أشرُّ شرٍّ يهدد الإنسانيةَ هو وجود عاملٍ عاطلٍ، وهو في أشدِّ الحاجةِ إلى العملِ وقادر عليه، حتى يستطيع الإنفاق على مطالبِ الحياة ويسهم في عمارةِ الأرض، وعبادة الله، وحماية نفسه من صورِ الفساد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي.
وتنشأ مشكلة البطالة عندما لا يلتزم الإنسانُ بالفطرةِ السجِيَّةِ التي خلقه الله عليها، أو أنه يسيءُ استخدامَ ما سخَّره الله له من نعم، أو ينحرف عن الرشد في استغلالِ الموارد البشرية والطبيعية، فالإنسانُ هو سبب هذه المشكلة، ولن تحل هذه المشكلة إلاَّ من خلالِ الإنسان الرشيد الذي يُطبق أحكام ومبادئِ الشريعة الإسلامية.
ومن مخاطر مشكلة البطالة أنها تُحطِّم الجوانب المعنوية والنفسية للإنسان، وتُسبب ارتباكًا وخللاً في الأسرة، كما أنَّ لها العديدَ من الآثارِ السياسية السيئة، حيث تُسبب خطرًا على استقرارِ الحكم.
وتأسيسًا على ما سبق، فإنَّ التصدي لها يعتبر من الضرورياتِ الشرعية، والواجبات الدينية، والمسئولية الوطنية، وهي قضية ولي الأمر والمجتمع بأَسْرِهِ، سواء بسواء، ولكن كيف تُعالج هذه المشكلةُ بالفعل والعمل وليس بالقول والأمل؟ هذا ما سوف نتناوله في هذه الدراسةِ بإيجاز؟
مشكلة البطالة في متاهات الأقوال والوعود
يختلف علاج مشكلة البطالة باختلاف أيديولوجية النظام السياسي والاقتصادي، ويرى أنصارُ النظامِ الرأسمالي الحُرِّ أنه يقع على القطاع الخاص مسئولية إيجادِ فرصِ عملٍ، ويكون دور الدولة في هذا الصدد محدودًا، ومن سياسةِ الحكومة دعمُ هذا القطاع ومساعدته، أو التيسير عليه لينطلق لاستيعاب العاطلين، فهل نجح هذا الفكر في علاجها؟ للأسف لا، كما يرى أنصار النظام الاشتراكي أنَّ على الدولةِ مسئوليةَ علاجِ مشكلةِ البطالةِ من خلال القطاع العام.. فهل نجح هذا الفكر في علاجها؟
لقد ظلَّت مشكلة البطالة في مصر في متاهاتِ المفاهيم والشعارات والوعود والأوهام، فقد سارت الدولة أخيرًا في طريقِ النظام الرأسمالي الحر، ووضعت خطةً للإصلاح الاقتصادي؛ والذي يقوم على الخصخصة، ولقد أسفرت تلك الخطة عن مضاعفاتٍ سيئةٍ لموضوع التشغيل؛ حيث توقَّف دور الدولة عن إيجاد فرصٍ للعاطلين، كما أخفق القطاع الخاص في استيعابِ العاطلين، وضاعف من مشكلةِ البطالة والكساد الاقتصادي والجات والعولمة، وسيطرة فئة من رجالِ الأعمال على النشاط الاقتصادي، ولهذا مظاهره؛ نُبينها في البندِ التالي.
مظاهر ومخاطر مشكلة البطالة
من مظاهر تلك المشكلة في الواقع العملي في مصر ما يلي:
- ضعف الاستثمارات القومية الموجَّهَةِ إلى المشروعات الاستثمارية الجديدة لاستيعابِ العاطلين، وتقلص هذا البند من ميزانيةِ الدولة.
- عدم الرشد في الخصخصةِ، وظهور ضحايا المعاش المبكرِ الذين لا يجدون أيَّ عملٍ سوى المقاهي، والجلوس أمام التلفاز.
- الكساد الذي يُواجه القطاع الخاص، وفشله في تشغيلِ العاطلين.
- تركيز معظم القطاع الخاص على المجالاتِ التي لا تستوعب عددًا كبيرًا من العاطلين، والمعيار هو الربحية العالية واسترداد رأس المال بسرعة.
- التضييق على فرصِ العمل في دول الخليج، وتفضيل العمالة الهندية والباكستانية ونحوها، بل ينهون خدمات ما بقى لديهم من المصريين.
- العائدون من العراقِ بسبب الحرب، ولا يجدون عملاً.
- انخفاض معدل الادخار بسبب الفقر، وبالتالي ضعف الاستثمار في مشروعاتٍ استثماريةٍ جديدةٍ لأسبابٍ شتَّى منها: ارتفاع الأسعار، والحياة الضنك.
- اتجاه الاستثمارات الأجنبية في معظمها نحو مشروعاتِ الكمالياتِ والمظهرياتِ والمضارباتِ، والتعامل في سوقِ الأوراق المالية.
- الانفتاح الاستهلاكي السيء مثل كنتاكي، وماكدونالدز، والملاهي، والمصايف، وما في حكم ذلك.
وتأسيسًا على ما سبق، يجب على الحكومةِ الجديدةِ أن تُركِّز على الأفعالِ والأعمالِ، وليس على البياناتِ والشعاراتِ والوعود والآمال، هل نحن قوم عمليون؟ وهل تستطيع الحكومة أن تقلل الفجوةَ بين الواجبِ والواقع؟ نحن لسنا في حاجةٍ إلى مزيدٍ من التحليلِ والتشخيصِ والبحث عن الإحصائيات، ولكن نحن في حاجةٍ إلى برامجَ تنفيذيةٍ كما أمرنا الله سبحانه وتعالى بذلك في قوله: (وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) (التوبة: من الآية 105).
يجب أن تعيَ الحكومةُ الجديدةُ أنَّ قضيةَ البطالةِ من القضايا التي تتأثر مباشرةً بالمشاكلِ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتعليمية؛ ولذلك تحتاج إلى النظرةِ الشاملةِ لكافةِ محاورها، ودراسة العلاقات السببية بينها وبين المشاكل الأخرى.. ويُثار السؤال: هل الإسلامُ هو الحل؟ وهل يوجد لدى علماء الاقتصاد الإسلامي برنامج لعلاج هذه المشكلة؟
المنهج الاقتصادي الإسلامي لعلاج مشكلة البطالة
يقوم المنهج الاقتصادي الإسلامي لعلاج مشكلة البطالة على المفاهيم والأسس الآتية:
- تنمية الباعثِ والحافزِ على العملِ، بصرفِ النظر عن التأهيلِ العلمي والوضع الاجتماعي؛ باعتبار أنَّ العملَ عبادةٌ، شرف، قيمة، عزة، كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- للصحابي الذي جاء يطلب الصدقةَ: "اذهب واحتطب"، (المنهج التربوي لإيجادِ العامل ذي القيم والأخلاق).
- تطبيق الصيغ الإسلامية لتمويل المشروعات الصغيرة والقائم على المشاركة وليس الفائدة، وهذا هو الاتجاه العالمي الآن (المنتجات الاستثمارية الإسلامية).
- إنشاء مراكزِ التدريبِ المهني والحرفي تحت رعاية المنظمات والمؤسسات غير الهادفة للربح، مع إعطاء بعض الآمال لدعم المتفوقين؛ لتمويل مشروعاتهم بنظام القرض الحسن أو المشاركة (التدريب الفَعَّال).
- الاهتمام بنظامِ الزكاة، والقرض الحسن، والهِبات والوصايا، والوقف لدعم مشروعات علاج البطالة (دور المؤسسات الخيرية الاجتماعية).
- تجنُّب الإسراف والتبذير على المستوى القومي في النفقاتِ العامة، فعلى سبيل المثال، توجيه النفقات العامة في مجالِ الكمالياتِ والترفيهاتِ وتوجيهها لتمويلِ المشروعات الصغيرة (ترشيد النفقات العامة).
- دعم سُبل التعاونِ من خلال الإخوةِ بين الدول العربية والإسلامية، وتطبيق قول الله تبارك وتعالى: ?وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى? (المائدة: من الآية 2) (السوق العربية الإسلامية المشتركة).
- توجيه البنوك والمؤسسات المالية الإسلامية لدعم المشروعات التي تستوعب أكبر عددٍ من العاطلين (دور المصرفية الإسلامية في تمويل المشروعات الاستثمارية).
- حماية المشروعات الموجهة لعلاج البطالة من اتفاقياتِ الجات بقرارٍ جمهوري.
- إلغاء كافة أنواع الرسوم والضرائب والإكراميات والرشوة التي تعوق مشروعات علاج البطالة (ترشيد الضرائب).
هل يمكن للحكومةِ الجديدةِ أن تستفيدَ من هذا المشروعِ الاقتصادي الإسلامي لعلاجِ مشكلةِ البطالة، وتؤمنَ بقول الله عز وجل: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ) (الحديد: من الآية 16).
وجوب النظرة الشاملة لمشكلة البطالة
لا ينبغي التصدي لقضيةِ البطالة بانعزالٍ عن العديدِ من القضايا والمشاكل القومية الأخرى، ومنها على سبيل المثال ما يلي:
- قضية التربية والتعليم.
- قضية الضرائب.
- قضية حوافز الاستثمار والتمويل.
- قضية القطاع الخاص والخصخصة.
- قضية العولمة والجات.
- قضية الهجرة.
- قضية التكامل والتعاون بين الدول العربية، وهكذا.
وتأسيسًا على ذلك يجب أن يكون هناك إصلاحٌ شاملٌ للقضايا السابقة بالتوازي مع قضيةِ البطالة، بمعنى أن تُوضَعَ إستراتيجياتٌ متكاملةٌ ومتناغمةٌ في كافةِ محاورِ القضية من منظورٍ عملي في ضوءِ الواقع والإمكانيات، بمعنى أنه يجب أن تُعالجَ هذه القضيةُ من منظورٍ عملي تنفيذي، وليس من منظورِ الدراسات والبحوث والمحاضرات والندوات، ولا يعني ذلك التقليل من أهميتها؛ بل يجب أن يحول كل هذا إلى برامجَ عملٍ موضوعيةٍ قابلةٍ للتطبيق في ضوء الإمكاناتِ المتاحة، وفي ضوء إستراتيجياتِ وآلياتِ التنفيذِ.
السياسات الإستراتيجية لعلاج قضية البطالة
من أهم السياساتِ الواجبِ إعادةُ النظر فيها لتسهم في علاج قضية البطالة ما يلي:
- سياسة التعليم: والتركيز على التعليم المهني والحرفي في ضوء متطلبات سوق العمل.
- سياسة التمويل: توجيه الاستثمار نحو المشروعات التي تستوعب أكبرَ عددٍ من العاطلين، والتي تقع في مجال الضروريات والحاجات، ودعم الاستثمار طويل الأجل.
- سياسة الضرائب: تخفيض أسعار الضرائب، والتركيز على الضرائبِ على الدخل وعلى رأس المال، وإعطاء إعفاءاتٍ للمشروعات المهنية والحرفية والصغيرة، والتي تقع في مجال الضرورياتِ والحاجات.
- سياسة الخصخصة: ربط الخصخصة بعلاج مشكلة البطالة، وليس بالبيع أو بالمعاش المبكر.
- سياسة التدريب: وضعُ برامجَ موضوعيةٍ ومتخصصةٍ لتحويل مساراتِ الخريجين حسب متطلبات سوق العمل.
- سياسة اتفاقيات سوق العمل: إبرامُ اتفاقياتٍ مع الدولِ العربيةِ والإسلاميةِ بإعطاء أولوية للعمال العرب والمسلمين.
- سياسة دعم وتحفيز مؤسسات المجتمع المدني في دعم المشروعات الصغيرة: مثل الجمعيات الخيرية والاجتماعية، ومؤسسات الزكاة، والنقابات، وما في حكم ذلك.
وهذا ما سوف نتناوله في البندِ التالي لأهميتهِ القصوى والفعالةِ والعمليةِ.
مؤسسات المجتمع المدني و البطالة
يؤكد الواقع الذي نشاهده أن للمشروعاتِ الصغيرةِ والمتناهية في الصغر دورٌ رئيسي في علاجِ مشكلة البطالة من خلال تفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وعلى الأخصِّ الجمعيات الخيرية، والتي تطبق نظام القرض الحسن، ونظام المشاركة المنتهية بالتمليك، ونظام الإجارة المنتهية بالتمليكِ كبديلٍ لنظامِ الفائدة الربوية، والذي ثبت فشله.
وهناك تجاربُ ناجحةٌ لدورِ الجمعياتِ الاجتماعيةِ والخيريةِ في علاج المشكلة، وتتلخص هذه التجارب في تركيزها على الآتي:
- دراسة موضوعية لطبيعة المشروع الصغير، وبيان جدواه، والحاجة إليه، ووضعُ معاييرَ سليمةٍ لاختيارهِ.
- الاختيار الدقيق للشاب العاطل، وتهيئته، وإعداده، وتدريبه لتشغيل المشروع الصغير المناسب له.
- توفير التمويل اللازم للمشروع الصغير من المصادر المختلفة، منها على سبيل المثال: الهبات، والإعانات، والتبرعات، والزكوات، والوصايا، بعيدًا عن نظامِ الفائدة.
- اختيار طريقة التمويل المناسبة للمشروع الصغير ومنها على سبيل المثال:
- القرض الحسن على آجالٍ مناسبة.
- المشاركة المنتهية بالتمليك خلال أجل مناسب.
- الإجارة المنتهية بالتمليك خلال أجلٍ مناسب.
- المرابحة الإسلامية والبيع بالتقسيط.
- طرق أخرى.
وتتجنب الطرقُ السابقةُ نظامَ القرض بفائدة؛ لأنه سبب مَحْقِ البركة، والخسران.
- تقديم الدعم التسويقي والفني والمالي للمشروع الصغير خلال الإنشاء والتشغيل.
- المتابعة والمراقبة المستمرة للمشروع، وتقويم الأداء، وتنمية الإيجابيات، وعلاج السلبيات.
- التطوير والتجويد إلى الأحسن للمشروعات الصغيرة وتنميتها.
خلاصة القول:
يقوم المنهج والبرنامج الاقتصادي الإسلامي لعلاج مشكلة البطالة على عدةِ محاورَ عمليةٍ منها : إعداد الإنسان إعدادًا أخلاقيًّا وفنيًّا، وتوفير التمويل اللازم للمشروعاتِ بالصيغِ الإسلامية، وحماية الدولة للمشروعات التنموية من خلال إعادةِ النظر في الضرائب ونحوها، وتفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني في دعم المشروعات الصغيرة، وهذا يؤكد أنَّ الإسلامَ هو الحل.
المصدر مجلة العالمية