تحتاج مصر بإلحاح إلي ثقافة الاتقان كسبيل للتقدم. والإتقان المطلوب هو في الأداء سواء كان أداء الفرد أو الفريق أو المؤسسة. إن السبيل لتحقيق التقدم والنمو الاقتصادي يمر بإتقان الأداء. والإتقان لن يجيء من فراغ بل يجيء من جهد إداري وفني متواصل لوضع معايير الأداء ونظم الجودة وتطويرها وإرساء قيم التقدم في نفوس العاملين. والتقدم هو عملية عمدية مخططة لاحداث تغيير إيجابي قابل للقياس في مجالات متعددة متكاملة. تجيء عملية التقدم من خلال التغيير الاستراتيجي. لكن ليس كل تغيير يؤدي للتقدم. وحتي يتحقق التقدم يتعين أن يستند إلي تخطيط استراتيجي عماده تفكير يقوم علي المعرفة.
ولن يجيء التقدم من فراغ أو وليد صدفة. بل يجيء من روافد متعددة أهمها التعليم والبحث العلمي والإدارة الواعية. هناك قيم للتقدم يتعين علي الادارة أن تزرعها وتنميها في نفوس المديرين والعاملين بما يعزز ويثري قيم واتجاهات وسلوكيات العاملين ويساعد علي خلق وتعزيز نقاط للقوة. وأهم هذه القيم: الاتقان. قبول النقد, نقد الذات. الوقت, روح الفريق, التعامل مع الموارد البشرية كرأس مال فكري. التفويض والتمكين كسبيل لاكتشاف العناصر الواعدة. المقارنة المرجعية. والتفكير الإستراتيجي لاستباق المتغير بدلا من الادارة برد الفعل. وهذا ليس ببعيد عما أتي به القرآن والسنة بل عما أتت به الكتب السماوية عامة. تأتي قيم التقدم من ثقافة الفرد ومن ثم ثقافة الأمة. وتأتي ثقافة الفرد من مصادر متكاملة أهمها الأسرة والصحبة والدين ووسائل الإعلام ومنظمات التعليم والكتب والقيم الاجتماعية. وثقافة الأمة هي محصلة ثقافة الأفراد. فإذا نجحت الأسرة ووسائل الاعلام ومنظمات التعليم في غرس ثقافة الإتقان في النشء. ثم سعي الرؤساء في مواقع العمل إلي غرس ثقافة إتقان العمل من خلال معايير الجودة. والثواب والعقاب, جنبا الي جنب مع ثقافة الابتكار التي تنسجم مع الحديث الشريف: من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر, فقد قطعنا شوطا طيبا في بلوغ الإتقان.
وبالاضافة لقيم التقدم والادارة الواعية لايمكن بلوغ الإتقان في المجال الصناعي والزراعي والخدمي بدون بحث علمي عصري متقدم يبتكر ويطور, ويتكامل مع مجالات النشاط الاقتصادي.
وهذه مهمة الجامعات ومراكز البحث العلمي. وهي مطالبة بتفعيل علاقة التزاوج والتكامل مع الوزارات والهيئات والشركات الصناعية والخدمية. وهذا هو الحال في كافة الدول المتقدمة في شرق آسيا وفي الغرب. إن هذا التزاوج المثمر ينجب عديدا من حلول لمشكلات فنية وإدارية, وابتكارات تترجم لسلع ذات جودة, ومنتجات مطورة تشق طريقها للأسواق المحلية والخارجية. ومن ثم يسهم هذا التقدم في تعزيز تنافسية الاقتصاد القومي.
وإلي جانب قيم التقدم يحتاج بلوغ الإتقان إلي معايير لقياس الجودة. إن مالايمكن قياسه لايمكن إدارته.. فلا إتقان بدون جودة, سواء كنا في مجال الصناعة أو الزراعة أو التعليم أو النقل أو الصحة أو غير ذلك من مجالات الأداء والنشاط الاقتصادي. وهذه المعايير تحتاج لأن تكون في حضن إدارة واعية تصممها وتطورها وتتابع لتقيس مدي تحققها. إن وظائف الادارة المعاصرة تتضمن وظيفة رئيسة للبحوث والتطور. فالبحث والتطوير كسبيل للتقدم الاداري والاقتصادي ليس منوطا فقط بمراكز البحوث والجامعات. بل أيضا بالوزارات والهيئات والشركات. حيث يجب أن يتضمن الهيكل التنظيمي لأي مؤسسة إدارة للبحوث والتطوير يعمل بها باحثون يحسن إعدادهم للعمل البحثي وليس مجرد موظفين. علي أن تجهز هذه الادارات بمكتبات ونظم متقدمة لتكنولوجيا المعلومات. ومن ناحية أخري يتعين أن تتضمن اختصاصات إدارة البحوث والتطوير تصميم معايير الجودة وتطويرها تناسبا مع كل من: توقعات العملاء في الأسواق المستهدفة, ومعايير الجودة العالمية التي تضعها المؤسسات العالمية العاملة في ذات النشاط.
إن الجودة القائمة علي التعليم السليم والبحث العلمي والادارة الواعية والتكنولوجيا الحديثة وثقافة الإتقان هي عصب التقدم الاقتصادي. ان زيادة الصادرات كإحدي أهم الأولويات علي أجندة المخطط السياسي والاقتصادي المصري لن تكون إلا بالإتقان الذي يقود الي الجودة والسعر التنافسي. فالموارد من العملات الصعبة باتت تأتي من مصادر شديدة الحساسية للمتغيرات العالمية والاقليمية سياسيا وأمنيا, لاسيما الدخل من قناة السويس ومن البترول والسياحة. كما ان تحويلات العاملين المصريين بالخارج تتناقص تدريجيا لأسباب متعددة أهمها تقلب أسعار البترول. ومنافسة العمالة الآسيوية الماهرة ومن ثم يتعين أن نشدد علي أن الإتقان كسبيل للتقدم في كل من الصناعة والزراعة وتصنيع وتصدير الحاصلات الزراعية. والخدمات هو مصدر الثروة الحقيقي.
وفي تحقيق أهداف تعزيز التنافسية وتنشيط الصادرات, يبدو من الضروري بلوغ الإتقان وتحسين الجودة لمغازلة المستهلك المصري والعالمي. فلايمكن أن نطالب المستهلك المصري باسم الوطنية بشراء المنتج المصري, بينما يعلم هو ونعلم نحن أن بعض المنتجات متواضعة في جودتها. وقد يكون السعر أعلي من مثيله المستورد أو المهرب, وحتي إن نجح الاعلام في حمل المستهلك المحلي علي شراء المنتج المحلي فقد يكون هذا النجاح قصير الأمد. فلن يستمر المواطن طويلا في تحمل منتج محلي سيئ, بينما يغازله المهربون والمستوردون بمنتجات أجود وأرخص إن الحرب التنافسية الشعواء قادمة رياحها من الخارج. ولن نستطيع أن نؤمن احتياجاتنا بدون استيراد إلا بتعزيز الجودة وخفض التكلفة كأهم سلاحين تنافسيين.
فاذا تحلي مديرونا وعاملونا بقيم التقدم وآمنت القيادات بأهمية البحوث والتطوير في تحسين الجودة وخفض التكلفة. واذا تحولوا من اعتبارها كماليات إلي كونها ضرورات لتعزيز التنافسية, فان هذا يسهم ـ بلاشك ـ في نجاح واستمرارية مؤسساتنا, ومن ثم في تنافسية الاقتصاد المصري. وأخيرا لاننسي أن الإتقان والتقدم يتطلبان أيضا بيئة تشريعية وادارية مواتية تشجع وتدعم الاستثمار في الصناعة والزراعة والخدمات.
بقلم:د.أحمد سيد مصطفي