قرأت نصيحة لأحد فلاسفة اليابان يقول فيها "ما أروع أن تكون غائبا حاضرا على أن تكون حاضرا غائبا"، والمتأمل في هذه الجملة البسيطة يجدها تعبر عن أهم وأخطر الآفات التي تنتشر في مجتمعاتنا العربية، فالجميع حاضرون غائبون، الكل يسعى لأن يثبت حضورا وهميا، يريد ان يظهر في موقف القائد والمرشد، بالقول حتما لا بالفعل، فجميعنا أصبحنا قادة وان لم نكن، كلنا يبحث عن القيادة وكأنها المبتغى ولا أحد يسأل في ما إذا تحولنا جميعنا الى قادة ومدراء فمن سيكون المرؤوسين ومن هم المنفذين.. الطريق اصبحت مغلقة والحلقة باتت مفرغة الجميع حضور والجميع في نفس الوقت غائبون .. اتذكر في مرة ذهبت الى احد الشركات وهي بالمناسبة احدى شركات القطاع الخاص طالبا خدمة ما، وقصدت غرفة الموظفين المنوط بهم تقديم هذه الخدمة لي واذا بهذه الغرفة قرابة العشرة موظفين، ولم يقدم احدهم على ان يسألني من انا؟ ولماذا انا هنا؟ وماذا اريد؟، الجميع الحضور؟ نعم، ولكنهم جميعا في نفس الوقت غائبون والناظر بعين الدقة لحال هؤلاء لا يجدهم يقومون بشيء ذا قيمة، فأحدهم يتحدث في الهاتف والأخر يقرأ الجريدة والثاني يلعب على جهاز الحاسوب، وأخر يهيم فكرا لا أعلم تحديدا في من.. ايادي عاملة تحصل على راتبهم وتثور حينما يتأخر الراتب وتعتصم حينما يحرمون من المكافئات .. ويتظاهرون اذا لم يحصلوا على زيادة سنوية، الجميع حاضرا بالجسد ولكنه غائبا بالقلب والعقل.
الجميع يبحث عن حقه ولا يبحث عن واجباته، أما وان بحث عنها اهملها، وان لم يهملها أساء فيها بدرجة تجعل اهماله لها أهون وأخف ضررا، الجميع مستاء والجميع يشتكي والكل يلوم الدنيا او الظروف او الادارة او الحكومة ولا يفكر ابدا في ان يضم نفسه لكل هؤلاء، ولا يفكر ولو للحظة هل هو في الأساس يستحق ظروفا أفضل؟ او ادارة اكثر مثالية؟ او حكومة اكثر اهتماما؟، انا اكاد اجزم ان اذا خلا كل واحد منا الى نفسه، وحاكمها بمنتهى الحيادية والتجرد، سيجد انه السبب الأكبر في ما آلت اليه حياته وليست الظروف او الادارة او الحكومة.
هل تعلمون ماذا قال سقراط لأصحابه حينما حاولوا أن يساعدوه على الهرب لإنقاذه من حكم الموت الذي صدر ضده؟، لقد رفض بشكل قاطع الهروب ولما سألوه لماذا لا ينجي نفسه من هذا المصير المحتوم، اجاب؛ بأن الموت أهون عليه من أن يخرج على قوانين مدينته، تلك المدينة التي عاش يعلم تلامذته أهمية احترام القانون فيها. لقد فضل سقراط ان يغيب وان يبقى حاضرا على ان يظل حاضرا ولكنه قطعا سيكون غائبا.

بقلم: أحمد نبيل فرحات