لا يجادل أحد بأن الاقتصاد اليمني يعاني من مشاكل خطيرة و لكن لسوء الحظ لا يوجد اتفاق حول أهم هذه المشاكل وبالتالي حول المعالجات المناسبة لها. فالبعض يعزو هذه المشاكل الى الأزمة المالية و الإرهاب و الاضطرابات السياسية. في حين ان البعض الآخر يعزو ذلك الى السياسات الخاطئة التي تتبعها الحكومة. إنني أعتقد بأن كلا وجهتي النظر يخالفهما الصواب.
ان التوصيف السليم لأهم المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد اليمني قد يساعد الفريقين على اكتشاف أخطائهما وبالتالي البحث عن التشخيص السليم والعلاج المناسب في أي حوار بينهما وبالتالي فقد يساعدهما ذلك على الاتفاق حول المعالجات الناجعة. فمن وجهة نظري ان أهم مشكلة يعاني منها الاقتصاد اليمني هي تدني نصيب الفرد من الدخل الحقيقي وان أفضل علاج لذلك هو تنمية الموارد البشرية.
يقصد بتنمية الموارد البشرية الحصول على أفضل وسائل التعليم وخصوصاً التعليم الأساسي واقتناء تقنيات التدريب وخصوصاً التدريب الفني والمهني وانسب عمليات التعلم خلال العمل. وقبل ذلك البحث عن المواهب وصقلها وتمكينها من استخدام مواهبها أي وضع الرجل المناسب في المكان المناسب. وبعد ذلك ربط التوظيف و الترقيات بالانجاز والابتكار. ومع ذلك إعطاء العاملين ما يستحقون من الأجور و المرتبات والمكافئات.
ان ذلك كفيل بتحقيق مستقبل أفضل لليمن. فإذا ما تم تحليل المشاكل الاقتصادية التي واجهت و لا زالت تواجه اليمن او على الأقل أهمها و أخطرها فإننا سنجد ان إهمال تنمية الموارد البشرية كان من أهم أسبابها ان لم يكن السبب الوحيد.
فلا شك ان أهم مشكلة يعاني منها الاقتصاد اليمني هي الانخفاض المستمر في متوسط نصيب الفرد من الدخل الحقيقي. فالبيانات المتوافرة تشير الى ان متوسط نصيب الفرد من الدخل الاسمي في الوقت الحاضر هو في حدود 700 دولار. ان ذلك يعني ان المتوسط الحقيقي لنصيب الفرد من الدخل في الوقت الحاضر لا يزيد عن 200 دولار بأسعار عام 1990 و لا يزيد عن 300 دولار بأسعار عام 2000. و لا شك ان ذلك يشير الى حدوث انخفاض الكبير في متوسط نصيب الفرد من الدخل الحقيقي مقارنة بما كان عليه في عام 1990 و الذي بلغ حوالي 800 دولار و مقارنة بمتوسط نصيب الفرد من الدخل الحقيقي في عام 2000 و الذي بلغ 600 دولار.
ما من شك بان تدني نصيب الفرد من الدخل الحقيقي يعد مشكلة اقتصادية واجتماعية وسياسية خطيرة. فقد كان من المفترض ان يتزايد ذلك عبر الزمن وان لا يتناقص. ونتيجة لذلك فقد ارتفعت معدلات البطالة والتضخم والإعالة وسوء التغذية وخصوصاً بين الأطفال وانتشرت الأمراض. ولقد ترتب على ذلك انخفاض معدلات الاستهلاك والاستثمار. ولقد تسبب ذلك في انتشار ظاهرة الفقر وتفشي العديد من الاختلالات الاجتماعية وتهديد كبير وخطير للاستقرار السياسي.
ان ذلك يحتم على جميع الفرقاء السياسيين إعطاء هذه المشاكل أهمية وأولوية على الموضوعات الاخرى مثل الانتخابات والإصلاحات الدستورية والقانونية. ففي ظل السماح للمشاكل الاقتصادية في التفاقم فانه سيكون لا فائدة من أي إصلاح دستوري ولا من أي انتخابات حتى لو كانت حرة و نزيهة.
لقد ترتب على إهمال تنمية الموارد البشرية في اليمن خلال الفترة الماضية حدوث تشوه كبير و خطير لهيكلية الاقتصاد اليمني. و نتيجة لذلك فان الاقتصاد اليمني في الوقت الحاضر يعتمد فقط على قطاعين رئيسين هما قطاع الخدمات وقطاع النفط. اذ يمثل قطاع الخدمات اكثر من 50% من الاقتصاد اليمني.وتتوزع مساهمات هذا القطاع على مكوناته التالية: يساهم مكون التجارة والمطاعم بحوالي 15%، ومكون المواصلات والاتصالات بحوالي 12%، ومكون البنوك بحوالي 2%، ومكون خدمات الحكومية بحوالي 11% أما قطاع الإنشاءات فيساهم بحوالي 8% من الناتج المحلي الإجمالي. ويساهم قطاع النفط بحوالي 30% من الاقتصاد اليمني.ان ذلك يدل بدون شك على هشاشة الأسس التي يقوم عليه الاقتصاد اليمني. ويتضح ذلك من حقيقة ان جسم الاقتصاد اليمني يعتمد بشكل شبه كلي على قطاع النفط. ولذلك فإن أي انخفاض في قطاع النفط سيسبب و بشكل فوري ومضاعف على قطاع الخدمات وبالتالي على الاقتصاد اليمني بمجمله.
والأكثر أهمية هو ان القطاع الأساسي في الاقتصاد اليمني أي قطاع النفط قد أصيب خلال الفترة الماضية بالجمود الشديد. فقد ترتب على ذلك تدني معدل نمو الاقتصاد اليمني الحقيقي. فقد بلغ متوسط معدل النمو الاقتصادي خلال السنوات الماضية حوالي 3.5%، و في نفس الوقت فإن معدل النمو السكاني يصل الى حوالي 3.4%.
لقد كان من المفترض ان يعمل استغلال موارد النفط على المساعدة في تنمية الموارد البشرية. ولكن وبدلاً من ذلك فقد أدى فقط الى استيعاب فائض القوى العاملة من قطاع الزراعة من خلال توسع قطاع الخدمات (الموظفين الحكوميين, منتسبي المؤسسات العسكرية والامنية، خدمات الفنادق والمطاعم، عمال البناء والتشييد).
فمع جمود قطاع النفط لم يعد قطاع الخدمات قادراً على استيعاب المزيد من فائض القوى العاملة. ولقد ترتب على ذلك زيادة معدل البطالة و انخفاض الأجور الحقيقية و زيادة معدل الإعالة. ولان هذا الفائض من القوى العاملة ليس مدرباً فلم يتم استيعابه لا في الداخل و لا في الخارج.
و الأكثر أهمية من ذلك انه من المتوقع ان تتفاقم هذه المشاكل في المستقبل القريب. اذ انه من المتوقع ان ينخفض إنتاج النفط خلال الفترة القادمة بما لا يقل عن 12% سنوياً. و في هذه الحالة فان ذلك سيترتب عليه تخفيض في معدل النمو الاقتصادي المباشر بما يقرب من 2%، وفي حال انخفاض أسعار النفط الدولية عن 60 دولاراً للبرميل فإن ذلك سيؤدي بشكل غير مباشر إلى تخفيض معدل النمو الاقتصادي بما لا يقل عن 1%. ان ذلك يعني استمرار انخفاض معدل نصيب الفرد من الدخل القومي.
من الواضح أن معدل نمو اقتصادي بهذا الحجم لن يكون قادراً على استيعاب نمو العمالة، و الذي يصل إلى حوالي 4% سنوياً، و إذا كانت نسبة البطالة الحالية تزيد عن 20%، و نسبة الزيادة في الوظائف يقل عن 1% سنوياً، فإنه من المتوقع ان تزداد نسبة البطالة خلال السنوات القادمة بشكل كبير، ولا شك أنّ نظام سعر معدل النمو الاقتصادي عن مستوياته الحالية سيضاعف من هذه الآثار.
ومما يزيد الطين بلة أن الاقتصاد اليمني ايضاً معرض للانكماش لأسباب أخرى. اذ انه من المتوقع حدوث انخفاض كبير في تحويلات المغتربين. وقد يزداد هذه الانكماش حدة في انخفاض او تعثر عملية السحب من المساعدات والقروض المقدمة من الدول و المنظمات المانحة.
إن تدني معدل النمو الاقتصادي الحالي، و توقع تدنيه بشكل كبير في المستقبل يعني أن ظاهرة الفقر ستتسع، فإذا كانت هذه النسبة في الوقت الحاضر تزيد عن 40%، فإنّ اتساعها سينذر بكوارث اجتماعية، فهذه النسبة من الفقر قد وضعت اليمن في الرقم (155) من قائمة الدولة التي تضم حوالي 177 دولة.
ولمنع تحقق ذلك فإنه لا بد من العمل على كسر هذه الحلقة المفرغة التي يدور فيها الاقتصاد اليمني. ومن اجل ذلك فانه لا بد من تطوير قطاعات اقتصادية جديدة تعمل على التعويض عن الآثار المترتبة عن الانخفاض المتوقع في إنتاج النفط وكذلك العمل على استيعاب فائض القوى العاملة في الاقتصاد اليمني. ومن الواضح انه لا يمكن تحقيق ذلك إلا من تأهيل وتنمية الموارد البشرية وإيلاء هذا الجانب أولوية قصوى.
ولحسن حظ اليمن انه لا زال لديه إمكانية كبيرة لتحقيق ذلك. فلديه من الموارد المحلية ما يمكنه من تحقيق ذلك وكذلك فان لديه مجالاً إقليمياً واعداً.
فعلى الرغم من كون اليمن فقيراً نسبياً في الموارد الطبيعية مثل الماء و الأراضي الصالحة للزراعة و الموارد النفطية فان لديه ثروة بشرية كبيرة وموقعاً ممتازاً ومناخاً فريداً وتاريخاً غنياً و قدراً معقولاً من الموارد المعدنية الاخرى.
وعلى هذا الأساس فإن أهم ميزة نسبية لليمن هي موارده البشرية. ومن ثم فان تنويع مصادر الدخل في اليمن لا بد وان يبدأ وينتهي في إطار ما يتوافر لليمن من موارد بشرية.
ولذلك فانه ينبغي ان تكون تنمية الموارد البشرية اليمنية هي هم كل اليمنيين من سلطة ومعارضة خلال الخمس السنوات القادمة. ان ذلك يستحق من الجميع ان يضحوا من اجله.
ان ذلك يستحق ان تؤجل من اجله الانتخابات و ليس لأي سبب آخر.ان ذلك يستحق ان نتوقف من اجله عن المناكفات السياسية. ان ذلك يستحق ان نقلل من اجله حدة التنافس السياسي. ان ذلك يستحق ان نوقف من اجله الخصومات السياسية.
ان ذلك يستحق ان تجند له كل منابر الإعلام العامة والحزبية والخاصة. ان ذلك يستحق ان تنشغل من اجله المساجد بدلاً من انشغالها بقضايا لا تسمن ولا تغني من جوع. ان ذلك يستحق ان يكون الموضوع الأول في نقاشات جلسات القات او حتى الجلسات الاجتماعية و العائلية.
ان ذلك يستحق ان يكون الموضوع الأساسي في كل فعالياتنا الوطنية والدينية. ان ذلك يستحق ان تدبج به خطاباتنا الوطنية. ان ذلك يستحق ان نضع لمشاريعه حجر الأساس و ان نحتفي في افتتاح و تشغيل مشاريعه.
ان ذلك يستحق ان تعقد له المؤتمرات تلو المؤتمرات وورش العمل تلو ورش العمل و حلقات البحث تلو حلقات البحث. ان ذلك يستحق ان تقدم من اجل التميز فيه الجوائز كل الجوائز. ان ذلك يستحق ان يكون الجادون والمتميزون فيه هم الأبطال الحقيقيون.ان ذلك يستحق ان تظل الحكومة من اجله في انعقاد دائم. ان ذلك يستحق ان يكون له الأولوية المطلقة في الموازنات العامة المحلية و المركزية. ان ذلك يستحق ان يكون هو البند الأول في أي اتفاقيات نعقدها مع الدول الصديقة و الشقيقة.
ان ذلك يستحق ان يستحوذ على برامجنا الحزبية. ان ذلك يستحق ان يستحوذ على كل طاقاتنا وجهدنا. فهل نحن فاعلون. ألا هل بلغت! اللهم فاشهد!

المصدر:
صحيفة 26سبتمبر
البروفيسور سيف العسلي