يعد بيكر(*) واحدا من أهم الباحثين الذين أدوا بإسهاماتهم وأبحاثهم إلى تطوير نظرية رأس المال البشري. فالكثير من الكتابات ظهرت فقط بعد نشر كتابه "رأس المال البشري" سنة 1964، فقد حول بيكر التركيز إلى دراسة الأنشطة المؤثرة في الدخل المادي وغير المادي من خلال زيادة الموارد في رأس المال البشري، حيث بدأ الاهتمام بدراسة الأشكال المختلفة للاستثمار البشري، من تعليم، وهجرة ورعاية صحية مع تركيز محور أبحاثه بصفة خاصة على التدريب.
و التدريب يمكن أن يكون كاستثمار في الفرد وذكائه فتضعه في قلب عملية التغيير، هذه الوضعية تجعل عليه مسؤوليات جديدة. لهذا يتعامل مع التدريب بمنطق الاستثمار، و هو ما يجعلنا نرجع إلى المفهوم الاقتصادي للاستثمار و الذي يتميز بأنه:
- إنفاق يجب أن يزيد من القدرة الإنتاجية؛
- إنفاق يتراكم على شكل رأس مال قابل للإهتلاك في الإنتاجية المستقبلية؛
- إنفاق له قيمة ذاتية قابلة للتحويل إلى السوق.(2)
و هنا يمكن أن نطرح السؤال التالي: معايير الاستثمار هل هي مطبقة في التدريب؟
في محتوى التعريف التقليدي للاستثمار، فللتدريب بعض الخصائص تجعل منه استثمار(3)
- هي دورة إنتاجية جيدة، من خلال أنه إنفاق حالي من أجل عائد متوقع مستقبلا؛
في نظرية "رأس المال البشري" نسجل في هذه النظرة؛ بأن التدريب يعتبر كاستثمار منتج، للفرد وللمنظمة كذلك: إذا استثمر الفرد نفسه، فهذا يمثل تكلفة بالنسبة له (تكلفة التدريب + فقد الدخل الذي كان سيكسبه ) على أمل الحصول على عائد ( زيادة الراتب)؛ أما إذا المنظمة استثمرت في الفرد، فهذا أيضا يمثل تكلفة (تكلفة التدريب + فقد ما كانت تكسب من نشاط الموظف) على أمل في الحصول على عائد (زيادة الإنتاجية).
- يساهم في تحسين قيمة ممتلكات المنظمة، مثلما هي مقيمة في السوق؛
في هذه النظرة، التدريب يساهم كاستثمار غير مادي، تحت نفس العنوان كالأبحاث و التطوير، الاستثمارات التجارية (الإشهار، دراسة السوق .. إلخ)، و برامج التدريب يمكن أن تعتبر من ممتلكات المنظمة تماما كالاستثمارات المادية.
و تشبيه التدريب بالاستثمار يواجه بعض الصعوبات:
- التدريب ليس وسيلة للإنتاج، مثل ما ستكون الآلة أو المعدات؛
- التدريب لا يمكن أن يكون من أصول المنظمة، لأن المنظمة لا تملك الأفراد التي تقوم بتدريبهم، فالاستثمار في التدريب قد يفقد بمغادرة الفرد المتدرب لأن التدريب لصيق بالفرد المتدرب؛(4)
- التدريب هو مختلف عن للاستثمار المادي، و من الصعب ضبطه بالأرقام، في ما يخص التكاليف (هناك تكاليف خفية) ولكن أكثر فيما يخص العائد.
ويعد التدريب من أكثر جوانب الاستثمار البشري فعالية في توضيح تأثير رأس المال البشري على الإيرادات، و العمالة و على المتغيرات الاقتصادية الأخرى. كما يعد معدل العائد على الاستثمار هو العامل الأساسي و الأكثر أهمية في تحديد المقدار المستثمر في رأس المال البشري، فإذا تساوت القيمة الحالية لصافي الإيرادات لوظائف مختلفة، فإن تكاليف الاستثمار، ومعدل العائد يمكن تقديرها من خلال المعلومات عن صافي الإيرادات.
وقد افترض بيكر وجود بعض المتغيرات المحددة و المحفزة للاستثمار في رأس المال البشري، ومن أمثلة هذه المتغيرات العمر المتوقع للفرد، و الاختلافات في الأجور، ودرجة الخطر، و السيولة، و المعرفة. ويقدم تحليل الاستثمار البشري تفسيرا موحدا لعدد كبير من الظواهر التطبيقية مثل: شكل العلاقة بين العمر و الإيرادات، وتوزيع الإيرادات، فتؤدي معظم الاستثمارات في رأس المال البشري إلى زيادة الإيرادات ولكن في عمر متقدم نسبيا؛ لأن العائد المتحقق من الاستثمار يعد جزءا من الإيرادات. وتنخفض هذه الاستثمارات في العمر الصغير؛ لأن التكلفة تخصم من الإيرادات في ذلك الوقت. وطالما أن هذا التأثير على الإيرادات يأخذ صفة العمومية على الأنواع المختلفة من الاستثمارات البشرية، فإنه يمكن بهذا الوصول إلى نظرية شاملة وموحدة. وتساعد هذه النظرية العامة في تفسير ظواهر عديدة ومختلفة مثل شكل الإيرادات، وتأثير التخصص على مستوى مهارة الفرد.
وقد لوحظ أن بعض الاستثمارات في رأس المال البشري ليس لها تأثير على الإيرادات، ويرجع هذا إلى تحمل المنظمة أو الصناعة أو الحكومة تكلفة هذا الاستثمار، و بالتالي تكون هي الجهة التي تحصل على الإيرادات وليس الفرد المستثمر فيه.
وفي محاولة لتحليل الجانب الاقتصادي للتدريب، فرق بيكر بين نوعين من التدريب هما:
- التدريب العام؛
- التدريب المتخصص.
كما تناول دراسة العلاقة بين معدل دوران العمل و تكلفة كل من نوعي التدريب السابقين. أيضا أمكن التمييز بين الحالات التي يختلف فيها تأثير الاستثمار في التدريب على كل من الأجور و الإنتاجية الحدية.
أما بالنسبة للتدريب العام فهو ذلك النوع من التدريب الذي يزيد من إنتاجية الفرد الحدية في المنظمة التي تقدم له التدريب، وكذلك في أي منظمة أخرى قد يعمل بها. ويعني هذا أن الفرد يمكنه أن يفيد منظمته بنفس المقدار الذي قد يفيد به المنظمات الأخرى المحتمل أن يعمل بها. فالطبيب المتدرب في مستشفى معين يمكنه استخدام مهاراته المكتسبة من هذا التدريب في أي مستشفى آخر. وتقدم المنظمة مثل هذا النوع من التدريب في حالة عدم اضطرارها لتحمل تكلفته. فيتحمل الفرد المتدرب تكلفة التدريب من خلال منحه أجرا منخفضا عن المعدل العادي أثناء فترة التدريب.
ويمكن للمنظمة أن تحقق عائدا من تقديم هذا النوع من التدريب إذا زاد الإنتاج الحدي للفرد عن الأجر الممنوح له من المنظمة. ولكي تحافظ المنظمة على الأفراد المتدربين، ولجذب الأفراد المهرة للعمل بها، فلابد أن يتمشى مستوى الأجور للمنظمة مع مستوى الأجور السائد في سوق العمل.
ويلاحظ أن تكلفة معدل دوران العمل لا ترتبط ارتباطا قويا بتكلفة التدريب العام. فإدراك المنظمة لسهولة ترك الفرد المتدرب تدريبا عاما للعمل ليلتحق بالعمل في أي منظمة أخرى، قد يدفعها إلى تحميل الفرد بتكلفة هذا النوع من التدريب حتى لا تتحمل خسارة رأسمالية بتركه العمل بعد حصوله على التدريب؛ لأن المنظمة في هذه الحالة لا تستفيد من مهارات الفرد المكتسبة ولا من إنتاجيته العالية بعد التدريب، و بالتالي تقل نسبة الإيرادات الممكن أن تحصل عليها.
أما بالنسبة للتدريب المتخصص، فهو يزيد من الإنتاجية الحدية للفرد في المنظمة التي تقدم له التدريب بدرجة أكبر من إنتاجيته الحدية إذا ما عمل بأي منظمة أخرى، وهناك صور عديدة لهذا النوع من التدريب، فالموارد المنفقة في المنظمة لتعريف العامل الجديد بعمله، وتقديمه للمنظمة تمثل نوعا من الإنفاق على التدريب المتخصص. أيضا فإن تكلفة التعرف على إمكانيات الفرد الجديد في العمل بالمنظمة من خلال اختباره وتجربة احتمالات نجاحه أو فشله تعد ضمن تكلفة التدريب المتخصص مما يسمح باستخدام القوى العاملة استخداما أمثلا. ويدخل ضمن تلك التكلفة اللازمة لتدريب الفرد على نوع متخصص من الاستخدام التكنولوجي و المستخدم في هذه المنظمة دون غيرها.
وتزداد قيمة الفرد المتدرب تدريبا متخصصا بالنسبة للمنظمة، فتقدم له أجرا عاليا نسبيا. ويكون هذا الأجر مستقلا عن الأجر المحتمل أن تقدمه له أي منظمة أخرى. ويرجع هذا إلى أن النوعية المتخصصة من التدريب قد لا تتناسب مع طبيعة ومتطلبات العمل في أي منظمة أخرى. أما بالنسبة للعائد المحتمل أن تحققه المنظمة من تقديمها لهذا النوع من التدريب فإنه يكون عاليا نسبيا نظرا للإنتاجية المرتفعة و المهارات المتخصصة المكتسبة للمتدرب.
تشكل الموارد البشرية أهم ما تملكه أية مؤسسة متخصصة، فالمؤسسات تنمو وتزدهر وتجمد وتتآكل بقدوم ونمو ومغادرة الموظفين المتخصصين.(5)
و ترتبط تكلفة معدل دوران العمل ارتباطا كبيرا بتكلفة التدريب المتخصص. ونظرا لارتفاع تكلفة التدريب المتخصص، فإن ترك الفرد المتدرب للعمل يزيد من مقدار الخسارة الرأسمالية للمنظمة أكثر من الخسارة في حالة التدريب العام. و بالتالي يكون لدى المنظمة استعداد لدفع أجر أعلى للفرد حتى تحافظ على بقائه للعمل بالمنظمة فلا تتحمل خسارة كبيرة بتركه العمل. كذلك فمن الناحية الأخرى فإن الفرد المتدرب تدريبا متخصصا يكون لديه دافع البقاء للعمل بالمنظمة لأنه لا يستطيع أن يجد منظمة أخرى بسهولة تستخدم مهاراته المتخصصة المكتسبة ولو وجد مثل هذه المنظمة فهو لا يترك عمله بمنظمته إلا إذا كانت المنظمة الأخرى ستدفع له أجرا أعلى من أجره الحالي.
إذن فنوع التدريب (عام أو متخصص)، ومعدل دوران العمل يؤثران في تحديد مقدار التكلفة المحتملة لتقديم التدريب، وفي تحديد من الذي يتحمل هذه التكلفة (الفرد أو المنظمة). ويمكن للمنظمة أن تواجه الخسارة الناجمة عن ارتفاع معدل دوران العمل بإحدى الطريقتين:
أ- أن تحصل المنظمة على إنتاج وعائد أكبر من الأفراد الموجودين حاليا، لتعويض الخسارة الناجمة من ترك بعض الأفراد المتدربين للعمل ويسمى هذا "بالعائد على النجاح"؛
ب- أن تدرك المنظمة مسبقا وجود احتمال لترك بعض الأفراد ممن حصلوا على التدريب للعمل بالمنظمة، وهذا الاحتمال ليس محددا ولا ثابتا، ولكنه يرتبط بمستوى الأجور فيها. و بالتالي يمكن للمنظمة أن تقوم بتخفيض احتمالات الفشل من خلال تقديم أجور أعلى للأفراد بعد حصولهم على التدريب، بدلا من اعتمادها على تعويض الخسارة المترتبة على ترك الفرد للعمل بعائد النجاح.
يتضح من تحليل بيكر السابق، قيمة إسهاماته في تطوير مفاهيم الاستثمار البشري. فبينما أحدث شولتز انقلابا في المفاهيم الاقتصادية بتقديمه نظرية الاستثمار البشري، نجد بيكر أوضح بطريقة عملية كيفية استخدام هذه المفاهيم النظرية كأداة للتحليل في اقتصاديات الاستثمار في الموارد البشرية. كما أدخل بيكر في تحليله بعض العوامل ذات التأثير على التدريب وتكلفته و الإيرادات المتحققة منه. فقد حاول أن يدرس علاقة الارتباط بين تكلفة الإيرادات المتحققة منه. وحاول أن يدرس علاقة الارتباط بين تكلفة معدل دوران العمل و تأثيره على تكلفة التدريب وخاصة التدريب المتخصص.
ومن ناحية أخرى فقد حاول إيجاد علاقة بين عمر الفرد من ناحية و الإيرادات المتحققة. وأشار بيكر إلى أن الفرد غير المتدرب يحصل على نفس الإيرادات بغض النظر عن عمره، أما الفرد الحاصل على التدريب وإن كان يحصل على إيرادات أقل أثناء التدريب، لتحمله جزءا من تكلفة التدريب إلا أنه يحقق إيرادات أكبر في عمر لاحق. و يرجع هذا لأن إيراداته المستقبلية تتكون من أجره مضافا إليها العائد على التدريب بعد تحسين مهاراته وزيادة إنتاجيته. وبهذا يظهر بيكر أهمية التدريب وتأثيره على إيرادات الفرد و أيضا أهمية الاستثمار في موارده البشرية في السن الصغير حتى يجني ثمار هذا الاستثمار؛ لأن معدل زيادة الإيرادات يتأثر بدرجة أكبر في فترة شباب الفرد.
..............................
الهوامش:
(1) راوية حسن، مدخل استراتيجي لتخطيط و تنمية الموارد البشرية، الإسكندرية، الدار الجامعية، 2002، ص ص70-78.
(*) Gary Stanley Becker: اقتصادي أمريكي ولد سنة 1930، معروف من خلال أعماله في مجال التحليل الاقتصادي الجزئي، أعطى دفع قوي لنظرية رأس المال البشري، مما جعله يحصل على جائزة نوبل للاقتصاد سنة 1992 لأبحاثه في هذا المجال.
(2) Christine, AFRIAT, L'Investissement dans l'Intelligence, Paris, Presse Universitaires de France, 1992, p 33.
(3) Jean-Louis, LEVESQUE - Julio, FERNANDEZ et Monique, CHAPUT, Formation-Travail, Travail-Formation, Tome 1, Montréal-Québec, édition Eska, 1993, p 160.
(4) Michel, VERNIERES, Formation Emploi, Paris, Editions Cujas, 1993, p 23.
(5) ميلان كوبر، إدارة مؤسسات التنمية الإدارية، ترجمة: محمد قاسم القريوتي، عبد الجبار إبراهيم، عمان، المنظمة العربية للعلوم الإدارية، 1985، ص65.