النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: مقال : الزكاة - الدكتور مصطفى محمود

#1
نبذه عن الكاتب
 
البلد
مصر
مجال العمل
هندسة
المشاركات
3,066

مقال : الزكاة - الدكتور مصطفى محمود

كان من عادة الشيوعيين حينما يُذكر موضوع الزكاة أن يبتسم الواحد منهم في سخرية و كأنما وجد الثغرة التي ينفذ منها ، فالزكاة عنده هي الحل المخجل لمشكلة العدل الاجتماعي ، فالعدل لا يعالج بالتسول و بتوزيع الصدقات ، و إنما بالبتر و الاستئصال و النكال و التنكيل بالمستغلين الظالمين ، و نزع أصحاب المال و أصحاب الأرض من جذورهم بانقلاب شيوعي يصحح الأوضاع ، و هذا التوصيف الشيوعي للزكاة خاطئ .


و لكن نبرة العنف في كلام الرفاق تذكرني دائما برأي قاله المفكر الإسلامي المغربي الدكتور المهدي بن عبود : إن الشيوعية في الحقيقة طبع .. الشيوعية غل و حقد و ضغن و طبيعة ثأرية تنزع بصاحبها إلى طلب النكال و التنكيل و الإذلال و التسلط ، و هم لا يرون إصلاحا إلا أن يكون بترا و استئصالا دمويا و قلبا لكل شيء من القواعد ، و هي طبيعة تلتمس دائما المذهب الذي يساعدها ، و من هنا كان اختيارهم للشيوعية لا عن اقتناع و لا عن منطق و لا عن عقل ، و لكن عن طبع ، و هم أنفسهم الذين اختاروا فيما مضى مذهب الخوارج و القرامطة و الخرمية ، و هم أنفسهم الذين اختاروا فيما بعد التكفير و الهجرة ، لأنه يشبع فيهم نفس الطبيعة .

ثم نعود إلى تصور الرفاق عن الزكاة و نقول لقد فهموها خطأ ، فليست الزكاة هي تفضل من الغني يلقي به للفقير من باب حسنة لله يا محسنين ، و ليست صدقة لمتسول ، بل هي حق يؤخذ من خير مال القادر ، و يصل إلى يد المحتاج في كرامة و دون أن يسأل أو يمد يدا ، فما يصل إليه حق و ليس تفضلا ، و حكمه حكم الضريبة التي تؤخذ بقانون و تنفق بقانون .

ثم إن الإنفاق ليس له حد أقصى فهو في حده الأدنى اثنان و نصف في المائة ، و تلك هي الزكاة المفروضة ، و لكنه مفتوح في حده الأقصى إلى ما شاء الله و ما شاء كرم المعطي و إيمانه .

(( و يسألونك ماذا ينفقون قل العفو )) .
أي كل ما تراه زائدا عن حاجتك حتى 99 في المائة مما تملك إذا اعتبرت أن حسبك لقمتك و ثوبك و كفافك و الباقي لله فهي تجارة مع الله و تعامل مع الخالق و ليست تفضلا على الخلق ، و لكن مثل هذا الإنفاق الزائد لا يكون إلا تطوعا و اختيارا من صاحبه و ليس فرضا من أحد ، و هي من حيث اسمها (( زكاة )) ، فهي تزكية لصاحبها و تطهير له .. يتطهر بها من الشح و البخل و الأنانية فالمنتفع الأول منها صاحبها .

و الصدقات أوساخ الناس كلما أنفقت منها تطهرت و صفت نفسك من تعلقاتها المادية الأرضية .

و لا ينقص مال من صدقة ، و ما أنفقت من مال فإن الله مخلفه ، قد يخلفه الله مالا أو صحة أو رحمة أو ذرية صالحة أو نجاحا أو توفيقا ، و لكن لابد من أن يثيب الله فاعل الخير دنيا و آخرة هذا قانون إلهي لا يتخلف و يعرفه تماما الذين يقبلون على الزكاة و يتنافسون فيها و الله لا يخلف وعده أبدا .

و الزكاة تلطف الحقد و تكسر العين الحاسدة و تؤلف القلوب ، لأنها مال حلال يخرج من صاحبه حبا و كرامة و طواعية و يصل إلى المستحق دونما من و لا أذى .

و إذا أدخلنا في نصاب الزكاة ، زكاة الشركات و زكاة البنوك ، و زكاة المؤسسات التجارية ، و زكاة الدول التي خصها الله بالموارد و الثروات ، فإن مجموع النصاب الناتج سيتجاوز المليارات عداًً ، و سيصبح في طاقته أن يغير موازين الاقتصاد الموجودة تماما ، ثم إن إنفاق هذه المليارات بأسلوب عصري و استثمارها لصالح الطبقة الفقيرة ، و لخلق المشاريع لتشغيل الأيدي العاطلة و بناء الصناعات ، و الارتفاع بالتعليم كفيل بأن يغير وجه الحياة دون عنف و دون قهر و دون نكال أو تنكيل .. هكذا تلتقي الأيدي في محبة و تعاون و تكافل فيثمر الخير مزيدا من الخير ، أما العنف الشيوعي فلن يثمر إلا عنفا ، و لن يثمر القهر إلا رفضا و كسلا و لا مبالاة ، و لن يثمر التسلط إلا يأسا و سلبية و ينتهي الأمر بأن ينفض كل واحد يده من كل شيء ، و يقول لتفعل الدولة ما تريد ، و لكن الدولة الشيوعية ليست كائنا حيا سويا ، و إنما هي ديناصور و مسخ شائه من القوى البوليسية و الشعب الخائف المذعور ، ثم طواغيت و مراكز قوى تعمل طليقة باسم الحزب و تظلم و تستغل ، و تنهب كما تشاء باسم الحزب ، و تغطي جرائمها بالشعارات و الأكاذيب و الإعلام الموجه .

و شتان بين هذا التكوين الاجتماعي المتشنج و بين التكوين المتناسق للمجتمع الإسلامي الذي يعمل فيه الكل مؤمنين بأن العمل عبادة ، و أن الإنفاق تعامل شخصي مع الله ، و أن الصدقة تقع أولا في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير ، و أن علاج المريض عبادة ، و إقامة جدار عبادة ، و إنشاء كوبري عبادة .. و أن المعروف لا يضيع و العمل الصالح لا يذهب سدى ، و أن المُلك له مالك ، و أن في السماء إلها عادلا عدله لا يتخلف ، و كل هذا يثمر سكينة و رضاً و راحة قلب تساوي الدنيا و ما فيها .

فأين هذا من حال مجتمعات الوفرة و الغنى التي ينتحر أصحابها برغم الوفرة ، و ترتفع فيها إحصاءات الجنون و الأمراض النفسية و القلق و الاكتئاب برغم الغنى ، و تتحلل الأسر و تتفكك العائلات و تنتشر المخدرات و الشذوذ الجنسي و الجرائم و السرقات ، برغم العلم و التكنولوجيا و التقدم و تتضاعف أعداد مراكز البوليس و أقسامه ، و مع ذلك لا تشعر بلحظة أمن و لا تستطيع أن تخرج دولارا من جيبك ، و لا أن تنام دون أن تغلق المزاليج و الترابيس خلف بابك .

لأنها مجتمعات مادية كل مليم فيها محسوب بالكمبيوتر ، ثم لا اعتبار عندها لأي شيء آخر .. أو بشكل أدق لا تؤمن بأن هناك شيئا آخر خارج اللحظة الحاضرة و الدولار الذي في جيبك .. لا حساب لشيء اسمه الغيب و لا اعتقاد في إله .

و الذين يؤمنون منهم بالله لا يدخلون هذا الإيمان في حساب الكمبيوتر ، و هم لهذا يستبدلون الزكاة بشركات التأمين و معاشات النقابات و بدلات البطالة ، و كلها صدقات ، و لكن ذات منطلق مختلف ، فهي لا تعطى لوجه الله ، و إنما اجتهاد علمي من عند صاحبها .. و لسان حال كل منهم يقول :
(( إنما أوتيته على علم عندي )) .

و فارق كبير في النية و الصفائية بين العملين فأحدهما يقول :
وفقني الله فأعطيت ما أعطيت ابتغاء وجهه ، و الآخر يقول :
(( اجتهدت من عندي و أنفقت و أعطيت )) .
فأحدهما لا يرى إلا الله و الآخر لا يرى إلا نفسه .. و لهذا ينتهي عمله إلى الإحباط أما العمل الأول فإن الله يثمره بكرمه و يحفظه برعايته .

و تلك هي الزكاة .. مرهما و بلسما و ملطفا و شفاءً للنفس ، و طهرة للقلب ، و هي تعامل مع الله رأسا دون وسائط ، و إيمان بالغيب و ثقة في المقدور ، و يقين بقوانين العدل الإلهي التي لا تتخلف ، و هي شيء آخر تماما غير مفهوم المعونة الاجتماعية في المجتمع الغربي و قد يسأل سائل فيقول أليس كلاهما عملا صالحا ..

فنقول نعم مع فارق كبير في العرفان ، فأنت في الزكاة لا تعرف لك يدا و لا ترى لك يدا ، و لا ترى إلا يد الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء .

أما في المعونة الاجتماعية بالكمبيوتر فلا ترى إلا الورقة المرقمة الخارجة من الكمبيوتر ، و لا ترى إلا يدك و ما تبذل .. و على الأكثر لا ترى سوى إنسانيتك .

و الفرق فرق عرفاني .
و هل الدين كله إلا هذه الكلمة الصغيرة ذات الحروف القليلة .. العرفان .. ؟ و هل طلب الله من نبيه سوى العرفان ؟

فاعلم أنه لا إله إلا الله و استغفر لذنبك .
و هل يفترق مؤمن عن كافر إلا بهذه المعرفة ، الذين يرجون أيام الله ، و الذين لا يرجون أيام الله ، و الذين يوقنون بالآخرة و الموقف و الحساب .. و الذين لا يؤمنون إلا بيومهم و لحظتهم ..

صدقوني إن كلمة الزكاة تعني الكثير ..

المصدر : كتاب (( الإسلام .. ما هو ..؟ ))
للدكتور مصطفى محمود
أَسأل اللهَ عز وجل أن يهدي بهذه التبصرةِ خلقاً كثيراً من عباده، وأن يجعل فيها عوناً لعباده الصالحين المشتاقين، وأن يُثقل بفضله ورحمته بها يوم الحساب ميزاني، وأن يجعلها من الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها بعد أن أدرج في أكفاني، وأنا سائلٌ أخاً/أختاً انتفع بشيء مما فيها أن يدعو لي ولوالدي وللمسلمين أجمعين، وعلى رب العالمين اعتمادي وإليه تفويضي واستنادي.



"وحسبي الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلاِّ بالله العزيز الحكيم"

#2
نبذه عن الكاتب
 
البلد
المملكة العربية السعودية
مجال العمل
كمبيوتر/تقنية معلومات
المشاركات
437

رد: مقال : الزكاة - الدكتور مصطفى محمود

لك مني أجمل آيات الشكر والتقدير
أتمنى لك التوفيق والسداد

إقرأ أيضا...
مقال : الابتهال - الدكتور مصطفى محمود

إلهي.. يا منبع جميع الأنوار ترى من نحب حينما ننظر إلى بعضنا البعض..؟! و هل نحب إلا نورك أنت و أثر يديك على الصلصال و هل يسكرنا إلا نفخة روحك التي نفختها فينا و هل نطالع في كل جميل إلا وجهك و هل... (مشاركات: 1)


مقال : الصلاة - الدكتور مصطفى محمود

آخر صيحة في أمريكا الآن موضة جديدة اسمها ( Transendental Meditation ) و ترجمتها الحرفية هي الاستغراق التأملي المتجرد .. و هي موضة وافدة من الهند و بدعة من بدع اليوجا .. و قد لاقت نجاحا مكتسحا في... (مشاركات: 1)


مقال : يوجا - الدكتور مصطفى محمود

سعيت وراء علماء التشريح لأعرف ما هو الإنسان.. سرت وراء المشرط و هو ينقب في الأحشاء و المصارين و اللحم و العظم.. و هو يفتح القلب و يتتبع الأعصاب حتى نهايتها.. و هو يقطع المخ نصفين، ثم يقطع كل نصف إلى... (مشاركات: 0)


مقال : الأصنام - الدكتور مصطفى محمود

نحن نقول إننا في عصر العلم و إننا خلفنا الجاهلية وراءنا بأصنامها و أوثانها.. و لم يعد هناك من يعبد اللات و العزى و هبل و لا من يسجد لبعل.. انتهى الشرك إلى غير رجعة. و لكني أقول بل نحن عبدة أوثان... (مشاركات: 0)


مقال : الحب - الدكتور مصطفى محمود

الحب و الهوى و الغرام خداع ألوان ، ما نراه في المحبوبة مثلما نراه في قوس قزح ، جمال ألوان قوس قزح ليس من قوس قزح نفسه و لكنه من فعل نور الشمس على رذاذ المطر المعلق في الهواء .. فإذا غابت الشمس و جف... (مشاركات: 0)


دورات تدريبية نرشحها لك

دبلومة الصيانة الإنتاجية الشاملة TPM

برنامج متخصص في الصيانة الانتاجية الشاملة TPM يتناول اعمال الصيانة وعلاقتها بزيادة كفاءة تشغيل المعدات والآلات ويشرح استراتيجيات وسياسات الصيانة وزيادة كفاءة التشغيل وطرق التنبؤ بالاعطال وتشخيصها ووضع نظام متكامل لتكاليف الصيانة والإصلاح


دبلومة تصميم وتشغيل وصيانة أعمال اللاندسكيب

برنامج متخصص في اعمال اللاندسكيب وتصميم الحدائق يتناول موضوعات مقدمة الى اللاندسكيب وتصميم الحدائق وأساسيات تصميم اللاندسكيب وأدوات تصميم اللاندسكيب والخطوات العملية لتصميم اللاندسكيب وانهاء التصميم وادارة الاعمال المتصلة به وأخيرا تشغيل وصيانة اعمال اللاندسكيب


دورة تدريب المدربين TOT

تغطي دورة تدريب المدربين TOT كافة المراحل التي يمر بها المدرب خلال تدريبه، بداية من المستوى النفسي والحالة الشعورية التي يعيشها المدرب، من مشاعر القلق والخوف والارتباك التي تلازمه في بداية كل تدريب، وكيفية كسر هذه الحواجز النفسية وبدء التفاعل السليم مع المتدربين. وعلى المستوى العلمي تتيح هذه الدورة مجموعة من نماذج التدريب العلمية للمدرب مثل ( نموذج كولب – نموذج مك كارتي – نموذج الأنظمة التمثيلية – نموذج هيرمان). وعلى المستوى العملي توفر هذه الدورة مجموعة من الوسائل والتطبيقات الإلكترونية التي تساعد المدربين في تنفيذ التدريب عن بعد باحترافية وسهولة.


دبلومة سباهي : المعايير السعودية لخدمات الرعاية الصحية المنزلية - HHS

أول برنامج تدريبي متخصص يتناول المعايير السعودية لخدمات الرعاية الصحية المنزلية (سباهى) HHS يؤهل المتدربين المشاركين لفهم وتطبيق هذه المعايير من خلال ثلاث موضوعات اساسية وهي القيادة وتوفير الرعاية وادارة المعلومات.


دبلومة الأمن السيبراني للأطفال والطلاب - CKTD

دبلومة CKTD هي أول دورة تدريبية من نوعها تم تصميمها خصيصا لفئة الطلاب والأطفال تستهدف شرح مفهوم أمن المعلومات والامن السيبراني وكيفية حماية الاطفال والطلاب من البرامج الخبيثة والاختراق ومواجهة المخاطر وتمكينهم من حماية اجهزتهم (الكمبيوتر والموبايل) بهدف حماية هذه الفئة من الوقوع ضحايا للجرائم الالكترونية مثل جرائم الابتزاز الالكتروني والتنمر الالكتروني وغيرها.


أحدث الملفات والنماذج