يعلم أن من أكبر مسبّبات فشل الاقتصادات النامية كي تتطور وتنمو، ولو على الأقل بشكل شبه معقول عبر السنين، هو الفساد بجميع أشكاله. ومثلما هو في عرف حياة المجتمعات الاقتصادية أن الإنسان لو كان يعيش على نهر جار ويؤخذ من هذا النهر من كل مكان جداول صغيرة، فالنهاية أن ذلك النهر لن يكفي لآخر القاطنين على ضفاف نهايته. وعلى الرغم من بساطة التشبيه إلا أنه واقع اقتصادي تعانيه أغلبية الدول النامية، ولذلك ستظل كذلك حتى يكون هناك إصلاح لهذا التوزيع، حيث يكفل نوعاً من العدالة المقبولة على أقل تقدير.


ولقد عشنا ونعيش واقعا لأمثلة كثيرة من مثل هذه الاقتصادات دون تسمية لأي منها، إذ إن ما يهم هنا واحد من نماذج تبعثر مصادر الاقتصاد الكبيرة عبر الفساد ''المنمذج، شبه المنظم''. فمثلا يعلم المشرّع عن تدني مستوى الأجور، ولذا يقبل أن يكون هناك وسائل غير نظامية للرفع من مستوى الأجر بطرق غير صحيحة اقتصاديا عبر ما يسمّى ''الإكرامية''، بينما هي أقرب ما تكون إلى الرشوة. لذا فالموظف لن يتأخر في قبول ما يُعطى له من بضعة دراهم لكي يؤدي عملاً ما أو يؤشر على ورقة وهكذا طالب الخدمة لن يتردد في إعطاء ذلك الموظف هذه الهبة من النقود وكأنها شبه إلزامية بل غير أخلاقية في نظر الموظف إذا لم تدفع له تلك الإكرامية.


وقد امتهنت مجتمعات وحكومات كثير من الاقتصادات النامية مثل هذا الخط مما أدى إلى استشراء هذه الممارسات الخاطئة لعدم عدالة التوزيع وتقنينه ولتباين قدر الأجر مع المجهود. ولا نتحدث هنا عن الرشا المفضوحة والكبيرة لكونها شيئا مسلما به. إنها غير مقبولة تماماً تحت أي مسمى. ولا أعرف سبباً وجيهاً لقبول المشّرع بين الحين والآخر شبه نظامية هذه الإكراميات غير أن ما أفهمه تعويض عن تدني الأجر لذلك الموظف أو الموظفة. ولكون مثل هذه الإكراميات تتطور بشكل سريع لأن تكون رشوة صريحة تكون ثمناً لتجاوز نظام محدد أو لكون طالب الخدمة يريد إنهاء ما يريده ووضع حد لتسلط ذلك الموظف أو سلطته دونما سبب وجيه.


إن الحديث هنا من باب نظرية الأجور الاقتصادية، ولذا فحين يكون هناك خلل في أنظمة الأجور، فالنتيجة رداءة في المنتج والناتج وليس الحل في غض الطرف عن مثل هذه الخروقات بحجة تدني الأجر. ولذا فقد وضعت الدول المتقدمة وكواحد من عوامل استباق الحلول لمثل ذلك حدوداً دنيا من الأجر بما يتناسب والمستوى المعيشي مما يؤمل أن يسهم في تقليص مثل هذه الممارسات الخاطئة. وفي اقتصادنا المحلي، حيث فرض ذلك الحد في أوساط الأعمال، ولذا أتمنى أن يكون تطبيقه حازماً بكل المقاييس لكيلا تكون الإكراميات حقاً مكتسباً مع كل وظيفة.


*نقلا عن صحيفة الاقتصادية السعودية.