عروس البحر

رملات البحر تنادينى.. تكسر حواجز الصمت الهادر داخلى.. أدور حول نفسى بحثا عن عروس بحرى، لكل منا عروس بحر متخفية.. تبدأ حياتها بعيداً عنا لكنها تنتهى حيث نكون ونفنى.
ربما نصادفها فى أول الطريق وربما تأتى فى منتصفه.. لكن مذاق النهاية يكون ألذ وأبقى.
«حسن» كان من أولئك المهووسين.. لا يعشق سوى البحر..
لاتحلق عيناه إلا بحثا عليها.. يتحسس مجيئها بين الصخور.. يشم رمال الشواطئ..
يتذوق طعم هواء البحر.. يراها بهية.. شعرها الملتف حول خصرها أسود كليل دامس بلا نور القمر.

ترفع يداها عاليا تناديه فلا يسمعها.
تغنى أغنية عن الحب فينتبه لعذوبة صوتها.. فيطلق لقدميه العنان ليلحق بها قبل الرحيل.
لا تحتمل أن تبقى خارج ملكوتها سوى دقائق، فيضطر إلى الهبوط معها.
الذوبان فى أعماق عالمها.

أخيراً وجد «حسن» عروسه المرمرية تمطره بقبلات دافئة متوهجة..
ينتفض جسده كأن حمى قد أصابته.. يترك جسده الملتهب شوقا إلى مياه البحر تداعبه.. تمتص حرارته وتلقى بها للرمال الباردة.

«نور» هى عروس «حسن» لن يتركها بعد اليوم، سيحارب طواحين الهواء من أجلها..
سيهجر زوجته أملا فى رضاها، بل ربما سيمحو من ذاكرته لقب متزوج حتى تقبله.
يكفيه رؤيتها لحظات.. يكفيه دقائق يسمع صوتها لتمتلئ رئتاه دفئا لا مثيل له.
لا يعرف منذ متى استولت «نور» على مشاعره، ومتى بادلها شعور الارتواء.
يقولون عنه ندهته النداهة لكنه لا يبالى بما يقولون.. حسبه «نور».. نور لدنياه ونور لآخرته.

فى كل خميس من كل أسبوع يختفى «حسن» بين مياه البحر.. يذوب جسده، ولا يبقى منه سوى صوت نغم أصيل.
من يجلس بجوار الشاطئ ليلتها سيشعر أن الليل ليس له آخر، وأن رائحة العاشقين تنضح بما فيها من مسك.
حتى جاء خميس مشؤوم، ذهب «حسن» ولم يعد لزوجته.. لبيته.. لعائلته.
مرت أيام وشهور ولم يعد.
غمر الأيام جو البحر سوادا وكآبة عنيفة.. تحول مكان الصخرة التى يجلس عليها «حسن» إلى كهف مظلم لا يرى ضوء القمر عندما ينعكس نوره على صفحة المياه الزرقاء.
أبلغت الزوجة الشرطة.. بحثت القوارب عن «حسن» فلم تجده.
أياماً ووجدوا جثته..
يلف ذراعيه.. يحتضن الفراغ، كأن يديه قد التفت حول عنقها.. نظرته الملائكية تتجه إليها.. وابتسامة على طرف شفتيه تثبت أنه اختار أن يكون بجوارها فى البحر حيث عاشت..
فى السماء حيث أصبحت.

وأخيرا وجدوا جثتها.
«نور» لم تكن عروس بحر خيالية.
لكنها حقيقة وجسد عصف به حب جامح.
عشقهما للبحر جعلهما يقبلان على السباحة فى برد الشتاء.
يحكى عنهما ذلك العجوز عواد صاحب القارب الذى شهد آخر أنفاسهما فى الحياة.
اختارا أن يكون زواجهما أبديا.

آخر ذكرياتهما فى الدنيا عندما احتضن كلاهما الآخر.. لكن موج البحر فرقهما.
فى اليوم التالى احتلت صورهما الصحف.. غرقْ حبيبين فى عرض البحر .
«حسن ونور» قصة حب أزلية لم تكتب بعد نهايتها، ستراها فى كل زمان..
تتكرر تفاصيلها وإن كانت البداية دوما مختلفة.