الشورى في السنة
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة وأبي بكر رضي الله عنهما
وشاورهم في الأمر:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير صحابته في مكة، ثم لما قدم المدينة استمر في مشورته لهم، وبعد أحد نـزل قوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] وهذه الآية ليس فيها ما يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يستشير صحابته بل هي أشبه بقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) [ سورة النساء، الآية: 136 ] وبخاصة إذا علمنا الظروف التي نـزلت فيها هذه الآية، حيث كانت بعد غزوة أحد، وقد سبقها استشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه في شأن الغزوة، وحدث ما حدث كما سبق بيانه.
وقد استمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشورته لأصحابه؛ وتوالت الأدلة القولية والعملية التي تؤكد ذلك، مع أن الأدلة العملية -وهي الأهم هنا- بلغت حدا جعل أبا هريرة رضي الله عنه يقول: ما رأيت أحدا أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه .
وقد روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبي إلا وله وزيران من أهل السماء، ووزيران من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر " .
ولذلك قال علي رضي الله عنه مترحما على عمر رضي الله عنه بعد أن طعن: ما خلفت أحدا أحب إلي من أن ألقى الله بمثل عمله منك، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك، وحسبت أني كثيرا كنت أسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر " .
ولا شك أن كثرة لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم مع صاحبيه كان لأمور مهمة وعظيمة، ومن ذلك التشاور المستمر في شئون الأمة، وما يجد فيها، ويؤكد ذلك وقائع السيرة وروايتها.
بل إن الأمر أوسع من ذلك، فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله " .
وبهذا ندرك أن قوله -تعالى-: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [ سورة آل عمران، الآية: 159 ] أصبح منهج حياة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده اقتداء به، وتصديقا لقوله -تعالى-: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) إذ مدح الله الأنصار -رضي الله عنهم- لممارستهم الشورى في حياتهم حتى قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وتوضيحا لما تم إجماله سأذكر بعض وقائع السيرة من مشورته صلى الله عليه وسلم لأصحابه في أزمنة مختلفة.
ونظرا لأن المراد هو بيان أن الشورى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم أصبحت حقيقة واقعة، ومنهج حياة، وليس المراد هو حصر وقائع الشورى، وذكر تفصيلاتها ودقائقها، فلن ألتزم بحصر تلك الوقائع، ولن أفصل فيها تفصيلا يخرج عن الهدف الذي سيقت له، بل سأذكرها بما يشبه الإجمال، وليس المراد هو التحقيق من صحة كل رواية بذاتها -حيث إن بعض ما يرد قد لا يخلو من ضعف وبخاصة في تفاصيله لا في أصله- ولكن مجموع ما سأذكره من وقائع وشواهد -وبعضها في الصحيحين- يحقق الغرض الذي سيقت من أجله، وهذه مسألة لا بد من التنبه لها ومراعاتها، وتبرز قضية المشاورة من خلال مما يلي:
1- مشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم لخديجة -رضي الله عنها- منذ بعثته حتى وفاتها
2- استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه في مكة، ومن أبرز الوقائع في ذلك حادثة الهجرة، واتخاذ الترتيبات لذلك .
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة بدر
3- ما حدث في بدر من مشاورة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته في عدة مواضع أهمها:
(أ) استشارته لأصحابه قبل اتخاذ قرار المواجهة مع قريش، فعندما أتاه الخبر عن مسير قريش ليمنعوا عيرهم استشار الناس بعد أن أخبرهم بقدوم قريش، فقام عدد من الصحابة من المهاجرين كأبي بكر والمقداد بن عمرو، وأشاروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمضي لما أراه الله، فهم موافقون لأي قرار يتخذه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد رأي الأنصار -تنفيذا لما تم الاتفاق عليه في بيعة العقبة-. فقال: " أشيروا علي أيها الناس " فقام سعد بن معاذ، وتكلم عن الأنصار، وكان مما قال: " فامض لما أردت فنحن معك " فمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر بعد أن سمع من المهاجرين والأنصار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم.
(ب) عندما نـزل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدر، وقبل الوصول إلى الماء جاء الحباب بن المنذر، وأشار على رسول الله أن يغير المكان إلى مكان أفضل منه من الناحية الحربية، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقَبِل مشورته .
(ج) وقمة الاستشارة في هذه الغزوة استشارته في أسارى بدر، فقد روى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الناس يوم بدر في الأسارى فقال: " إن الله قد أمكنكم منهم " فأشار عليه عدد من الصحابة بعدة آراء، وهي تدور على: إطلاق سراحهم، أو الفداء، أو القتل. وكان ممن أشار بالعفو مع الفداء: أبو بكر، وأشار عمر بضرب أعناقهم. وقد أخذ صلى الله عليه وسلم برأي أبي بكر، فأخذ منهم الفداء، وأطلق سراحهم، ونـزل القرآن موافقا لرأي عمر حيث قال -سبحانه-: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [ سورة الأنفال، الآيتان: 67، 68 ].
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في غزوة أحد
4- استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته قبل غزوة أحد، هل يقاتلون من داخل المدينة، أم يخرجون إلى خارجها، وقال: أشيروا علي:
وقد أشار عدد من الصحابة بأن يبقوا داخل المدينة، فإن دخلت قريش عليهم قاتلوهم في الأزقة، ورموهم من فوق الصياصي والآطام، وقد كانت المدينة شبه محصنة، وكان هذا رأي كبار الصحابة، وهو رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يعزم عليهم.
ولذلك قال بعض الفتيان ممن لم يشهدوا بدرا، وكانوا يتشوقون للجهاد ليبلوا كما أبلى أصحاب بدر، حيث إنهم لم يشهدوها، فقد قال هؤلاء: اخرج بنا إلى عدونا، وأيدهم بعض كبار الصحابة كحمزة، وسعد بن عبادة، والنعمان بن ثعلبة، وغيرهم.
وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي هؤلاء، وعندما لبس لامته ودرعه، خشي أولئك أنهم استكرهوه، فعادوا إلى رأيه، فأبى صلى الله عليه وسلم بعد أن عزم على الخروج، فخرج .
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في قصة الإفك وغزوة الخندق
5- إستشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب، وأسامة بن زيد في قصة الإفك، وبخاصة ما يتعلق بعائشة -رضي الله عنهم أجمعين--. فأما أسامة فأثنى خيرا، ثم قال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم منهم إلا خيرا. وأما علي فقال: يا رسول الله، إن النساء لكثير، وسل الجارية فإنها تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة يسألها... الحديث .
6- وفي غزوة الخندق كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح بينه وبين عيينة بن حصن على ثلث ثمار المدينة على ألا يقاتلوا مع الأحزاب، وقبل إكمال إجراءات العقد والإشهاد عليه بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ يستشيرهما في ذلك، فقالا: أمرا تحبه فنصنعه، أم شيئا أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئا تصنعه لنا؟ قال: لا، بل شيء أصنعه لكم، فذكر سعد بن معاذ أنهم لا يرون ذلك، وأيده سعد بن عبادة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيهما، وألغى الكتابة مع عيينة بن حصن .
مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه في الحديبية
7- وفي الحديبية شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته في أكثر من مرة ومنها:
(أ) لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة قاصدا مكة محرما، ووصل إلى غدير الأشطاط جاءه رجل فقال له: إن قريشا قد جمعوا لك جموعا، وقد جمعوا لك الأحابيش، وهم مقاتلوك، وصادوك، ومانعوك، فقال صلى الله عليه وسلم أشيروا أيها الناس علي: أترون أن نميل على عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت؟ أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا قاتلناه؟ فأشار عليه أبو بكر بالخيار الثاني، فقال صلى الله عليه وسلم " فامضوا على اسم الله تعالى " الحديث .
(ب) ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استدعى عمر- رضي الله عنه-، وطلب منه أن يذهب إلى قريش لإخبارها بقصد الرسول صلى الله عليه وسلم من مقدمه إلى مكة، فأشار عليه عمر أن يرسل عثمان بن عفان لأسباب ذكرها، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم برأيه وأرسل عثمان رضي الله عنه .
(جـ) لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب مع سهيل بن عمرو، أمر الصحابة أن يحلوا بالحلق بعد النحر، فما قام منهم رجل واحد، وقال ذلك ثلاث مرات، فلم يفعلوا، فدخل على أم سلمة -رضي الله عنها- وذكر لها ما لقي من الناس، فأشارت عليه أم سلمة أن يخرج ثم ينحر بدنه -ولا يكلم أحدا منهم- ثم يدعو حالقه فيحلقه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعل ما أشارت به أم سلمة من النحر والحلق، فلما رأى الصحابة ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما