الطبيعة البكر فقدت بكارتها..
و الغابة العذراء فقدت عذريتها..
و الأنهار تلوثت بالمخلفات الكيماوية..
و البحار تلوثت بالمخلفات الذرية..
و الهواء تلوث بالدخان و عادم السيارات و أطنان الغبار السام الذي تنفثه المصانع.
و ازدحمت المدن بالناس، و اختنقت الشوارع بالمارة، و العمارات بسكانها، و أصبحت كعلب فسد هواؤها.
و أصبح التنفس ثقيلا ممضا مرهقا.. و كأن الإنسان ينتزع الهواء انتزاعا من عالم بلا هواء.
لم نعد نعرف تلك النسمات المنعشة الطليقة التي عرفها أجدادنا، في أيام العصور الزراعية المتخلفة.
لقد جاء التقدم و استحدث معه صناعات أفسدت البيئة بما نفثت فيها من أدخنة الكبريت، و أكاسيد الآزوت و الكربون.
ثم تقدمنا أكثر و فجرنا الذرة، و لوثنا الماء و الهواء و البحر و التربة بالغبار الذري.
و تقدمنا أكثر بما اكتشفنا من وسائل لإبادة الحشرات الضارة، و فرحنا لأننا سوف نستأثر بثمرات الأرض دون أن تنافسنا فيها الديدان و الهوام، فكانت نتيجة ذلك الرش المستمر بالمبيدات أن ماتت الحشرات الضارة، و ماتت معها الحشرات النافعة، و مات النحل في خلاياه، و خرج العسل ملوثا، كما مرضت البهائم التي تتغذى على المزروعات و أصبح لبنها ملوثا و لحمها ملوثا، كما مرضت الأسماك في الماء، و الطيور في الجو، و مرض الإنسان بما أكل من لحم هذه الطيور و الحيوانات، و ظهر ال د.د.ت في لبن الأم المرضع، و توزع الموت على الكل، و أصبح كل شيء ملوثا.
و أصبح إنسان اليوم إنسانا شاحبا لاهث الأنفاس، هضيم الوجه، يشكو الكبد و البلغم و الربو و المصران، و يخطو إلى الشيخوخة و هو مازال في الخمسين.
و تحولت المدن إلى جاراج سيارات كبير، له رائحة كريهة هي خليط من رائحة العادم و البنزين و السولار، و هي مخلفات تسرع كلها بالرئتين إلى السرطان.
و حرص الإنسان على تهديم ما تبقى من صحته، فأصبح لا يفارق السيجارة، يرضع منها السم بنهم، و ينفث الدخان اللاسع في وجوه الناس.
ثم استحدث الإنسان تلوثا جديدا هو التلوث الضوضائي، بما اخترع من موتورات و ماكينات و أوناش و جرارات و كلاكسات، و مكروفونات و مكبرات صوت ملأت الأسماع بالضوضاء إلى درجة الصمم.
و انتهت الموسيقى الرومانتيكية الحالمة.. و ظهرت أنواع جديدة من الموسيقى النحاسية الصاخبة، و الطبول المجنونة و الإيقاعات المدوية، و ظهر الجيتار الكهربائي و الأورج الكهربائي و البيانو الإلكتروني، و اختفى الناي الرقيق الخجول، و اختفى العود الذي كان يداعب و يهمس و يوشوش.. و أصبحت موسقى البارات و الحانات و علب الليل شيئا غليظا فاحشا، يخرق طبلة الأذن.
تلوث كل شيء.. حتى الفضاء تلوث بما ألقى الإنسان فيه من آلاف الأقمار الصناعية، و السفن الفضائية و كواكب التلصص و التجسس، و صواريخ الرصد و التصوير.. و أفسدت هذه الأجسام الغريبة الطفيلية التي ألقينا بها في فضاء الكون، أفسدت العلاقات المغنطيسية المحكمة بين الكواكب، و أفسدت جو الأرض المغنطيسي فانقلب الطقس، و أصبح البرد و الحر و الجفاف و المطر و الطوفانات و الأعاصير تأتي بخلاف معدلاتها المحسوبة، و في غير مواسمها.. و انفجرت الزلازل و البراكين حيث لا يتوقع أحد أن تنفجر.. و تغيرت خريطة الأرصاد الجوية.. و قال البعض.. هي مقدمات عصر جليدي.
ثم جاء أخطر أنواع التلوث في هذا العصر و هو التلوث الخلقي، بما استحدث الإنسان من وسائل إعلامية تدخل على الإنسان غرفة نومه، و تزاحم العائلة على مائدة العشاء مثل التليفزيون و الراديو و الترانزستور بحجم الكف الذي يأخذه النائم في حضنه.. و من خلال هذه الوسائل الحميمة أصبح في إمكاننا أن نقدم للناس ما نريد.. و أصبح في الإمكان أن نروج للباطل و ننشر الأكاذيب..
و أصبح في الإمكان أن ندعو للشهوات عيانا بيانا بما نغنيه على أسماع الناس ليل نهار من كلمات عارية، و ما نعرضه على أعينهم من مغازلات، فيتربى الصغار على أن هذا هو الأمر الواقع.. فينتهي الحياء.. و بانتهاء الحياء تبدأ دولة القرود.
و نحن الآن سيداتي و سادتي.. قادمون على عصر القرود.. برغم أن الإنسان مشى على القمر و تحكم في طاقة البخار، و البترول و الكهرباء و الذرة و غزا الفضاء.
لكنه بقدر ما حكم هذه الأشياء، بقدر ما فقد التحكم في نفسه، و بقدر ما فقد السيطرة على شهواته.
و لهذا فنحن أمام إنسان أقل رحمة، و أقل مودة و أقل عطفا و أقل شهامة و أقل مروءة.. و أقل صفاء من إنسان العصر الزراعي المتخلف.
لقد تقدمنا عشر خطوات إلى الأمام، و سرنا مثلهم إلى الخلف.
سألوا نجمة عالمية من نجوم السينما الفاتنات، معروفة بإضرابها عن الزواج عن رأيها في الحب فقالت..
أوه.. لا أومن إلا بالعلاقة المادية المباشرة مع الرجل، و بعد ذلك تأتي المسائل الأخرى.. إن قدر لها أن تأتي.
أو بالعبارة العلمية الموضوعية:
نعاشر بعضنا البعض أولا؛ ثم تأتي بعد ذلك الصداقة أو الحب إن قدر له أن يأتي..
ترى من يكون السيد الحاكم في سلوك هذه السيدة سوى أعضائها التناسلية.
و أبشروا سيداتي و سادتي بمجيء عصر القرود.
المصدر : كتاب (( عصر القرود ))
للدكتور مصطفى محمود