هناك العديد من التحديات المهمة التي لا تخلو أية منظمة ولا يخلو أي مدير من مواجهتها والتعرض لها أو الضرورة لها. ويحتاج كلٌّ منها إلى تعامل وفهم قيادي عميق وحكيم وشامل يحقق السلامة والنجاح والتطور والنمو والاستقرار المستمر للمنظمة وللمديرين والأفراد، وقد أُفرد هذا الجزء لها لأهميتها ضمن منظومة الإدارة القيادية الشاملة.
من أهم ما ينبغي التنبه له في هذا الموضوع هو ضرورة تقييم الحادثة أو المشكلة من ناحية الحجم والأهمية، ومن ناحية السرعة المطلوبة للتعامل معها، ومن ناحية متطلبات التعامل معها، وضرورة ضبط النفس والتحكم في التصريحات والتصرفات والقرارات وردود الفعل، لما لكلَّ ذلك من أهمية بالغة في التوفيق للتعامل معها وإدارتها واتخاذ القرارات الحكيمة بشأنها بالشكل السليم والآمن.
هذا الموضوع يصلح أن يسمى «علاج المشاكل وإدارة الحوادث والأخطاء» أو «إدارة الأزمات وعلاج المشاكل» (ProblemSolvingAndIncidents/CrisisManagment).
إنَّ الحوادث والمشاكل قد تكون شكوى ضد المنظمة أو ضد أحد العاملين فيها، أو خطأً فنيًا أو إداريًا أو ماليًا من أي موظف، أو خللًا مفاجئًا في جزء من أجزاء العمل، وقد تكون كارثةً خارجيةً أو داخليةً تؤثر على كلَّ المنظَّمة أو أجزاء منها، ونحو ذلك.
خطوات للتعامل السليم مع المشاكل
لأهمية التعامل السليم مع الحوادث والمشاكل والأخطاء المختلفة باعتبارها من التحديات المستمرة التي تواجه المنـظَّمة والمدير، فقد تمَّ بحثها من جوانب مختلفة، ومن خلال عشرة مباحث، هي:
• التحقق من الحادثة أو المشكلة، وتحديد حجمها
• هل كلُّ الأمور عاجلة؟ وهل كلُّها حوادث ومشاكل وأخطاء كبيرة؟
• ضرورة الثبات والصبر والحكمة عند وقوع الحوادث والمشاكل والأخطاء وعند مواجهتها، وخاصة التي تصنَّف بأنَّها كارثة.
• خطر رَدَّة الفعل السريعة
• لكلَّ مشكلة حل
• هل هي مشكلة فعلًا؟
• النهج الحكيم الشامل للتعامل مع الحوادث والمشاكل والملاحظات العامة، ومع أخطاء ومشاكل العاملين
• وقفات حول التعامل مع أخطاء ومشاكل العاملين
• المدير والقائد مع المشاكل والتطوير
• تحدي الاستقالة.
التحقُّق من المشكلة، وتحديد حجمها
المدير القيادي نافذ البصيرة، يشاهد الأمور والحوادث والمشاكل والأخطاء على حقيقتها, ويعطيها ما تستحقه من اهتمام ووقت وسرعة دون مبالغة ولا تهوين، حتى لو حاول البعض إفهامه أو إعطاءه صورة معينة مغايرة للحقيقة عن حادثة طارئة أو مشكلة معينة أو وضع أو خطأ معين فإنَّه يجب أن تكون لديه القدرة على الوصول للحقيقة الواضحة التي لا لبس فيها، والتي ليس بالضرورة في كثير من الأحيان والظروف أن تكون موقَّعة ومكتوبة وعليها شهود، بل يكفي له كمدير قيادي مؤتمن أن يتقين منها بالقرائن والدلائل المتنوعة والمتواترة.
(القيادة حسب رأي الفارابي لا تتم إلا لمن تتوفر فيه بعض الخصال بالفطرة، ومنها أن يكون جيد الفطنة ذكيًا، إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة التي دلَّ عليها الدليل) د. نعيم نصير.
لأنَّ مثل هذا التعامل الحكيم والنظر البصير يترتب عليه أمر في غاية الأهمية، وهو إعطاء الحادثة أو المشكلة حجمها الحقيقي من مستوى الاهتمام بها ومستوى ونوع التعامل المطلوب معها والزمن أو السرعة المطلوبة، ومن ثمَّ متطلبات ذلك كله بشريًا وماديًا وزمنيًا. ولأنَّ غياب مثل هذا التعامل والنظر يؤدَّي إلى عدم إعطاء الأمور والحوداث والمشاكل والأخطاء حجمها الحقيقي، وعدم التحقق من ماهيتها وأسبابها، ويؤدَّي إلى التشويش على متخذ القرار، وبالتالي التخبط والارتباك وعدم إعطاء التوجيه السديد أو اتخاذ القرار الصيح.
كما أنَّ المدير القيادي - وهو الأمين والدقيق والصادق في نقله وفي حديثه - ينقل نوع ووضع وحجم الحادثة أو المشكلة بكل وضوح ودقة لرؤسائه الأعلى منه ولمرؤوسيه لكي يدركها الجميع وعلى نفس المستوى، وبالتالي يقومون باتخاذ الخطوات اللازمة والصحيحة بشكل تكاملي، ويتعانون ويلتحمون في مواجهة ومعالجة والتعامل مع الحادثة أو المشكلة أو الخطأ بما يحقق المصلحة العليا للمنظمة ويحقق لها وللعاملين فيها السلامة والنجاح.

هل كلُّ الأمور عاجلة؟
المدير القيادي يعتبر أنَّ كلَّ الحوادث والمشاكل والأخطاء مهمَّة، ويجب التعامل معها بأسرع ما يمكن، ولكن ليست جميعها على نفس المستوى من الأهمية والعجلة والحجم.
أما المدير غير القيادي فإنَّه يخفق في التعامل السليم والحكيم مع الحوادث والمشاكل والأخطاء. وهو بين جعل كل الأمور والمشاكل والأخطاء أحداثً جسام ومهمة جدًا وعاجلة جدًا، ويجب إنجازها أو التعامل معها فورًا من الجميع، ظانًا بقصر نظره، وضيق أفقه أنَّ ذلك تحريكٌ للعاملين والمشرفين وضغطٌ عليهم، والحقيقة أنَّ ذلك يدل على عدم ثقته فيمن يتعاملون ويعملون معه، وعدم تقديره للأمور والمشاكل والأخطاء والحوادث حجمًا وأهميةً وسرعةً، كما أنه يسبب ضغطًا نفسيًا للعاملين والمديرين بكافة مستوياتهم، ويجعلهم يعيشون توترًا وإرباكًا وخلطًا مستمرًا بين الأمور والحقائق والأولويات. وبين ألا يهتم بالمشاكل والأخطاء ولا ينتبه لخطورتها وبوادرها ومؤشراتها، ولا يبحث بعمق عن أسبابها، ولا يضع العلاجات السليمة لها؛ والعواقب الكلية لكلا التعاملين والنهجين السابقين من المدير غير القيادي ليست في صالح المنظمة واستقرارها ونجاحها.
إنَّ انشغال المدير عن المهمات بالأقل أهمية، وبالأقل إلحاحًا وعجلة عن الملح والعاجل فعلًا، وعن الاستراتجيات والتخطيط المستقبلي العميق بالأعمال والقرارات العادية والنمطية التي تجعله يدور في دوامة مستمرة من القصور والمشاكل، وعن المبادرةالمستمرة للتطوير ومراجعة الأعمال بشكل مدروس عميق بالقرارات الارتجالية المتتالية والتوجيهات المربكة، وعن تتبع ثم علاج المشاكل والأخطاء علاجًا جذرياً على ضوء أسبابها الحقيقية ومسبباتها وظروفها وملابساتها وحجمها الحقيقي - بالانشغال بمظاهرها وأعراضها وظوهراها؛ لهو من المعضلات في كثير من المنظمات وعند كثير من المديرين. ومن أسباب استمرار المشاكل والأخطاء فيها واستمرار تخبطها في القرارات، وبالتالي تدني فرص النجاح والاستقرار والنمو فيها، وربما زوال تلك الفرص.
ضرورة الثبات والصبر
المدير القيادي هادئ ثابت صابر، متوازن في كلامه وقراراته وردَّة فعله عند الخطوب والحوادث والمشاكل والصعوبات بمنظمته، أو عندما تُثار حولها الزوابع، ويتعامل مع ذلك بالحكمة والردَّ الجميل وبيان الحقائق للعاملين وللناس، وربما لوسائل الإعلام المعنية، مع الاعتراف بما يمكن أن يكون من خلل أو قصور، ويشرح أسبابه وما اتخذه ويتخذه من إجراءات حيال العلاج والتطوير والإصلاح.
كما أنَّه يُحيط الأطراف الأخرى ذات العلاقة عمومًا ورؤوساءه بشكل أخص، بمستوى ووضع الحادثة أو المشكلة من حيث الحجم والأهمية والحساسية والسرعة، أولًا بأول؛ لكي يكونوا متفاعلين معه على نفس المستوى.
إنَّ الارتباك والصراخ هنا وهناك يدل على عدم القيادية وعدم الثبات وقلة الصبر والتحمل وضعف الثقة بالنفس. كما أنَّ الاندفاع المباشر دون تروَّ وتركيز قد يُفقد المدير تولي زمام المبادرة والسيطرة على الأمور، وربما يؤدي إلى تخبطه وتهوره في القرارات.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنْزَعُ من شيء إلا شأنه» أخرجه مسلم.
إنَّ القياديين (والأشخاص الناجحين المتميزين) ثابتون وصابرون وهادئون ورابطو الجاش عند الحوادث والمشاكل والمواقف الصعبة مهما عَظُمَت، فيستوعبونها ويتفاعلون ويتعاملون معها بحكمة وثبات وعقل كبير، غير متأثرين بالمرجفين أو الضغط الإعلامي، كما يستمعون ويجاوبون ويوجَّهون بهدوء وبحسب ما يتطبه الموقف من سرعة وحسن توجيه. ولا يقدح ذلك في مستوى اهتمامهم وسرعة تفاعلهم معها، بل هم من أكثر الناس اهتمامًا وسرعة في التفاعل والتعامل مع الحوادث والمشاكل، ولكن بضابط العقل والحكمة والتحرك الصحيح على ضوء المعلومات الصحيحة، وبضوابط الأخلاق والقيم الثابتة والأمانة والعدل التي لا تتغير عند المدير القيادي (وعند العقلاء النبلاء) بتغيُّر الأحوال.

خطر ردة الفعل السريعة
إنَّ غياب الحكمة والتروي في إصدار الأقوال والتصريحات والتوجيهات أو تنفيذها عند أول الحادثة أو المشكلة أو الخطأ - صغرت أم كبرت هذه الحوادث والمشاكل والأخطاء - كثيرًا ما يُحدث عواقب وخيمة على المنظمة وشعورًا غير محترم لها ولمديرها، وربَّما أدَّى إلى ردود أفعال عكسية وسلبية عديدة ضد المنظمة ومديرها من الأطراف الأخرى، عاملين أو عملاء أو موردين أو منظمات أخرى.
إنَّ الحكمة والتروي في إصدار الأقوال واتخاذ أو تنفيذ القرارات بعد الحادثة الطارئة أو المشكلة أو الخطأ له أثره في استقرار المنظمات وعلُّو شأنها وتماسك أساسها واحترامها واحترام قادتها لدى العاملين فيها وعملائها ومنافسيها وخصومها. وإنَّ خُلُقي الحلم والأناة مطلوبان بشدَّة هنا؛ لما لهما من أثر في سلامة الردود والتعقُّل في التعامل مع الأمور والمشاكل والحوادث والأخطاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشَجَّ عبد القيس: «إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والإناة» أخرجه مسلم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله» أخرجه البخاري ومسلم.
والمدير القيادي عندما يتفاعل مع حادثة أو مشكلة معيَّنة فإنه لا يتخذ القرارات فورًا وهو متوتر، بل يُفكرُّ ويتحقق منها ويشاور أصحاب العلاقة أولًا، ويستفيد من كافة الطاقات البشرية التي لديه، ويحسن استغلال كافة الموارد والإمكانيات المادية والمعنوية المتوفرة في المنظمة. وعندما يريد أن يردَّ كتابيًا بجواب أو رسالة أو تصريح مكتوب ونحوه فإنه يكتبه فورًا، ولكن لا يبعثه أو يُصرَّح به حتى يفُرغ ما في نفسه، وخلال ذلك يجمع المعلومات والحقائق حول الحادثة أو المشكلة، ثم يدعه ويقرؤه بعد عدة ساعات، ثم يدعه ويقرؤه في اليوم التالي. وبهذا النهج فإنَّ تفاعله وتعامله وكذلك قراره وردُّه سيأخذ الطريق العقلاني المنطقي المتوازن الذي يحقق مصلحة المنظمة ويحفظ حقوقها واستقرارها في المنظور القريب والبعيد.
هذا، وقلَّما تُسفر ردَّة الفعل السريعة عن تصرف أو قرار رشيد، وإنَّ القرار الناتج عن ردَّة الفعل السريعة كثيرًا ما يشوبه القصور والخلل، وكثيرًا ما يُردي المنظمات ويشيع فيها البلبلة والاضطرابات، ويُكثّر من أعدائها ويقلل من أصدقائها وعملائها وولاء العاملين فيها، ويوهن عزمها ويشتت جهودها، وكذلك يفعل بالمديرين والأفراد وعموم الناس.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس الشديد بالصُّرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب» أخرجه البخاري ومسلم.
يقول سام ديب وليل سوسمان: اضبط ردود فعلك عند سماعك بحدوث خطأ ما، لا تعاقب الشخص الذي يحمل إليك الأخبار السيَّئة، ولا تتجهم في وجهه.

لكل مشكلة حلٌ
المدير القيادي يمارس دائمًا ذلك المبدأ المتسم بالتحدي والتفاؤل والدّال - بعد توفيق الله - على قوة الإرادة ونفاذ البصيرة وعمق المعرفة، إنَّه مبدأ أن «لكل مشكلة حلٌ»، لأنه يعلم تمامًا أنَّ تشخيص المشكلة هو الخطوة الصحيحة الأولى، وأنه متى ما حُدَّدت المشكلة تمامًا وعُرفت أسبابها ومسبباتها والمؤثرات عليها وتداخلاتها فإنه قد قطع أكثر من نصف الطريق نحو الحل السليم. ونوع الحل يعتمد على نوع المشكلة وأسبابها والمؤثرات عليها؛ فقد يكون الحل في عمل إجراء معيَّن جديد، أو تصميم نموذج معيَّن جديد، أو سن سياسة جديدة، وقد يكون في إلغاء أو تعديل أو إضافة في سياسة معينة أو إجراء أو نموذج معين، وقد يكون في عمل برنامج آلي شامل يكون بتطوير وتحسين جودة وكفاءة المنتج أو الخدمة، وقد يكون في عمل تعديل وإعادة تشكيل تنظيمي أو بشري، وقد يكون في عمل تدريب وتثقيف للموظفين المعنيين، وقد يكون في حملة تسويقية منظمة، وقد يكون في وضع نظام شامل، وقد يكون غير ذلك. والمدير القيادي يطرح البدائل المتوفرة لعلاج المشكلة والخطأ ويوازن بينها من ناحية الإيجابيات والسلبيات والمنافع والتكاليف، ثم يختار البديل أو البدائل الأنسب والأنفع، وذلك كلُّه بإشراك أصحاب العلاقة.
هذا، ويُنصح كل مدير وموظف عندما يرفع مشكلة أو صعوبات معينة لمدير أعلى منه؛ بالحرص دائمًا على تضمينها خلفية كاملة واضحة، ثم مقترحاته العملية لعلاجها، ولا يحَسُن به أن يرفعها مجرَّدة، بل عليه أن يكون قياديًا ويبادر باقتراح الحلول المناسبة، وأن يكون صاحب فكر ونظر.
هل هي مشكلة فعلًا؟
يجب التنبُّه إلى أنه من الضروري دائمًا التأكد من أنَّ هذا الأمر أو هذه الظاهرة أو هذه الحادثة أو هذه المشكلة هي فعلًا مشكلة حقيقية وخطأ مستمر وصلت إلى مرحلة أن تسمى مشكلة، وذلك قبل الشروع في أية خطوات تصحيحة أو علاجات جذرية، أي التأكُّد أولًا من أنَّ ذلك ليس أمرًا عارضًا واستثنائيًا له ظروفه وأسبابه وملابساته، إنَّ تتبع الظاهرة أو الحادثة أو المشكلة أو الخطأ والبحث عن المعلومات الدقيقة والمسببات يساعد كثيرًا في تحديد ما إذا كانت فعلًا مشكلة يجب إيجاد حلول جذرية لها، وما إذا كانت أمرًا عارضًا واستثنائيًا ومحدودًا له ملابساته وظروفه الخاصة به، والتي لا يمكن تعميمها. إنَّ ذلك أمرٌ في غاية الأهمية لحفظ الجهود والأوقات أن تذهب فيما لا ينبغي أن تذهب فيه، أو أن تنصرف عما يجب أن تُصرف فيه، ولئلا يُشرع في أي إصلاحات وعلاجات وإجراءات جذرية لا داعي لها إطلاقًا، بل قد تسبب في إرباك العمل والتنظيم وتعقيده وتوليد مشاكل وصعوبات ومتاعب أخرى للعمل والعاملين والمنظَّمة، وكل ذلك قد يحدث بسبب عدم التحقق من المشكلة أو الحادثة (أو الأخطاء) وحجمها، وعدم تشخيصها بشكل سليم ودقيق، وعدم تحديد ما إذا كانت مسألة وحالة استثنائية أو مشكلة حقيقية، ثمَّ التعامل معها على ضوء ذلك كله.

النهج الحكيم الشامل للتعامل مع الحوادث
إنَّ الحوادث والمشاكل والأخطاء ليست كلها شرًا، بل قد يكون فيها خير لمن استفاد منها حق الاستفادة، وهي موقظة من الغفلة، وحاثة على المراجعة، وهي عامل دافع للجد والتطوير المستمر، وباعثة على التفكير الجاد، ومولَّدةٌ للأفكار المفيدة ومُبصِّرةٌ للمستقبل.
قال الله تعالى: }فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا{ (النساء: الآية: 19).
يقول روبرت هارتلي في ختام دراساته الوفيرة لنجاح وفشل تجارب الشركات: إذا نظرنا إلى الأخطاء سنجد أن هناك ثلاثة أمور جديرة بالملاحظة: 1- إنه حتى أكثر المؤسسات نجاحًا تقع في بعض الأخطاء، ولكَّنها تستمر طالما أنَّها تحتفظ بنسبة جيدة من النجاح، 2- لابدَّ أن تكون الأخطاء أدوات تعليمية فاعلة لتجنب الوقوع في الأخطاء المشابهة في المستقبل، 3- يمكن للشركة أن تنهض من عثرتها وأن تغير من موقفها.
(ويقول مصطفى أمين: لا يوجد في الدنيا نجاح دائم ولا فشل دائم، كل واحد منا قادر بغروره واستهتاره وكسله وأنانيته أن يحول النَّصر إلى هزيمة، وكل فاشل يستطيع بإيمانه واستمراره وكفاحه وصبره أن يحوَّل الهزيمة إلى نصر).
كما أنه لابدَّ من التأكيد على أنَّ الأخطاء جزء طبيعي من الحياة العامة العملية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون» أخرجه الترمذي وابن ماجه. والمهم هو التراجع عن الخطأ ومعالجته والاعتراف به والاستفادة الإيجابية، والمهم كذلك ألا يكون هناك إصرار متعمد عليه عن علم، وأنَّه صدر عفوًا أو اجتهادًا أو جهلًا أو سهوًا، أو في لحظة ضعف أو غفلة ونسيان،... إلخ. وإدراك هذه الحقائق مهم لتهيئة العاملين والنَّاس لتقبل النَّقد البنَّاء والنصح الصادق، والتركيز على علاج المشكلة والخطأ أو على الأقل الاستفادة من ذلك للمستقبل، وتجنب أسباب الوقوع في المشكلة والخطأ مرة أخرى. ومما يساهم في نشر هذا المنهج هو أن يكون المدير القيادي القدوة في اعترافه بالخطأ ومعالجته بحكمة وبكل ثقة نفس مع الاعتذار لمن أخطأ عليهم والاعتذار عن أخطائه العامة بشجاعة.
ومن أهم المهمَّات أن يتمَّ التعامل مع الحوادث والأزمات والمشاكل والأخطاء وعلاجها وفق رسالة وقيم المنظمة الثابتة، ووفق رؤياها وأهدافها الاستراتيجية التي اختطتها لنفسها، فإنَّ ذلك من أهم عوامل الثبات أمامها والتوفيق للتعامل الحكيم معها والعلاج السليم لها، بما يحفظ كرامة المنظمة وكيانها ويحقق مصالحها والعاملين فيها في الحاضر والمستقبل.
هذا، ويكون التعامل مع الحوادث والمشاكل أو الشكاوي والملاحظات على المنظمة أو نظامها عمومًا على النحو الآتي:
أ- عدم أخذها كحقيقة مسلَّمة حتى يتبيَّن الأمر، ويثبُت بالشواهد والقرائن بدلائل يقينية واضحة، وليست ظنيَّة.
ب- النظر العميق فيها والبحث الحثيث عن مسبباتها الحقيقية والمؤثرات عليها، على أن يُنجز البحث والتحري في غضون عدة أيام كحدَّ أقصى إلا في الحوادث والمشاكل الكبرى التي قد تستغرق وقتًا أطول.
ج - قد يكون من الضروري في بعض الأحيان - خاصة عندما تكون المشكلة أو الحادثة كبيرة ومعقدة - تكوين فريق عمل أو فريق طوارئ برئاسة المدير الأول للمنظمة وعضوية المعنيين من القياديين الأكفاء الأمناء الأوفياء، الذين تمَّ بناؤهم واستثمارهم لخدمة المنظمة ومصالحها الاستراتيجية في أوقات الشدة والرخاء، والذين هم مهيئون لتولي المهام والمسؤوليات الصعبة في أيِّ وقت، وقد يكون رئيس الفريق هو أحد هؤلاء القياديين. وقد يكون من المفيد جدًا في بعض الأحيان تطعيم الفريق بعضو أو أعضاء خارجيين أكفاء أمناء عقلاء خبراء لإعطاء وجهة نظر أكثر حيادية ونقد أكثر موضوعية. ويقوم الفريق بالشروع في دراسة الحادثة أو المشكلة والبحث بعمق عن أسبابها والمؤثرات المختلفة عليها، ثم البحث عن أفضل الحلول الجذرية والعملية، وأخيرًا إقرار التوصيات والمقترحات النهائية من رئيس الفريق أو من المسؤول الذي كوَّن الفريق.

وقفات حول التعامل مع أخطاء ومشاكل العاملين
1- المدير القيادي يعذر من يعملون من المتميزين والأكفاء الأمناء عند زلاتهم البسيطة، فيغفرها ولا يذكرها لهم، بل حتى عندما يكون الخطأ كبيرًا فإنه يخاطبهم خطاب المقدر لهم ولإخلاصهم ولخدماتهم ولآرائهم، وكذلك لإسهاماتهم في تطوير ونجاح المنظمة، والمذكر لهم بهذا الخطأ، مع حثهم على وجوب تجنب ذلك والحذر منه مستقبلًا كما تعود منهم، والاستفادة من دروسه وعبره للأيام القادمة، وفي نفس الوقت يتم إقرار الخطوات اللازمة للعلاج أو التعامل مع المشكلة أو نتائج الخطأ. هذا إذا كان غالب حالهم الأداء المتميز والإنجاز السريع والنصح للمنظمة والإخلاص في خدمتها، فإن لذلك أثرًا عظيمًا في رسوخ ولائهم لمصالح المنظمة ولقائدها وفي بذل كل الجهد لخدمتها ونموها ونجاحها. وهو يقوم بالعكس مع البطالين والكسالى وسيئي الأداء فلا يعذرهم عند أخطائهم وزلاتهم، ويحاسبهم عليها عند تكرارها، ليعرف كُلُ قَدْرَهُ ومكانته ونتيجة عمله وسلوكه، إنَّ ذلك من القيادة بمكان، وقد نوقش هذا الأمر في فصل «التقدير والحفز المستمر، والمحاسبة المستمرة».
يقول الخطيب البغدادي: ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، فمتى كان فضله أكثر من نقصه وُهب نقصه لفضله.
ويقول ابن رجب الحنبلي: والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه.
إنه لا يسلم من الخطأ الاجتهادي إلا الكسالى والجبناء والسلبيون، وحسب المرء قلة أخطائه وكثرة خيراته وحسناته وإنجازاته.
قال الشاعر:
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
كفى المرء نبلًا أن تعد معايبه
ويقول د. غازي القصيبي: إنني من أشد المؤمنين بالمقولة الشائعة: «إنَّ الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل».
ويقول الطغرائي:
تريد مهذبًا لا عيب فيه
وهل عود يفوح بلا دخان
ينطبق ما سبق أيضًا على كل من تربطهم علاقة من أصدقاء وزملاء وأقارب وجيران وأزواج وغيرهم.
2- المدير القيادي يجعل من يعمل معه يشعر بالأمان على نفسه وعمله، وذلك بالوقوف معهم ودعمهم حال أي موقف ضعف يكونون فيه، والدفاع عنهم ضد أي متسلط، بل حتى لو وقعوا في خطأ أو زلة ليست مقصودة إنما كانوا مجتهدين فيها فإنه يكون معهم ويعتذر لهم، ويدافع عنهم ويبين حسن عملهم، ولا يأخذهم بها ولا يكلهم إلى من يسيء إليهم، كما أنه لا يمكن إساءة غيرهم من أن تصل إليهم بسبب هفواتهم في اجتهاداتهم التي هي ولابد حاصلة ما دام أنهم يعملون جاهدين مخلصين. 3- من الأهمية تذكير المدير بأنه لا ينبغي أن يبلغ من عليه الشكوى أو الملاحظة من الموظفين أو المديرين بنصها واسم الشاكي، خاصة إذا كانت الشكوى أو الملاحظة - سلوكية أو إدارية أو مالية أو أخلاقية - تمس أمانة أو مصداقية أو شرف ذلك المشتكى، أو الذي عليه الملاحظة، وخاصة إذا كان المشكي أحد مديري الشاكي؛ لئلا يحدث شحناء في النفوس وحقدًا وتنافرًا في القلوب. إذًا هو يتحقق ويراقب أولًا وبعد التحقق منها ومن وضوحها يواجهه بالشكوى والملاحظة، ويوري وكأنه هو الذي اطلع على المشكلة ولاحظها بنفسه وبمتابعته للعمل دون أن يذكر أن الشاكي أو المبلغ هو الموظف فلان أو العميل فلان، فإن ذلك أنفع وأحكم وأصلح وأحسن عاقبة، إلا أن تكون المشكلة شخصية إدارية أو مالية أو في التعامل المباشر بين الشاكي والمشكي، فهنا لابد من المواجهة بينهما بعد المراقبة وجمع وتحري كامل البيانات والحقائق.

المدير القيادي والمدير غير القيادي مع المشاكل والتطوير
المدير القيادي بعيد النظر الثاقب ينظر إلى أصل المشاكل والحوادث ويسعى إلى حلها جذريًا واستراتيجيًا، ويبحث عن أسبابها ومسبباتها، وينظر في كافة العوامل والمؤثرات الداخلية والخارجية ذات العلاقة بها، وينتبه لما بين السطور وخلف الأمور ويخطط للمستقبل بنظر ثاقب وعقل بصير وقلب مخلص أمين، ويبادر في علاج مشاكل المنظمة وفي التطوير المستمر لها، ويُشرك أصحاب العلاقة في ذلك.
وفي هذا المعنى يقول سام ديب وليل سوسمان: إنَّ المدير الناجح فعًلا هو الذي يتوقع المشاكل ويحاول منع حدوثها، وإن حدثت استغلها لمصلحة العمل ذاته.
ويقول د. غازي القصيبي: كنت ولا أزال، أرى أنَّ الحلول «العاجلة» هي أقصر الطرق إلى الفشل، وكنت، ولا أزال، أرى أنَّ النجاح لا يمكن أن يتحقق إلا بالعمل الدائب المبني على تخطيط علمي.
أما المدير غير القيادي فإنه يقضي كل وقته في متابعة الأعمال اليومية، وحل أعراض وظواهر المشاكل، وفي آنها فقط، دون تتبع للمشكلة وأسبابها، ثم معالجة لأسبابها الحقيقية في المنظور القريب والبعيد، ودون إشراك للعاملين معه بفاعلية واستمرار، مع غفلة عن المبادرة في التخطيط والتطوير الشامل وفي تتبع ثم علاج المشاكل.
يقول روبرت هارتلي، في الدروس المستفادة من دراسته الوفيرة حول تجارب النجاح والفشل في الشركات الكبرى: إن حدث واتسمت المشاكل التي تظهر بالبطء في التعرف عليها، أوصلنا ذلك إلى الاعتقاد بأن إدارة الشركة تتميز بالتكاسل والتراخي وانعدام الكفاءة، أو أن «الضوابط» لم يتم إقامتها لكي تمدنا بالنتائج الفورية عند نقاط معينة من الإشراف الاستراتيجي لها.
ويؤكد ستيفن أهمية العلاج العميق للمشاكل بقوله: عندما نحاول علاج الأعراض بعلاجات سريعة؛ فإننا لا نفهم أنَّ الألم الحاد هو نتيجة وثمرة لمشكلة مزمنة وأكثر عمقًا، وإلى أن نتوقف عن علاج الأعراض ونبدأ في علاج المشكلة فإنَّ جهودنا سوف تسفر فقط عن نتائج عكسية، وسننجح فقط في حجب الألم المزمن بشكل أكبر.

تحدي الاستقالة
في منظمة تمارس وتطبق الإدارة القيادية الشاملة ويُمارس مديرو الصف الأول فيها مواصفات ومبادئ وأفعال وأخلاق وعادات القياديين، لا يُتوقع أن يُقدم الموظف على الاستقالة لعدم ارتياحه في العمل أو لسخطه على المنظمة أو نظامها أو المسؤولين فيها أو لعدم الرغبة في الاستمرار معهم؛ إنما قد يُقدم الموظف على الاستقالة لحصوله على عرض أو وظيفة أفضل أو أعلى، أو لانتقاله من البلد الذي فيه المنظمة، أو لاستقلاله بعمل خاص ونحو ذلك.
إنَّ حادثة الاستقالة إحدى التحديات التي سوف تواجه المدير حتمًا، والمدير القيادي يقابل المستقيل ويسأله عن سبب استقالته للاستفادة منها، ويحاول بجدية ولمرة واحدة فقط أن يصرفه عنها إذا كان من المتميزين، ودون تكسير للوائح وأنظمة وسياسات ومميزات وظائف المنظمة، حسب ما وردت الإشارة إليه في فصل «التقدير والحفز المستمر»، ثم إذا أصر المستقيل، يكتب عليها (لا مانع). أما إن كان من متوسطي أو ضعيفي الأداء فإنه يناقشه لمعرفة الأسباب للاستفادة منها ثم يكتب عليها مباشرة (لا مانع). والمدير القيادي لا تهزه الاستقالة ولا تزعزع من مكانه مهما كان حجم موقع المستقيل، وليشرع فورًا بتهيئة البديل من داخل المنظمة أو خارجها، بل يفترض أنه هيأ فعلاً بدلاء على مستويات عالية من الكفاءة والأمانة في كل إدارة بحسب ما أشير إليه في فصل «بناء الرجال والاستثمار في الكفاءات» وفصل «الاستغلال الأمثل لموارد المنظمة».
وفي شأن التعامل السليم مع الاستقالة، ومن واقع تجربته الإدارية المثيرة، يقول غازي القصيبي: أوصي كل مدير، وبشدة ألا يخضع لابتزاز الاستقالة. عليه أن يبخبر من يريد الاستقالة أن كل الأبواب مفتوحة. لا يستطيع أي إنسان أن يحيا حياة طبيعية في ظل الابتزاز مهما كان نوعه. والابتزاز في هذا المجال لا يختلف عن الابتزاز في كل مجال: اقبل الابتزاز مرة وسوف تضطر إلى قبوله إلى الأبد.