بهذا الحديث والذي يعد علمًا من أعلام النبوة، يوصف لنا النبي صلى الله عليه وسلم وبدقة متناهية واقعنا المرير الذي تحياه أمة الإسلام في هذا الزمان، فعلى الصعيد الخارجي ها هي أمم الكفر من اليهود والصليبيين قد تداعت علينا، كل يريد أكل نصيبه من قصعة الإسلام، والتي أصبحت حلاً مستباحًا لكل من هب ودب من أعداء الله، ففي الوقت الذي ما زال فيه جرح الأمة يسيل في القدس الشريف، اذ بها تبتلي بجراح أخرى لا تقل عنها نزفا في الشيشان، ثم في أفغانستان وأخيرًا في العراق والبقية تأتي.
وعلى الصعيد الداخلي: فالمأساة أقوى وأشد، فقد انحرفت جماهير الأمة عن شرع الله تعالى، انتشر الفساد وخربت الأخلاق، وعرفت الشعوب في حب الشهوات والملذات، وعطلت أحكام الله تعالى، دب الوهن في قلوب المسلمين، وتخلفوا عن ركب الحضارة والتقدم، انتشر الجهل والتخلف أصبحنا في ذيل الأمم، نتقوت على فتات الحضارة الغربية، بعد أن كنا أساتذة النهضة والمدنية، ساد فينا نموذج العاجز الكسلان بعد أن كنا فرسان الإنجاز والفاعلية، ضاع منا زمام القيادة بعد أن كنا قد:
ملكنا هذه الدنيا قرونا
وأخضعها جدود خالدونا
وسطرنا صحائف من ضيا
فما نسي الزمان ولا نسينا
ولكن:
وما فتئ الزمان يدور حتى
مضى بالمجد قوم آخرونا
وأصبح لا يرى في الركب قومي
وقد عاشوا أئمته سنينا
وآلمني وآلم كل حر
سؤال الدهر .. أين المسلمونا؟
ويقف المؤمن الحر أمام هذا الواقع متفكرًا أين المخرج؟
ما السبيل إلى عودة هذه الأمة لتسلم لواء السيادة الذي أوجب الله عليها حمله {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
{كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
ما الطريق إلى تبوأ أمتنا لهذه المكانة العلية؟ واعتلائها لذرى المجد والسؤدد والحضارة والتقدم، والعزة والتمكين، والجواب أن هذا الطريق الشاق يبدأ منك أنت أخي المؤمن، بهذا أخبرنا الله تعالى في كتابه: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
إن الطريق إلى بناء الأمة يبدأ من بناء الفرد المؤمن، ولكنه البناء الكامل الشامل وحده الذي يمكن أن يحدث النهضة، إننا نريد نموذج المؤمن الفعال لا المؤمن العاجز السلبي ذلك أن مهمة النهوض بهذه الأمة من كبوتها الحالية مهمة شاقة عسيرة لا يكفي للقيام بها عاجز ضعيف الشخصية، ناقص القدرات والمهارات حتى لو كان على قدر كبير من الصلاح والتقوى، إننا نخطئ كثيرًا حينما لا نفصل بين منزلة الإنسان عند ربه والتي معيارها التقوى والطاعة، وبين صلاحية هذا الإنسان لتولي زمام القيادة، ومهمة التغيير، وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول في أبي ذر رضي الله عنه: 'ما أقلت الغبراء أصدق لهجة من أبي ذر'.
ومع ذلك يمنعه صلى الله عليه وسلم من تولي القيادة فقال له: 'يا أبا ذر إني أراك ضعيفًا فلا تولين إمرة اثنين'. وما ضر ذلك أبا ذر ـ رضي الله عنه ـ ولا نقص من قدره شيئًا بعد أن انتصب أستاذًا في الزهد، وتربية المسلمين بالقدوة واللسان الدعوى الناطق، ولكن لكل مهمة مقوماتها، ولكل دور رجاله، وكل ميسر لما خلق له.
ومجتمعاتنا اليوم تنوء بأثقال السلبية والتخلف تترك آثارها ولا شك على كل مؤمن، ولذلك لا بد أن نعلم أن المؤمن التقي الصالح الذي يفتقد الشخصية القوية المؤثرة، ذات المهارات والقدرات قد لا يستطيع أن ينهض بحمل الأمانة، والقيام بالمسئولية، من أجل ذلك فيجب أن نعمل في هذه الأيام على بناء المؤمن القوي الفعال الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: 'المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف'.
وفي طريق البناء المنشود نحتاج إلى منهج واضح لبناء هذا النموذج الفذ ولا بد أن يقوم هذا المنهج على ركيزتين أساسيتين:
1ـ بناء الإيمان.
2ـ بناء القوة في الشخصية عبر إتقان فنون التأثير والفاعلية.
ولقد استفاضت المكتبة الإسلامية في بيان الركيزة الأولى وهي الإيمان، أما الركيزة الثانية فهي التي فيها الندرة، نحاول فيها أن نضع منهاجًا عمليًا لبناء الشخصية الفعالة التي تملك من فنون التأثير ومقومات الإنجاز والريادة ما يجعلها أهلاً لإحداث النهضة الشاملة في أمة الإسلام، وذلك عبر استخدام ما توصل إليه علماء الإدارة والتنمية البشرية في الحضارة الغربية بعد وزنه بميزان الشريعة، والتعامل معه بروح الانتقاء الاستعلائي بدلا عن التبعية العمياء والانبهار الذليل، فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، والعلم التجريبي ميراث بين الأمم، وما قامت الحضارة الغربية إلا بعد أن اقتبست أسس النهضة من جامعات المسلمين في الأندلس من خلال فرانسيس بيكون وغيره من مؤسسي النهضة الغربية، وعلى ذلك فعلينا نحن أن نعيد الكرة ونأخذ مما عندهم ما يفيدنا وينفعنا ولكن من خلفيتنا العقدية، وموازيننا الشرعية، فنأخذ عن علم، ونستفيد بوعي، ونضيف بحكمة، وما أكثر ما نستطيع إضافته من الإسلام إلى فنون الفاعلية، وكما يقول الشيخ الغزالي رحمه الله: ' وللفطرة في بلاد الإسلام كتاب يتلى ودروس تلقى وشعوب هاجعة، ولها في بلاد أخرى رجال ينقبون عن هداياتها كما ينقب المعدنون عن الذهب في أعماق الصحارى، فإذا أظفروا بشيء منه أغلوا قدره واستفادوا منه، وصدق من قال: الناس رجلان: رجل نام في النور ، ورجل استيقظ في الظلام' ونتاج الفطرة الإنسانية في البلاد المحرومة من أشعة القرآن الكريم نتاج واسع الدائرة متفاوت القيمة، وليس يصعب على من له أثارة من علم بالإسلام الحنيف أن يرى المشابهة بين الدلالة الصامتة هناك، والدلالة الناطقة هنا، أو بين العنوان المفصول عن موضوعه هنا، والموضوع الذي فقد عنوانه هناك، إن الانحطاط الفكري في الأقطار المحسوبة على الإسلام يثير اللوعة، واليقظة العقلية في الأقطار الأخرى تثير الدهشة، ولا يحملنا على العزاء إلا أن هذه اليقظة صدى الفطرة التي جاء الإسلام يعلى شأنها، أما تخلف المسلمين فسببه الأول تنكرهم لهذه الفطرة السليمة وتخاذلهم عن السير معها'.
ومن خلال استقراء أساسيات علوم الإدارة والتنمية البشرية، يمكننا أن نتبين الملامح الآتية والتي تمثل الأركان الأساسية في منهج بناء المؤمن الفعال:
الركن الأول: الهدف.
الركن الثاني: التخطيط.
الركن الثالث: الإيجابية.
الركن الرابع: الجماعية.
الركن الخامس: اكتساب المهارات والتي تشمل:
1ـ مهارات إدارة الذات: مثل إدارة الوقت، اتخاذ القرار.
2ـ مهارات في بناء العلاقات والتأثير في الآخرين.
3ـ مهارات في القيادة.
4ـ مهارات في إدارة العقل مثل: التفكير، الذكاء، التركيز، الإبداع..
5ـ مهارات في إدارة العمل مثل: التفويض، التفاوض، إدارة الاجتماعات ..
6ـ قدرات نفسية مثل: الثقة بالنفس، الإدارة القوية...
لمن هذه السلسلة؟
إن هذه السلسلة إنما نوجهها لكل من آمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًا ورسولاً، رجالاً ونساءً، صغارًا وكبارًا، نهيب من خلالها بكل مؤمن أن يتقدم ليقوم بدوره في إحداث نهضة هذه الأمة من خلال التفوق والنبوغ في تخصصه، إننا نخاطب هذا الكلام:
1ـ الدعاة إلى الله تعالى: ونضم صوتنا هنا إلى صوت الشيخ المربي الفاضل محمد الدويش ـ حفظه الله ـ وهو يشرح لنا مفهوم التكامل في التربية فيقول: 'إن من يتأمل في هذا المفهوم يرى أنه يكاد ينحصر في جانب التدين في شخصية المرء وما يتصل بها ويتجاهل الجوانب الأخرى، ومن هنا فالحديث عن بناء القدرات العقلية ومهارات التفكير لدى الفرد والمهارات الاجتماعية والصحة النفسية .. الخ الحديث عن هذه الجوانب في التربية الدعوية لا يزال نادرًا فضلاً عن الاعتناء بذلك في التطبيق والممارسة'.
ومن هنا فنحن ندعو كل داعية إلى أن يستكمل بناء شخصيته معنا من خلال هذا المنهج ليكون أقدر على القيام بحمل أمانة الدعوة وأداء تكاليف الرسالة.
2ـ كل مؤمن صاحب تخصص مهني أو علمي، سواء كان طالبًا، معلمًا، طبيبًا، مهندسًا، عاملاً، رجل أعمال، حتى ولو كان مقصرًا في حق ربه، ندعوه أن يجبر قصوره ويعيد بناء إيمانه وفاعليته معًا، ونقول له أنت أول من نخاطب بهذه السلسلة ونناديه مع الشاعر :
يا سليل المجد ماذا غيرك
أنت للمجد وهذا المجد لك
كيف تغفو يا فتى التوحيد هل
هيأ الأعداء في الدرب الشرك؟
يا سليل المجد هلا قلت لي
أي ذنب بالمخازي ضيعك؟
أيها السادر في لذاته
هل ترى عيش المعاصي أعجبك؟
أمتي قد علقت فيك المنى
فاستفق وانهض وغادر مضجعك
عد إلى الرحمن في طهر تجد
مركب النصر إلى العليا معك
وترى الأبطال آساد الثرى
تشتهي يوم الفدا أن تتبعك
وأخيرًا فهذه وصيتي الشرعية السنية لكل مؤمن ومؤمنة
أوصيكم أن تعودوا للرحمن وأن تصنعوا النهضة