قــــــــراءة
تختلف المحمولات الفكرية لدى الكاتب عن غيره ، لذا نجده يغوص بتكويناته الفكرية في أعماق الاجتماع بكافة صوره ومتغيراته وأساسياته ، وحتى جذوره ، ومن خلال استقراء الآراء والأفكار لديه يتمخض لديه رؤية تتسم بالتعددية لتشمل كافة الاتجاهات بحد سواء ، وهذا ما نلاحظه في كتابات الكاتب إبراهيم خليل إبراهيم ،حيث يحمل في مجمل كتاباته التي أراها لا تجزأ إنما تؤخذ مجموعةً دون أن يتم التفريق بينها على أنها شمولية في رؤيتها ، وفي المس بكافة المتغيرات التي داهمت البنى الحياتية في جميع أصعدتها وبالأخص منها الاجتماعية التي تشكل عند الكاتب مفترق الطرق ، ومنها يمكن الولوج في باقي الاتجاهات ، وربما يكون تأثير المحيط الاجتماعي لديه هو البدء من سلسلة الإسقاطات الأدبية لديه ، ومن خلال بيئته المصرية نجده يتلاحم معها ، ويصورها لنا في أكثر من نص ، بحيث يعري الواقع هناك ، وما آلت إليه ، غير أن أديبنا هنا نراه يتخذ موقفا موجها ، داعيا ، إلى فهم وإدارك مترتبات الحياة العصرية الجديدة ، لذلك نراه يتخذ مواقف تتسم بالصيرورة تجاه الحالات الاجتماعية داخل الوطن ، لتتعدى إلى مواقف مشابهة تجاه قضايا الشعوب الأخرى المتاخمة على أبواب الوطن الأم ،ونراه في مواقفه رافضا لكل مفاهيم الظلم ، والدكتاتورية ، وداعيا إلى أنماط ديمقراطية تتناسب والاجتماع المصري المواكب للتطور من جهة ، والمواطن المصري الغارق بين الكم الهائل من المقذوفات الاجتماعية المتنوعة ، للتنوع الحاصل في بنيته الاجتماعية أصلا ، ومن ثم لكونه يحاكي التطور الحاصل على جميع الأصعدة من جهة أخرى ،ومن هذا المنطق تأتي صرخات الكاتب صريحة وموجهة تجاه المواقف العامة والخاصة.
يا كلمة الحق
يا قايله للظلم ... لأ
خليكى حمى المغلوب
وخلى الظالم يرق
يا.. كلمة الحق
فبعيدا عن التشظي اللغوي ، نراه هنا يسخر كل مكوناته اللغوية من عامية وفصحى للمناداة والمناجاة من اجل ترسيخ رؤيته الطامحة في إحلال الحق ، الحق الذي نراه مجهضا في اغلب أصقاع الأرض ، ومن ضمن هذه الأصقاع بيئته ، و الانتماء القومي يدفعه إلى مناداتها لباقي الدول المنتمية إلى قوميته ،ولعل الصورة بارزة في النص هذا كونه لا يريدها من اجل طموح شخصي ، إنما يريدها من أجل المظلومين والذين دائما ما يكونون من الطبقة المعدومة ، والبيئة المصرية مليئة بهذا النموذج الطبقي لحد الآن ، ولأن كاتبنا يشعر بان الانتماء هو اصل ثابت يجب أن لا يستغني عنه الكاتب سواء أكان هذا الانتماء للطبقة المعدومة ، والتي وجدنا صرخته واستغاثته لها ومنها بالحق، نراه يتعدى الإطار الضيق للانتماء إلى نطاق أوسع في مشاركته باقي أبناء أمته الوجع والكفاح فنراه يؤثث ويؤرخ لمأساة غزة مثلا:
غزة تحترق
غزة تختنق
والعالم فى صمت
يا ضمير الإنسانية ..
يا دعاة السلام والحرية ..
إن ندع الذئب
يغتال الحرية ..
هنا تعلو الصرخة الإنسانية في الذات الداعية إلى لغة جديدة في الحياة ، لغة السلام التي غدت شعارا يرفع في جميع الأماكن ، وقلما نجد من يفسر الشعار واقعا حيا وملموسات ، وانما يبقى ضمن الإطار العام للاتفاقيات والأوراق الرسمية ، وتشجب الواقع المرير الذي يمر به هذه المدينة التي تحترق تحت نيران معادية لها ، وتحت أنظار الإنسانية الحديثة ، دون حراك وتدخل فتصير لغته هنا رصاص ينطلق في ضمير الأمة والإنسانية معاً.
لا تخلو كتابات إبراهيم خليل إبراهيم من التصنيفات الاجتماعية الأخرى ، كمن يشاهد مآسي الإنسان من خلال تجواله ، حيث ترسخ الصور في ذهنه ، وتشكل لديه مادة غنية يرسم من خلالها ملامح الحياة في البلدان والأمصار ، حتى دون الرجوع الى معجم لغوي معقد ، إنما يستخدم البسيط السهل السلس من اجل إيصال الفكرة بصورة مكثفة الى المتلقي دون عناء وها هو يرصد هذه المعاناة من خلال ومضة فلاشية قصيرة مكثفة:
أجوب المدن
والقرى
والنجوع
المح طيفك
فتسبقنى الدموع !
من خلال استقراء وجداني عاطفي اجتماعي يمكن تحليل الومضة على انها نقل للصور والمشاهد التي رأها الكاتب وإن بدت موجهة ، لكنها بلاشك تمثل الصورة الحقيقية لمشاهده ورؤاه ، ولعل الحساسية المفرطة التي يتسم بها الكاتب إبراهيم خليل إبراهيم ، نراه في نقل مشاعره يتخذ موقفا أشبه بالإنسان الخجول ، فيقتصد في البوح ، بعكس ما نراه منه في مواقفه الاجتماعية الدفاعية عن حقوق الآخرين ، أو حتى مواقفه تجاه القضايا العامة التي وجدناه يصرخ بوجه الإنسانية الحديثة ويصفها بالذئبية ، ولكن هنا نراه يستكين إلى زاوية قصية ومن خلالها يبوح بمشاعره ، باقتضاب دون إسهاب وكأنه يعلمنا بأن الذات إنما هي وعاء للعام أكثر ما هو وعاء للذات نفسه:
جاء العيد ..
وأنت عنى بعيد
فما كان للعيد .. عيد
فمن خلال هذه الومضة المكثفة نراه يؤثث للحالة الذاتية الوجدانية ، وحتى هذه الومضة لاتخلو من التأثير الاجتماعي عليه لِمَ يحمله العيد في نفوس الآخرين من مفاهيم ودلالات عديدة .
كاتبنا إبراهيم خليل إبراهيم من خلال رصده للمتغيرات التي طرأت على بلده وعلى باقي الأمصار التي رصدها في كتاباته لم يخرج عن الإطار الذاتي في تصوراته ، فكأن هذه التغيرات قد أثرت بشكل وآخر على شخصيته مما جعلته يستعين بكل ما يملك من وسائل من اجل الإبقاء على قيمها المثالية لديه ، وأن يحافظ بذلك على كونه الإنسان والمواطن الذى يعيش الحياة وفق معايير خاصة به ، تنطلق من مبادئ سامية استثنائية ، تجعل الأنا لديه مكملة للأنا الأخرى الخارجية ، وهو بذلك يشكل صورة نادرة من التمازج الاجتماعي الفريد في زمن بدت الفردية طاغية على جميع مرافق الحياة.
جوتيار تمر
أديب وناقد / العراق