"و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف".. للأديب العربي الكبير أحمد حسن فتيحي
( و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف )
للأديب العربي الكبير أحمد حسن فتيحي
أصغر إخوانه.. ولكنه شيخ قبيلته.. فقد ورث ذلك من أبيه الذي أوصى بأن يكون هو الشيخ من بعده.. وتم اختياره بالإجماع من إخوانه وعشيرته وبني قومه.. شاب وسيم خلوق حكيم هادئ .. ذو نظرة تشع ذكاء ومعرفة.. ذو هيبة.. إذا تحدث أنصت الجميع.. ولا يقال في وجوده إلا ما يحمل الخير والحكمة والعلم والمعرفة.. دقيق في ملاحظاته.. تسبق فطنته حسن ظنه..
وكعادة العرب فإن معرفتهم بالسحب الممطرة كانت علماً وتخصصاً يتقنونه.. وكان يطلق على هذا السيد الصغير الكبير (ملك السحاب) لمكانته بين أهله وعشيرته.. فأين تمطر يستفيد صاحبها من ريعها حسب ما وزعه رئيس القبيلة.. أو شيخها.. أو محبوبها..
سأل صديقه المقرب منه يوماً: "هل تظن أن هناك من العرب من أتقدم لخطبة ابنته فيصدني (يرفضني) ولا يزوجني؟".. أجاب الصديق: "نعم.. فلان من القرية التي تبعد عنا".. قال صاحبنا: "إذاً.. هيا بنا إلى هناك".. اصطحب معاونيه وأتباعه إلى تلك القرية ووقف أمام البيت المقصود.. بينما كان صاحب الدار بالفناء.. نظر إليه وسأله: "من أنت؟".. فعرفه بنفسه وأنه فلان من سادة قومه وشيخ قبيلته.. "وماذا تريد؟"..
قال: "جئتك خاطباً ابنتك".. فرد عليه قائلاً له: "ليس عندي مطلبك"..
أدار صاحبنا فرسه وأخذ من معه عائدين وقد تأكد بأن صاحبه المستشار كان محقاً.. ولم يتفوّه بكلمة واحدة طوال الطريق.. وأخذ ينهب الطريق عائداً إلى قريته.. مع شعور لم يعرفه -من قبل- من خيبة الأمل.. أما صاحب الدار.. فقد دخل بيته فبادرته زوجته بسؤاله عمن أتى إليهم وانصرف بسرعة قبل أن يضيفوه.. فأعلمها بأنه فلان.. قالت: "سيد العرب؟!.. الذي يسمى (ملك السحاب)!!".. قال: "نعم".. قالت: "ولماذا لم تضيفه واستقبلته بما لا يليق؟!".. قال: "لقد (استحمق) وتقدم لخطبة ابنتي".. قالت: "وأنت لا تريد أن تزوج بناتك؟.. فلمن ستزوجهن إذا لم تقبل السادة والشيوخ؟!"..
"الحق به.. واعتذر له.. وأخبره بأنه قد أتى لك في لحظة لم تكن موافقة.. واعطه وعداً بتلبية طلبه.. حاول اللحاق به".. قال له مستشاره: "إن صاحب الدار خلفنا.. يلاحقنا.. يركض محاولاً الوصول إلينا".. قال: "مالنا وماله".. أدركهم صاحب الدار.. وطلب منهم أن يمنحوه ساعة.. ليقضي حاجتهم التي أتوا إليها"..
استقبلهم بترحاب كبير.. وضيافة عربية تليق بالضيف والمضيف.. ثم دلف إلى بيته.. استدعى ابنته الكبرى قائلاً لها أن فلاناً في الخارج وأنه قد أتى لخطبتها.. قالت له: "يا أبتي لا تفعل.. إن فـي وجهي رده.. وفـي طبعي حدة.. وأخشى أن يردني فأصبح عبئاً ووبالاً عليك".. قال: "اذهبي رعاك الله"..
وأتى بالثانية.. فسألها.. فقالت: "يا أبتي لا تفعل.. إنني نوّامة لوامة.. خرقاء لا تسمع نصيحة.. وأخشى أن يردني وليس عندي ابن عم يسندني فأصبح عبئاً ووبالاً عليك".. قال: "اذهبي رعاك الله"..
وأتى بالثالثة.. فسألها.. فقالت: "افعل يا أبي"..
قال: "عجباً!!.. إختاك عزفتا عن القبول".. قالت: "إنني جميلة الخُلق.. حسنة الخَلق.. فـي قولي حكمة.. وفي قلبي إيمان.. وفي عقلي اتزان.. مدبرة.. مخلصة.. إذا أحبت افتدت.. وإذا لم تحب أكرمت.. فإذا ردني لا بارك الله فيه"..
عقد صاحبنا قرانه..وأراد الدخول بها.. قالت: "أبين أهلى وإخوتي؟.. والذي نفسي ونفسك بيده لا يكون".. فسار بأهله من ليلتهم.. فقال له مستشاره وصديقه: "هلا أقمت لنفسك مكاناً ودخلت بأهلك.. فالطريق طويل".. فقام بذلك.. وعندما أتى سكنها قالت له:
"ماذا تفعل؟!.. أتعاملني كما يعامل السبايا؟!.. والذي نفسي ونفســـــك بيـده لا تصــل إليّ إلا بعـــد أن تقيم عرساً يليق بمنزلتك عند أهلك ويرفع منزلتي عندهم"..
قال: "لكِ هذا"..
وصل إلى قريته.. وأقام ليلته ونحرت الجمال.. وفرحت القرية كلها.. صغيرها وكبيرها.. نساؤها ورجالها.. ولم يبق أحدٌ إلا وقد شارك في تلك الليلة..
وعندما أتى سكنه قالت له: "ويحك!!.. العرب يقتتلون.. ويذبح بعضهـم الآخـر.. وترمل النساء.. وتسلب الدور.. وأنت تفرح بزفافك.. والذي نفسي ونفسك بيده.. لا تصل إليّ إلا بعـد أن تصلح بينهم.. وتنهي حربهم.. وتوقف نزيف دمائهم".. قال: "لقد أصبت.. سأفعل بإذن الله".. وبالفعل قام بوساطة.. وأنهى الحرب.. وأحل السلام.. وعاد إلى قريته.. ثم أتى سكنه بعد أن فرغ من مهمته..
قابلته هاشة باشة: "أهلاً بسيد العرب"..
ثم أردفت: "يا سيد قومه.. اغتسل من رحلتك.. وارتدي أجمل ثيابك اليوم.. وأطعم البائس الفقير على مائدتك.. وشاركه مأكلك..
قال: "سيكون ذلك إن شاء الله.. ولكني أسألك لماذا أشاركهم مأكلهم وأنت تعلمين عاداتنا؟"..
قالت: "إننا سوف نكون في سرور وبهجة وفرح ونشوة (تقصد نفسها وإياه).. وأحسن المسرات.. أحسنها في بذلها للمحتاجين إليها.. ألا تعلم أنه ما عُبد الله بشيء أجمل من جبر الخواطر.. فإن شعرت بأنك أضعت وقتك معهم.. فإنه عند الله باق.. إن الإنفاق والفقر أرض تُغرس فيها النفائس.. حتى إذا دارت الدائرة كان صاحبها لرحمة الله أقرب.. فيأخذ من الثمر الذي غرسه"..
قال: "ما شاء الله.. لا قوة إلا بالله"..
ثم أردف قائلاً: "قوة المرأة في دمعها.. فأين قوتك يا كريمة السجايا؟!"..
قالت: "إن بعض النساء أكمل من بعض الرجال.. وأسدّ رأياً.. وأعمق فكراً.. وأوفر عقلاً.. وأشد عزماً.. وأكثر تدبيراً.. ومنهن من كانت منها فكرة أحيت بها أمة (أم المؤمنين - أم سلمه - رضي الله عنها).. وبعض الرجال لا يستقيم أمرهم إلا بهن.. فلا يزل ولا ينتكس.. ولا يُهزم.. وهي رفيقه دربه.. وإني يا سيد قومه سأظل وراءك حتى تكون المنتصر دائماً..
ولن أقبل لك إلا عزاً يتلوه عز.. ونصراً يتبعه نصر.. فإن كنت أنت سيد القوم فستبقى دائماً المطاع منهم والمطيع لي.. فإن لي قلباً يسمو فوق كل شيء.. إلا الرحمة والمودة التي تتجه إليك أنت الرجل القوي الشجاع.. فيكون لك حباً وحناناً ورقة.. وأنت فيك من الكمال والرجولة بما في داخلك للمرأة".. قال: "ما شاء الله.. لا قوة إلا بالله"..
قدمت له طيباً ليتطيب..وتعطرت ولبست أجمل الحلل.. نظر إليها بإعجاب وتأمل.. وحب وغرام.. وعيناه تنطلق منهما إشعاعات تعبر عن ذلك.. سألها: "لماذا الطيب لي؟"..
قالت: }ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف{".. قال: "ما شاء الله.. لا قوة إلا بالله"..
قالت على استحياء وبصوت مسموع: "يقول الله تعالى: }الـمال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً{..
دعنا نذكر الله".. قال: }ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً{..
قالت: "يا سيدي لا يكون للمرأة عز إلا من زوجها.. ولا تكون رجولة الرجل إلا فـي حنانه لأهله"..
قال: "ولا يكون بنّاءاً إلا بعقل الـمرأة وقلب الرجل.. وإن لك عقلاً يبني، وأرجو أن يكون لي قلب يسمع"..
قالت: "النية محلها القلب.. وإذا كانت لله أعطى الله عقلاً لصاحبها فيكون رسول الله قدوته..
يا سيدي.. البر هو الخير كله.. وبر الوالدين أوله..
يا سيدي.. وفاء الحقوق مجلبة السكينة.. وحقوق الأجير أولها..
يا سيدي.. الشهوة.. طريق الشقاء.. وأولها شهوة النساء..
يا سيدي.. إني من قوم أمهاتهم صالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله..
يا سيدي.. إني من قوم أباؤهم ذوو مروءة.. فإذا شكيتَ.. واسيتك وأنسيتك"..
قال: "ما شاء الله لا قوة إلا بالله"..
ومرت لحظات صمت وهو ينظر إليها بعين الشاكر لنعمة ربه.. كله حنان وإعجاب.. وصدق.. وأمل.. وقال:" إن كلماتك شعرٌ.. ونثرًُ.. وغنـــــاءًُ.. لحــنها موسيــــقار متمكن..
إن كلماتك.. نغمـة تطرب جوارحي.. ولحنٌ أتمنى أن أردده..
أكملي رعاك الله"..
نظرت إليه نظرة جادة حازمة قائلةً:
يقول الله تعالى:}ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجــاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى {"..
قال ضاحكاً: "وهل هناك زهرة أحلى منك!".. وللمرة الأولى دمعت عيناها.. فرأى قوتها..
وذكر ربه في نفسه تضرعاً وخيفةً ودون الجهر من القول قائلاً: }رب أوزعني أن أشكر نعمتك{.
نـظر إليها بروح عينيه.. ونظرت إلـيه بعيني روحها.. وقالا:" الحمد لله رب العالمين"..
ومضت بهما الأيام والليالي... رزقهما الله أولاداً وبناتاً.. وانهمكت فـي حياة كلها محبة ومودة وهو يبادلها الحنان والكرم.. وانتهى حب التراب للتراب.. ارتفعت المحبة من الروح إلى الروح.. زارت أمه المريضة.. قبلت رأسها وقرأت عليها بعضاً من الأدعية.. جلست بجوارها تواسيها وتستعرض معها ماضياً والأم تجمع ما بقي من ذكرياتها.. لتقول وتقول.. وتعجب الأبناء والأخوات والاخوان من انشراح الأم.. فرحوا جميعا بتلك الروح التي عادت إلى من أعياها المرض.. وقررت المبيت عندها.. قال لها زوجها:" عندها من يقوم بواجبها".. قالت: "من أنجبتك لها أن تُكرم.. فإنها ولو لم يرزقها الله غيرك لكفاني عزّاً أن أكون بجانبها".. قال وقد سبقته عبراته: "إنك شجرة صادقة لا كذب فيها"..
أخذها ذات ليلة إلى الصحراء في ليل أضفى القمر نوره على الرمال الناعمة .. ونسمة ربيع تداعب كل ما حولهما.. وقال: "ما أجمل سكن الليل".. قالت: "ماأجمل السكن مع السكن"..
قال: "هيا بنا في هذا السكن مع السكن.. إلى السكن"..
قالت: "سوف يكون السكن أكثر عندما تقرأ(وصلي عليهم إن صلاتك سكن لهم)..
صلي على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم"..
قال: "أريد نصائحك.. فإني قد مللت من المديح والثناء"..
قالت: يا سيدي.. فن الرجال ذاك علم لا يستغني عن القلب.. والقلب لا يستغني عن العقل والعقل لا يستغني عن النظر.. والنظر لا يكون دليلاً لمعرفة الرجال.. إلا بالقلب والعقل.. ولا يجتمعان إلا بأن تستوعب ما أنزل الله.. فإن القراءة لا تستغني عن التدبر.. والتدبر لا يستغني عن الاستيعاب.. وإن الاستيعاب لما أنزل الله.. الحجة التي لا تغلبها حجة..
يا سيدي.. تقرب إلى الله بالنوافل حتى يحبك.. فيكون الله عينك وسمعك ويدك وممشاك.. ومجيباً لدعاك..
يا سيدي.. فلتسبق فطنتك حسن ظنك .. فإنها إذا ارتقت حـــــال شيخ القبيلة أدار من معه بعيـــنه دون أن يتكلم فإن للعين رسائلاً أقوى من الكلمات وإشعاعات أحلى من كلمات الثناء وأقوى من جمل الهجاء..
يا سيدي.. إن قومك ينتظرون منك العطاء.. فأعطهم بــــــــالعدل بينهم.. والفضل لفــقيرهم.. وإكرام يتيمهم.. ونصيحة ضالهم..
يا سيدي.. لا يكون ذلك إلا بصحبة صالحة تؤمن بما تؤمن به.. فتكون لك عوناً وسنداً..
يا سيدي.. من تجاوز ممن معك من الرجال.. فسيئه عليك.. ومن أحسن كتب الله لك أجراً لا ينقص من أجره شيئاً..
يا سيدي.. صلاح الأمة وعزّها في قضاتها.. فاختر الأفضل منهم ليديم عزّ أمتك وأهلك..
يا سيدي.. لو علمت سوءاً ولم تتدخل فذاك هو الألم..
يا سيدي.. ابعث الحياة فـي قلوب الناس.. فالفرق كبير بين معيشتهم وحياتهم..
يا سيدي.. إن الـمعيشة لكل الـمخلوقات.. تأكل لتعيش.. ولكن الحياة هي ما قاله الله تعالى: }يَاأَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ{..
تلك الحياة التي تسعدك في دنياك وترفع ذكرك في آخراك ..
يا سيدي.. اجعل ديدنك الحق والجد وارضى بهما.. ولا تقبل الباطل والتهاون.. واغضب لله غضب الحليم.. فإن غضب الحليم أشد وأقوى.. إنه غضب حق يعلو بأدلة وبراهين ..
قال: "نِعمَ الرفيقة أنت.. ولكن كيف لي أن أفعل.. وقد تفتر بدني وحارت نفسي؟"..
قالت: "إن الشجرة ليست لها أرجل تمشي بها إنما سعادتها فـي أنها ترسل ثمارها.. فيستفيد الناس منها.. وذلك لعمري سبب وجودها وعندما يطول عمرها وتكبر جذورها ويشتد جذعها فإنها الظل الذي يحمي والثمرة تعطي.. امضِ يحفظك الله حتى تكون ممن تقول لهم الملائكة: "}نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفـي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نُزلاً من غفورٍ رحيم {".
قالت: "تكلمت كثيراً وتحملتني.. أرجو ألا أكون قد أثقلت"..
قال: "إنك تثقلين عندما تكونين بعيدة"..
و أردف قائلاً: "سأرفع راية تدل على اسم قريتنا وتكون معروفة لدى القبائل كلها فماذا تنصحين"؟..
قالت: افعل رعاك الله واكتب عليها..
الإيمان أمان..