يمكننا أن ندلل في عجالة على مشروعية العمل الجماعي بهذه الأدلة:
أ- الدين يأمرنا بالاتحاد والتعاون على البر والتقوى، وهذا من أخصّ أعمال البر والتقوى وأهمها وأشدها خطرًا.. (وتعاونوا على البرِّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان).
ب- القرآن يطالبنا فيقول: (ولتكن منكم أمَّةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).
والأمة ليست مجموعةَ أفرادٍ مُتناثرين ولا مجرَّد جماعة.
ج- القاعدة الشرعية تقرر أن: "ما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب"، وإقامة مجتمعٍ إسلاميٍّ تحكمه عقيدة الإسلام وشريعته أمرٌ واجب، ولا سبيل إلى تحقيق هذا الواجب إلا بجماعة وأمة.
د- الواقع يُرينا أن المرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، وأنَّ جهود الأفراد مهما توافر لها من إخلاص، لا تستطيع أن تُؤثر التأثير المطلوب لتحقيق الهدف المنشود؛ لأنها ضعيفة الطاقة، محدودة المدى، وقتية التأثير.
هـ- إذا نظرنا إلى القوى المُناوئة للإسلام -على اختلاف أسمائها وأهدافها ووسائلها- وجدناهم يعملون في صورة جماعاتٍ وتكتُّلات وأحزاب وجبهات، ولا يقبل -في ميزان الشرع ولا العقل- أن يُقابل الجهد الجماعي المنظم، بجهودٍ فرديَّةٍ مُبعثرة، وإنما يُقابل التكتل بتكتُّل مثله أو أقوى منه، ويُقابل التنظيم بالتنظيم، كما قال أبو بكر لخالد بن الوليد رضي الله عنهما: "حاربهم بمثل ما يُحاربونك به.. السيف بالسيف، والرمح بالرمح، والنَّبْل بالنبل".
وإلى هذا يشير قوله تعالى: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعضٍ إلا تفعلوه تكن فتنةٌ في الأرض وفسادٌ كبيرٌ).
ولابد للعمل الإسلامي المثمر من التنظيم، فلا يكفي أن يكون جماعيًّا حتى يكون مُنظمًا، بل لا يكون جماعيًّا حقيقة إلا بتنظيم؛ والتنظيم يعني وجود قيادة مسئولة، وجندية مطيعة، ونظام أساسي ينظم العلاقات بين القيادة والجنود، ويحدد المسئوليات والواجبات، ويبين الأهداف والوسائل، وجميع ما تحتاج إليه أية جماعة في إدارة أجهزتها.
وليس وجوب العمل الجماعي أمرًا محدثًا لم يتحدَّث فيه سوى المعاصرون، فهذا الإمام ابن تيمية رحمه الله يكتب من سجن الإسكندرية رسالةً إلى جماعته التي كان زعيمًا ومربيًّا لها يقول فيها:
"والذي أعرف به الجماعة أحسن الله إليهم في الدنيا والآخرة وأتم عليهم نعمته الظاهرة والباطنة، فإني -والله العظيم الذي لا إله إلا هو- في نعم من الله ما رأيت مثلها قط في عمري كله، وقد فتح الله سبحانه وتعالى من أبواب فضله ونعمته وخزائن جوده ورحمته ما لم يكن بالبال ولا يدور في الخيال".
وبعد أن يسترسل الشيخ رحمه الله في رسالة من أعظم رسائله في بيان عذوبة البلاء في سبيل الله وما فيه من الخير لعباده يوجه إليهم رحمه الله أوامره -على حد تعبيره-: "والذي آمر به كل شخص منهم أن يتقي الله ويعمل لله مستعينًا بالله مجاهدًا في سبيل الله، ويقصد بذلك أن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله".
وكتب شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة أخرى من السجن أيضًا يعتذر فيها لبعض أفراد جماعته من أنه قد يستخدم "الخشونة" والشدة مع بعضهم أحيانًا من أجل تقويمه "وتنعيمه" -على حد تعبيره-، ويبين منهجه رضي الله عنه في التربية والقيادة، ومثل هذه الرسالة لا تصدر إلا من قائدٍ ومرشدٍ لأتباعه، ومنها قوله:
"وتعلمون أيضًا أن ما يجري من نوع تغليظ، أو تخشين على بعض الأصحاب والإخوان مما كان يجري بدمشق، ومما جرى الآن بمصر، فليس ذلك غضاضة ولا نقصًا في حقِّ صاحبه، ولا حصل بسبب ذلك تغيُّرٍ منَّا ولا بغض، بل هو بعد ما عومل به من التغليظ والتخشين أرفع قدرًا وأنبه ذكرًا وأحب وأعظم، وإنما هذه الأمور هي من مصالح المؤمنين التي يصلح الله بها بعضهم بعضًا، فإنّ المؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى، وقد لا ينقلع الوسخ إلا بنوعٍ من الخشونة، لكن ذلك يوجب من النظافة والنعومة ما يحمد معه ذلك التخشين".
وأحسبني أرهقتك -أخي العزيز- في هذا الاستطراد الذي أرجو ألا يكون مملاً، فالفهم هو أهم ركن في هذه القضية الشائكة ورحم الله علماءنا المحدثين عندما كانوا يبوِّبون كتبهم قائلين: "باب العلم قبل العمل"، وقد تعلموا هذا من قوله تعالى: (واعلم أنّه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك).
ثانيا، الخوف:
فكثير من الأنظمة الحديثة تخاف أول ما تخاف من العمل الإسلامي المنظم، وقد تغض الطرف في بعض الأوقات عن بعض المصلحين إذا اقتصر فعلهم على الوعظ والإرشاد والدعوة العامة، ولكن إذا تحول هذا الداعي من دور الواعظ إلى دور المربِّي الذي يجمع الناس بصورةٍ منظمة ويبدأ في تربيتهم والارتقاء بهم بحيث يتخذونه قائدًا لهم يعطونه منهم السمع والطاعة، فإن هذه الأنظمة تشن حربا لا هوادة فيها على هذا المربي وأتباعه، وكثير من الناس يؤثرون السلامة ويجتنبون هذه التنظيمات، بل ربما أصابهم نوع من اليأس فيعتزلون العمل العام والمشاركة الإيجابية في أي شيء، ولسان حالهم يقول (وليسعك بيتك).
وهذا ليس أمرا جديدا فإن أهل مكة قد تركوا كثيرا من الموحدين أمثال زهير بن سلمى وعمرو بن نفيل وغيرهم الذين كانوا يقولون بالتوحيد، ولا يسجدون للأصنام لكنهم لم يدعوا الناس إلى هذا الفعل ولم يوحِّدوا صفوفهم لدعوة الناس لترك عبادة الأوثان، سواء كانت بشرية أو حجرية فتركوهم، ولكنهم لم يتركوا النبي صلى الله عليه وسلم لما علموا من التفاف أصحابه حوله وسمعهم وطاعتهم له.
وعلاج ذلك يكمن في الثقة فيما عند الله، وليعلم المسلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأنَّ الأمة لو اجتمعت على نفعه لم ينفعوه إلا بشيءٍ كتبه الله له، وأن نفسًا لن تموت حتى تستوفي رزقها وأجلها.. إلى آخر هذه التعليمات النبوية الكريمة التي بثَّها النبي صلى الله عليه وسلم في نفوس أتباعه فهانت عليهم الدنيا، وعزت لديهم الآخرة، ولقد كانت نصيحة ورقة بن نوفل -بعد أوامر الله عز وجل- عونا للنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، حيث بصره بتبعات هذا الطريق حينما قال له ليتني أكون جذعا -أي شابا قويا-عندما يخرجك قومك، فاندهش النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: أو مخرجيّ هم؟! قال لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا كذبه قومه.
ثالثا: غياب فهم العلاقة بين القائد والجنود:
ينظر بعض الناس إلى المسئولين في الجماعات الإسلامية نظرةً تعوذها الدقة، ويغيب عنها الفقه، فغالبا ما يكون سبب انتماء بعض الأفراد إلى العمل الجماعي تأثرًا ببعض الأشخاص الذين سبقوه على هذا الطريق، فهو ينظر إليه نظرة إعجابٍ وإكبارٍ تنسيه أنه بشرٌ يصيب ويخطئ، وينشط ويفتر، وقد ينتكس -لا قدر الله- فيترك الدعوة إلى الله بل قد يترك الالتزام بأوامر الله ويجاهر بالمعصية.
ولو تأصل الفهم بأن يكون الارتباط بالمنهج لا بالأشخاص، وأن الثابت الوحيد والدستور المنظم لعلاقة الأفراد داخل سائر التنظيمات التي تعمل للإسلام هو القرآن والسنة وإجماع علماء هذه الأمة في الماضي والحاضر، وغير ذلك متغير يزيد وينقص ويصيب ويخطئ، لما تململ السالكون إلى الله عند أول سقطة يقع فيها من سبقهم إلى هذا الطريق.
صحيحٌ أنه على الدعاة القدامى الذين يتصدون لقيادة هذا العمل أن يكونوا صورةً طيِّبةً للناس من حولهم، وألا يكونوا سببًا في الصدّ عن سبيل الله من حيث لا يشعرون، لكن هذا كله لا ينفي عنهم النقص والغفلة، ولا يخلع عليهم العصمة.. فلا معصوم إلا من عصمه الله تعالى.
هذه ثلاثة أسباب رئيسة لا أزعم أنها كل العوائق التي تقف في طريق العمل الجماعي لكنها من أهمها في رأيي..
فقد يكون التكوين النفسي للفرد، وحبه للعزلة والانطواء سببٌ رابع.
وقد تكون زعامة الفرد وعدم قبوله قيادة غيره له واعتباره أن هذا شينٌ ينأى بنفسه عنه سببٌ خامس.
وقد يكون عدم استيعاب الجماعة للأفراد وحسن توظيفهم ووضع كلّ منهم في المكان المناسب عائق سادس.
وقد تكون الوجاهة والمنصب والجاه الذي يخشى عليه الفرد عائق سابع.
إلى آخر هذه العوائق التي تتعدَّد بتعدد الأفراد والجماعات، وتختلف باختلاف الزمان والمكان، لكن كثيرًا منها يمكن تصنيفه ضمن العوائق الثلاث السابقة.
هذا، ومن الواجب الانتباه إلى أن الأصل في قياس الأمور هو مصلحة الأمة ومصلحة الدين -والتي تقاس بتجرد تام لله تعالى-، وهذه المصلحة هي التي تحكم وتوجه، ويمكن ضبط فهم هذه القضية بالقول بأن أهمية العمل الجماعي ووجوبه أمر لا يمكننا النقاش فيه كما سبق أن أوضحنا، غير أنه في نهاية الأمر هو مجرَّد وسيلة للعمل للإسلام وليس هدفًا أو غاية في حدِّ ذاته، وقد تقتضي المصلحة في بعض الأوقات أن يكون عمل بعض الأشخاص للإسلام بعيدًا عن الأطر الجماعية لأن ذلك يحقق مصلحةً للأمة أكبر، وذلك يخضع لتقدير الشخص نفسه بتجرد تام لله، وهناك نماذج للعمل الفردي التي تصب ثمارها في إطار العمل الجماعي مشهودٌ بأثرها وفضلها في واقع العمل الإسلامي وتاريخه.
* أما معرفة هذه الأسباب لدى الأفراد فليس هذا بالشيء السهل، فإن لم يصرح بها الفرد فقد تحتاج إلى طول صحبةٍ وكثرة ملازمةٍ وحسن دربةٍ من المربِّين الحاذقين الذين يكتشفون هذه العوائق ويعالجونها في أنفس من يربونهم، ونسأل الله لنا ولك الثبات على الحق، والعزيمة على الرشد، وأن يستعملنا ولا يستبدلنا.. اللهم آمين.
** ويمكن الاستفادة في هذا الموضوع بالرجوع إلى هذه المراجع:
* كتب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي التي تعالج قضايا الصحوة الإسلامية، ومن أهمها كتاب "الحل الإسلامي فريضة وضرورة".
* كتاب "الدعوة إلى الله فريضة شرعية وضرورة بشرية" للأستاذ صادق أمين "عبد الله عزام".
* كتب الدكتور عبد الرحمن عبد الخالق المتعلقة بالموضوع، وهي:
- مشروعية الجهاد الجماعي
- شيخ الإسلام ابن تيمية والعمل الجماعي