة تترجم المكاسب المادية إلى رفاه بشري. بعبارة أخرى، انتهى المطاف بالمنطقة العربية إلى تسجيل نتائج اجتماعية (تلك المشمولة بمؤشر التنمية البشرية) أدنى مما تفترضه مستويات الدخل فيها. فباستثناء الأردن والأرض الفلسطينية المحتلة وتونس، سجّلت جميع البلدان العربية مستويات تنمية بشرية أدنى من مستويات الدخل الفردي.
تدني الفروقات من حيث الإنفاق لكن ندرة في المعلومات بشأن تراكم الثروات.
إلى جانب الفقر، يُعتبر غياب المساواة أحد العوامل الكامنة وراء الانتفاضات المتزامنة في الكثير من البلدان العربية. لكن إذا وضعنا جانبًا عدم المساواة بمتخلف أشكاله وبلوغه درجة الخطورة في الكثير من البلدان العربية خلال المرحلة الزمنية نفسها، تُعتبر الأدلة بهذا الخصوص أكثر شحًا من الأدلة ذات الصلة بالفقر ومتناقضة في بعض الأحيان.
وبالنسبة إلى البيانات المتوفّرة، يبدو أن المنطقة العربية تسجّل مستويات معتدلة من الفروقات من حيث الإنفاق الأسري قياسًا إلى المناطق الأخرى في العالم، كما يظهر تغيّر أنماط الفروقات بشكل ملحوظ بين مختلف البلدان، حيث تسجّل فروقات مرتفعة نسبيًا في المغرب وتونس، ومتوسطة إلى متدنية في بلدان أخرى كاليمن ومصر وسوريا.
كما يظهر استقرار الفروقات الإقليمية الإجمالية نسبيًا خلال السنوات الـ 20-30 التي تتوفّر بشأنها بيانات قابلة للمقارنة. فقد تراجعت الفروقات من حيث الإنفاق خلال الفترة المذكورة قياسًا بمعامل جيني الخاص بالمنطقة والمرّجح بالناتج المحلي الإجمالي من 35.2 إلى 34.7.
لا تبرز الأدلة الإحصائية التي تركّز فقط على الإنفاق الأسري سوى جزء من الصورة، وفي ضوء المظاهر الساطعة عن زيادة تركّز الثروات في الكثير من البلدان العربية منذ التسعينيات، لا سيما التي باشرت إصلاحات اقتصادية ليبرالية، من المرجح أن يحدث ارتفاع كبير في الفروقات. وثمة أشكال أخرى من اللامساواة يرجح أنها تزايدت مثل اللامساواة المناطقية والتي يبدو أنها تتطابق.
انخفضت حصة الاستهلاك الخاص من الناتج المحلي الإجمالي مع مرور الوقت، ومعها، والتشاؤم حول مستقبل معايير المعيشة زادت في السنوات الأخيرة.
رقعة الانتشار الجغرافي للانتفاضات في تونس وسوريا حيث انطلقت في المدن الأكثر فقرًا بخلاف مصر حيث تركّزت الاحتجاجات في القاهرة.
لم يتم حتى الآن التوصل إلى استنتاج قاطع بشان العلاقة بين التغيّر في المقاييس المتاحة للامساواة في المنطقة العربية وبين الانتفاضات الحاصلة. لكن، قد يكون السبب هو أن عينات المسوحات المتوفرة، التي استقيت منها القياسات الشائعة للامساواة، لم تشمل الأسر الأكثر غنى (مثلًا شريحة أغنى 5 في المائة).ويُعتبر ذلك صحيحًا لأنه يغدو من الجلي أكثر فأكثر أن معظم الزيادة في اللامساواة في الكثير من البلدان خلال السنوات الأخيرة ناتج عن التركّز الشديد للمداخيل والثروات في أيدي شريحة الأسر الأكثر غنى، أي «أغنى 1 في المائة» كما باتت تسمى بشكل شائع بعد الأزمة المالية العالمية في عام 2008. وبالتالي، فإن أحد تفسيرات غياب التغيّرات الواضحة في الفروقات إلى إفلات الثروات المتنامية لدى هذه الشريحة من الكشف الإحصائي. وتخلفت استهلاك الأسر خلف الزيادة في الناتج المحلي الإجمالي.
بالرغم من الغموض الذي يُستشف من الإحصائيات التي نوقشت أعلاه في ما يخص نوعية الوظائف والحياة (من خلال مؤشرات الفقر واللامساواة القياسية)، تبرز صورة أوضح على المستوى الكلي لدى دراسة معدل الاستهلاك الأسري إلى الناتج المحلي الإجمالي.
لقد تراجعت حصة الاستهلاك الأسري بواقع 9 نقاط مئوية. ويُعتبر هذا التراجع كبيرًا لا سيما قياسًا بالمناطق الأخرى في العالم. وبالرغم من تراجع حصة الاستهلاك من الناتج المحلي الإجمالي في المناطق الأخرى، لم تتراجع هذه الحصة بالمقدار نفسه في المنطقة العربية، فيما تراجعت في المناطق الأخرى نتيجة ارتفاع معدلات النمو الاقتصادي، في جنوب شرق آسيا على سبيل المثال، وتحديدًا في شرق آسيا.
ويتماشى الرقم بطريقة ما مع الملاحظة القائلة بأن المسوحات الجزئية في المنطقة ليست مستندة إلى عيّنات ملائمة، كما يؤكد التفاوت بين نتائجها وبين إحصاءات الحسابات الوطنية، ومع الفرضية الناتجة عن ذلك بأن زيادة اللامساواة غابت عن الكشف الإحصائي.
بالإضافة إلى ذلك، ليس الفقر بما هو مستوى معطى من الاستهلاك حالة ثابتة، بمعنى أن فقراء اليوم لن يكونوا جميعهم فقراء غدًا والاستهلاك المرتفع في فترة معينة قد يتراجع في أخرى. ويدرك الناس هذه الحقيقة ويطلقون العنان لمخيلتهم بشأن المستقبل. وقد لا تكون النتيجة السيئة اليوم مدمرة، في حال أدرك الناس أنها حالة عابرة. وفي هذا السياق، يبدو أن تصورات المواطنين العرب بشأن مستقبلهم قد تراجعت خلال العقد الأخير، وبالفعل تُعتبر المنطقة العربية الوحيدة في عدد الأقاليم النامية الواردة التي تزيد تشاؤمًا مع مرور الوقت، وذلك بحسب تصور أكثر من 20 في المائة من الشعب العربي ممن يعتبرون أن مستويات المعيشة تتفاقم سوءًا وأنها أولية خلال مرحلة يتنامى فيها الناتج المحلي الإجمالي والبطالة.
بالرغم من تنوّع الأدلة الواردة في هذا الفصل، برز نوع من التوافق بشأن أداء الاقتصاد وردود فعل سوق العمل وما يترتب جراء ذلك على رفاه المواطنين العاديين في المنطقة العربية.
أولًا، يبدو أن الإصلاحات الاقتصادية الجارية منذ التسعينيات قد بدأت تحل مكان الركود في الاقتصاد وأسواق العمل. أما بالنسبة إلى الأجور، فقد تراجعت حصة الفقراء العاملين الذين يعيشون بدولارين يوميًا بواقع 20 في المائة وحصة الفقراء العاملين الذين يعيشون ب 1.25 دولار يوميًا بواقع 51 في المائة. كما تراجعت حصة الفقراء في الاستخدام الهش بالرغم من صعوبة قياسها من الناحية الإحصائية.
أما الاستهلاك الأسري فقد زاد فعليًا ولو بشكل طفيف. وهذا يفسّر البطء في وتيرة تراجع الفقر في المنطقة العربية بموازاة استقرار اللامساواة. لكن الاستهلاك لم يتزايد بسرعة تزايد الناتج المحلي الإجمالي. وبالتالي، وبالرغم من إحراز بعض التقدم، فشلت المنطقة عمومًا في ترجمة ثرواتها الضخمة إلى تحسّن كبير في الرفاه بالنسبة لأكثرية المواطنين.
هذا ويُعتبر التباين بين زيادات الدخل الإقليمي والتحسّن في مؤشر التنمية البشرية مؤشرًا ذا دلالة بهذا الشأن. وتتجلّى اللامساواة ايضًا في الفرص على حدّ سواء، ما يضعف الآمال ويزيد الشعور بالإجحاف. وقد أقام كثيرون علاقة بين ذلك والانتفاضات في العالم العربي. ولما كانت اللامساواة في النتائج في المنطقة العربية أقل من اللامساواة المسجلة في أميركا اللاتينية، فإن اللامساواة في الفرص في عدد من بلدان المنطقة تضاهي مثيلاتها في أميركا اللاتينية.
وستتم مناقشة هذا النوع من اللامساواة في الفصل الخاص بالتعليم كما تُعتبر هذه اللامساواة ذات صلة بشكل خاص بالنقاش الحالي، حيث يعتبر المواطنون أن النتائج السيئة لا تعود إلى أسباب خاصة بهم أو واقعة ضمن سيطرتهم وبالتالي يلومون الآخرين. وفي غياب حرية التعبير، يحتكمون إلى وسائل أخرى من أجل التعبير عن استيائهم.
وتُعتبر الأدلة بشأن تشاؤم المواطنين العرب إزاء مستويات المعيشة المستقبلية أكثر من مجرد فرضيات، حيث إن المواطنين لم يعيروا سوى القليل من الأهمية للعقد السابق للربيع العربي المسمى «عقد النهضة العربية» نتيجة النمو السريع في الاقتصاد والاستخدام. ويبدو أن مطالب الشعوب المتنامية علمًا ومعرفة بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية قد حجّمت المكاسب المسجّلة من الآثار الإيجابية في أسواق العمل والمجالات الاقتصادية الواردة ضمن هذا الفصل والفصلين السابقين، وأبلغ دليل على ذلك اندلاع الانتفاضات أولًا في تونس ومصر المشهود لهما في المنطقة بالنجاح في السياسات الاقتصادية، في الختام، يسلّم التقرير بالرأي القائل إن «السياسات السيئة في نهاية المطاف هي المسؤولة عن النتاج غير المرغوبة وليس الاقتصاد السيئ بحدّ ذاته».
التعليم والمهارات
لقد قطعت المنطقة العربية شوطًا طويلًا في مجال التعليم، بعد أن حققّت معظم البلدان العربية في معدلات شاملة أو شبه شاملة للالتحاق بالتعليم الابتدائي منذ فترة السبعينيات. أما في التعليم الثانوي، فقد ارتفعت معدلات الالتحاق من 20 في المائة فقط إلى نحو 70 في المائة، أي من 4 ملايين تلميذ إلى نحو 30 مليون تلميذ تقريبًا. وبلغ معدل القرائية بين الشباب اليوم 92 في المائة في شمال إفريقيا و99 في المائة في الشرق الأوسط ودول مجلس التعاون الخليجي.
والتحق تعليم الإناث بركب تعليم الذكور حتى تجاوزت نسبة الطالبات الجامعيات نسبة الطلاب الجامعيين بواقع 70 إلى 30 في بعض دول مجلس التعاون الخليجي. واليوم، يبلغ إجمالي عدد التلاميذ في المدارس قرابة 80 مليونًا، أي بواقع تلميذ من أصل كل أربعة أشخاص. في المقابل لا يشكّل عدد الخريجين من نظام التعليم بالضرورة ضمانة جودة أو ملاءمة التعليم من أجل المنافسة في سوق العمل المفتوح. فقد أجريت دراسات كثيرة عن التعليم والمهارات في المنطقة العربية وكلها حدد الكثير من المشاكل في جودة التعليم سواء من حيث الحصيلة الأكاديمية أم لجهة الربط مع سوق العمل، وهذا على صعيد عرض العمل.
ويجب دراسة عدم التلاؤم هذا من منظور الطلب على اليد العمالة أيضًا، لأنه لا يشكّل بالضرورة سببًا لعدم قابلية الاستخدام. فمثلًا، يتقاضى العامل الذي يفتقر إلى المهارات المطلوبة أجرًا أقل من غيره. وحتى في حال الافتقار لمهارات حاسمة، فإن الإنتاج لا يتوقف بل تكون الحصيلة منتجًا أو خدمة بجودة رديئة وذات سعر أدنى في الأسواق. وبالمقابل، في حال افتقر أصحاب العمل إلى المدخلات الضرورية لإدارة مؤسساتهم، يبادرون إلى شرائها أو تطويرها بأنفسهم. والأمر ذاته ينطبق على القوى العاملة. ففي حال ندرة المهارات، يكون هناك خياران أمام المؤسسات: إما استقطاب عمال من مؤسسات أخرى من خلال عرض شروط وظروف عمل وأجر أفضل، وإما تدريب العاملين لديهم وبالتالي تحمل كلفة التدريب. وفي كلا الحالتين، تتطلب المهارات كلفة إضافية. لذا عندما يشكو أصحاب العمل من عدم توفّر المهارات المطلوبة، من المهم أن نعرف هل العمال الماهرون غير متوفّرين أم أن أصحاب العمل غير مستعدين لدفع أجور أعلى للحصول على المهارات.
وهذا يعيدنا إلى هيكلية وأداء الإنتاج، ففي حال أفضت السياسات الحكومية وحوافز السوق إلى تقييد نمّو الإنتاج ذي القيمة المضافة العالية، لن يحدث طلب على المهارات وبالتالي من غير المجدي أن يدفع أصحاب العمل أجورًا أعلى. ولكن ثمة مشكلة أخرى ذات صلة أمام العديد من الدول العربية وهي أن الحكومات تستطيع أيضًا التأثير على سوق العمل في القطاع الخاص من خلال ممارساتها في مجال التوظيف والاستخدام ودفع الأجور. ولقد كانت هذه حال توسع الدول العربية غير المدروس في الاستخدام في القطاع العام مما خلق حوافز جعلت في الباحثين عن عمل يحصلون فقط على تعليم يكفي لإيجاد وظيفة في القطاع العام أساسًا والإحجام عن العمل في القطاع الخاص إلا إذا لم يعثروا على أي بديل آخر. من هنا تُعتبر حجة «مراكمة الشهادات والانتظار في الطوابير»، وفي سياق ارتفاع معدل البطالة بين العمال المتعلّمين صالحة في زمن العقد الاجتماعي القديم، حيث كان الخريجون في بعض البلدان متسلّحين بضمانة دستورية تكفل لهم الاستخدام في القطاع العام. لكن مدى صحة هذه الحجة بات موضع نقاش اليوم، حيث حدث معظم النمو في صافي الاستخدام في الكثير من البلدان خلال العقد الفائت في القطاع الخاص.
وعليه، تكمن الحقيقة بين هذين التفسيرين. فمن جهة، يفضّل العرب الباحثون عن عمل وظائف القطاع العام، وهذا يزيد من تحفظهم الخاص بالأجور حيال العمل في القطاع الخاص. ومن جهة أخرى، لا يجد أصحاب العمل المهارات المطلوبة لكنهم غير مستعدين للاستثمار بشكل كبير في تنمية القوى العاملة.
تشير الفروقات الطفيفة في الأجور بين العمال المتعلمين والأقل علمًا إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة بين المتعلمين ومعدلات الهجرة بين أصحاب المهارات إلى أن عرض اليد العاملة المتعلمة يتجاوز الطلب عليها في السوق المحلية.
ويشدّد الفصل الحالي على أن نوع الوظائف المستحدثة هو السبب الأساسي وراء الاستثمار في الموارد البشرية بدلًا من أن يكون الاستثمار في الموارد البشرية هو الذي يقود إلى استحداث الوظائف. وبالتالي، ما أن تستحدث السياسات الاقتصادية الكلية والقطاعية المختلفة فرص العمل المنتجة التي تستلزم المزيد من المهارات سيشعر الباحثون عن عمل بالحافز للاستثمار في رأس مالهم البشري بالشكل المناسب من أجل الحصول على الوظائف المذكورة.
إلى ذلك، في حال تخلّف عرض المهارات عن طلب أصحاب العمل، يكون أصحاب العمل أمام خيارات ثلاثة: توفير التدريب بأنفسهم أو دفع أجور أعلى لقاء المهارات وهي قليلة بالأساس أو الاستفادة من عرض اليد العاملة المهاجرة. وبالرغم من إمكانية الارتقاء بجودة التعليم، إلا أن عدم ملاءمة المهارات لم يكن عائقًا أمام قابلية الاستخدام لدى الشباب العرب. وتشهد المنطقة العربية أحد أعلى معدلات الهجرة في العالم. وبالتالي يطرح السؤال التالي نفسه: لماذا يستطيع الشباب العرب التنافس في اقتصاديات معقدة ومتطورة وليس في بلدانهم؟
توفر التعليم: متعلمون وعاطلون عن العمل
لقد كان السعي إلى مراكمة الشهادات من أجل الوصول إلى الوظائف في القطاع العام نتيجة غير مرغوبة من نتائج العقد الاجتماعي القديم الذي شكّل الاستخدام في القطاع العام أحد مكّوناته. لكن رغم الجدل الدائر بشأن استمرار الحال على ما هو عليه، فإن أداء الطلاب العرب في الامتحانات الدولية الموحدة اليوم يقل عن أداء أترابهم في مناطق أخرى، على سبيل المثال، يشار إلى أن جميع البلدان العربية المشاركة سجّلت دون المتوسط الدولي في مادة الرياضيات.
وفي ظلّ هذه الظروف، يميل المرء إلى إرجاع تدني الأداء التعليمي إلى أوجه القصور في النظام التعليمي. كما يسهل انتقاد سلطات العمل لعدم توفير التدريب أو لإعطائها القطاع الخاص دورًا صوريًا في تصميم وتنفيذ التدريب. ولكن في نهاية المطاف، يمكن القول أيضًا أن اللائمة تقع على «الطلاب الأفراد» الذين لا يتفوقون في التعليم.
تشير الفوارق القائمة بين البلدان العربية في الأداء التعليمي إلى أن الانتقادات الثلاثة المذكورة عارية لا تستند إلى أساس متين. على سبيل المثال، في ضوء ارتفاع حصة الطالب من الإنفاق على التعليم في دول مجلس التعاون الخليجي ومجانية التعليم وتوفّر المنح في أغلب الأحيان لمتابعة الدراسة، لا سبب سوى الحوافز يقف عائقًا أمام الارتقاء بالتحصيل العلمي.
ولعلّ التفسير الأكثر ترجيحًا هو توفّر الحوافز أمام الأسر والطلاب من أجل الاستثمار في رأس المال البشري. بعبارة أخرى، من الأرجح أن تتأثّر الحصيلة التعليمية بشكل أكبر بالطلب على القوى العاملة أو التوقعات ذات الصلة أكثر من تأثّرها بعرض الفرص التعليمية (الحصول على التعليم). من جهة، يُعتبر الاستخدام في القطاع العام بطريقة أو بأخرى من الاستحقاقات التلقائية في دول مجلس التعاون الخليجي، حيث يستند على المواطنة أكثر منه على الجدارة، وحيث لا تخضع عملية التوظيف إلى ضرورة تطوير حرفية الوظيفة العامة، بل تُعتبر وسيلة لاستيعاب العدد المتنامي من الباحثين عن عمل.

الجدول التالي يوضح مستوى وتغيّرات مساهمة العاملين بأجر في إجمالي الاستخدام،
والمعدلات السائدة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والعالم، 1991-2009.
أصحاب الأجور
العام في المائة الفجوة المردومة
الإجمالي 1991 2009
العالم 41.4 46.4 10
الشرق الأوسط 51.9 62.4 22
شمال إفريقيا 43.9 49.1 9
الرجال
العالم 42.5 47.9 9
الشرق الأوسط 55.2 64.4 20
شمال إفريقيا 46.0 51.8 11
النساء
العالم 39.7 46.8 12
الشرق الأوسط 34.2 55.0 32
شمال إفريقيا 36.3 41.0 7

ملاحظة: يتم احتساب الفجوة كالفارق بين القيمة في عام 2010 والقيمة في عام 1991 على 100 ناقص القيمة في عام 1991.
المصدر: منظمة العمل الدولية (2011ج).