كل يوم نقرأ عن.. الإنسان الآلي.. المخ الأتوماتيكي.. العقل الإلكتروني.. و نسمع عن اختراع عين رادار لحراسة الخزائن.. و ابتكار أذن لاسلكية لضبط اللصوص.. و رئة صناعية للمصابين بالشلل.. و كلية صناعية لمرضى البولينا.. و قلب بلاستيك لمرضى القلب..
هل معنى هذا أن العلم يستطيع أن يسوي لنا إنساناً يحس و يشعر و يمشي و يتكلم مثله مثلنا.. بمجرد تركيب بعض الوصلات الكهربائية و اللمبات و البطاريات الترانزستور.
إن رجل الشارع حينما يقرأ هذه الأخبار يضحك.. و يقول بسذاجته المألوفة.. بقى معقول يخلقوا بني آدم.. طيب و حاينفخوا فيه الروح منين..
و هي ليست ملاحظة ساذجة..
إن هذه الملاحظة هي الفارق الوحيد العميق بين الآلة.. و الإنسان..
إن أي اختراع من ساعة اليد إلى القنبلة الذرية إلى صاروخ القمر هو مجرد لعبة بزمبلك.
لعبة ليس فيها مخ.. ولا روح.. و لا إرادة.. لعبة لا تستطيع أن تريد لنفسها.. و إنما تتوقف على ما تريده أنت لها حينما تدير زمبلكها و تضبط عقاربها.
الآلة الكاتبة تكتب ما تمليه أنت عليها.. و لكنها لا تستطيع أن تؤلف لنفسها شيئاً.
و الآلة الحاسبة تطرح و تجمع و تقسم.. و لكنها لا تستطيع أن تتعب و تيأس و تصرخ و تحتج على سخافة الأرقام التي تجمعها و تطرحها.
و الرئة الصناعية تتنفس، و لكنها لا تستطيع أن تلهث بالخوف و لا باللهفة.
و القلب البلاستيك يدق.. و لكنه لا يستطيع أن يخفق بالحب و لا بالرغبة.
و الشيء الذي ينقص هذه الأشياء نسميه الروح.. فما هي الروح؟
إن لوح الخشب يسبح في الماء.. و سمك البحر يسبح هو الآخر في الماء.
و لكن لوح الخشب ليست له إرادة.. إن كل ما يفعله أنه يسلم نفسه للتيار يقذف به إلى اليمين و إلى اليسار و إلى الأمام و إلى الخلف.. و يسلم نفسه للقوانين الطبيعية فترفعه إلى فوق بحكم كثافته الخفيفة.. و يسلم نفسه إلى عوامل الفساد و التلف تأكل فيه حتى يذوب و يتفتت إلى تراب.
أما سمك البحر فإنه يتحرك على كيفه.. على مزاجه.. فيسبح ضد التيار.. و لا يسلم نفسه للقانون الطبيعي، و إنما يثور عليه فيسبح صاعداً ضد الجاذبية.. و يسبح هابطاً ضد قانون الكثافة.. و هو لا يسلم نفسه لعوامل التلف و الفساد، و إنما يتغذى و ينمو و يتكاثر و يهاجم كل عدو يفكر في قتله.
إن سمك البحر فيه روح..
دودة القطن.. و عود من أعواد المكرونة.. كلاهما يتلوى في يدك و كلاهما رخو دودي.. و لكنهما مفترقان فيما عدا هذا المظهر.. و مختلفان جداً.
عود المكرونة تجففه الشمس و تذيبه الرطوبة و يأكله النمل.. و هو يستسلم لكل هذه العوامل بلا حيلة..
أما دودة القطن فإنها تقاوم كل هذه العوامل بإرادة عنيدة فيها.. و هي تفعل ما هو أكثر من هذا.. إنها تأكل التوكسافين.. و تتعود عليه و تكتسب مناعة ضده.. و تغالب هذا السم الزعاف و تغلبه.. لأن فيها روحاً..
حبة من الحصى.. و حبة من الذرة.. قد تتشابهان.. و النحات يستطيع أن ينحت من الحجر بذرة لا يمكنك أن تفرقها من بذرة الذرة.. و لكن إذا زرعت الإثنين فإن كلا منهما سوف تختلف كثيراً عن الأخرى.
حبة الحصى سوف تغوص في الطين و تشدّها جاذبية الأرض.
و حبة الذرة سوف يخرج منها جنين ينمو إلى فوق كالمقذوف ثائراً على جاذبية الأرض و صاعداً بأوراقه الخضراء إلى الشمس..
إن حبة الذرة فيها روح..
ما هي الروح..
الروح ثورة على الضرورة و القوانين الآلية.. إنها حرية و ذاتية.. و كيان.. و شخصية.. و إرادة.
و نحن نقول إن الإنسان له روح، لأنه لا يمكن إدارته بزمبلك.. و لا شيء يديره سوى مزاجه و كيفه.. و حريته.. و هواه..
و العلم لن يستطيع أن يصنع إنساناً.. لأنه لا يصنع إلا الزمبلكات.. و لا يبتكر إلا الماكينات و الآلات التي يستغل فيها القوانين الطبيعية التي اكتشفها.
إنه يدور دائماً في نطاق الآلات و الموضوعات المعقولة المنطقية.
و الروح أولى صفاتها خرقها للقوانين و علوها عليها و ارتفاعها فوقها و فوق المنطق.. و فوق المعقول.. و لهذا فهي متجددة أبداً.. لا يمكن التنبؤ بمكنونها.
في الإمكان التنبؤ بكسوف الشمس.. و حركة القمر.. و لكن من المستحيل التنبؤ بالنوايا المكنونة في نفس بشرية.. لأنها لا تخضع لقانون سوى قانونها.. و هواها و مزاجها..
و في كلمة واحدة.. فيها روح.. فيها سر فوق متناول أي قوة..
الروح حرية.
إنها بدء مطلق لا سيطرة لأحد عليه..
الإنسان فيه روح.. لأن فيه حرية.. و هذه الحرية هي التي صنعت العلم بكل اختراعاته و ابتكاراته.. و سوف تصنع مزيداً من العلم كل يوم.. و لكن العلم لن يصنعها أبداً.
المصدر : كتاب (( الأحلام ))
للدكتور مصطفى محمود