مع أن خاله أحد كبار الصحابة قدرًا ومنزلة وهو الصحابي الجليل عمرو بن العاص إلا أن أباه كان ضمن العشرة الذين أهدر الرسول صلى الله عليه وسلم دمهم عند فتح مكة، وقال فيهم حتى لو وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة فاقتلوهم، وذلك لعظم خيانته والتي تسببت في قتل بنت الرسول غدرًا بعد الفتح، ذلك كله رغم ما أعلن عنه صلى الله عليه وسلم من العفو العام عن كل الناس حتى من آذوه واضطهدوه هو وأصحابه أثناء نشأة الإسلام الأولى، غير أنه وقد سمع عن عظم أخلاق نبي الإسلام التي تعدت كل التصورات فقد تشجع وتقدم بطلب العفو من رسول الله، فما كان من العظيم محمد صلى الله عليه وسلم إلا أن عفى عنه، عندها انكسرت نفس هذا الرجل وتأثر تأثرًا شديدًا وفاضت عيناه من عظيم هذه الأخلاق الباهرة.
ثم ما كان منه بعد هذا إلا أن قرر أن يخدم الإسلام بأغلى ما يملك ألا وهو ابنه الذي لم يتجاوز التاسعة من عمره، وقال له يا بني إني نذرتك لله، ثم ألحقه بخاله المقاتل المقدام عمرو بن العاص رضي الله عنه، وأعطاه الإذن المطلق أن يكون ضمن جيشه وجنده، فحضر معه فتوحات الإسلام الكبرى خارج الجزيرة العربية من فتح الشام وفتح المسجد الأقصى ومن ثم فتح مصر كل هذا ولم يكن قد تجاوز الثامنة عشرة من عمره، عندها اكتشف عمرو بن العاص موهبته القتالية الفذة فكلفه بأول مهمة له وهي تكليفه على رأس حملة استكشافيه مكونة من ثلاثمائة مجاهد، وأمره بالتوغل في بلاد المغرب من شمال إفريقيا، فنفذ هذه المهمة أفضل تنفيذ، فما كان من عمرو بن العاص إلا أن كلفه بمهمة أكبر وكانت هذه المرة مهمة دفاعية وذلك لتأمين الحدود الجنوبية والغربية لمصر من هجمات الرومان، عندها وقف هذا الفتى المقاتل الشجاع طودًا شامخًا في هذه الحدود حاميًا ومدافعًا عنها، وبعد نجاحه في هذه المهمة كلفه بمهمة أكبر تمثلت في جعله قائدًا لفتح بلاد النوبة في السودان، وما إن نجح في هذه المهمة حتى ذاع صيته ووصلت أخباره لقائد الدولة الإسلامية في المدينة المنورة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأوصى به خيرًا وأمر بتكليفه بمهام كبرى من مهمات الفتوح الإسلامية، اختفى هذا المجاهد العظيم أيام حروب الفتنة بين المسلمين ولم ينضم إلى أي فريق وذلك لمدة ثماني سنوات حتى لم يعلم مكانه مما سبب انتكاسة للفتوحات الإسلامية في منطقة شمال غرب إفريقية واسترجع الرومان كل ما فتحه هذا العظيم منهم، وبعد أن انتهت الفتنة بين المسلمين لم يظهر هذا المقاتل العظيم حتى أمر عمرو بن العاص أن ينادى في الناس يا عقبة.. الإسلام يحتاج لك فأجبه، وظهر وانضم إلى جيوش الفتح الإسلامي مجددًا، بعدها كلفه عمرو بن العاص بقيادة جيش لإعادة فتح برقة ومن ثم فتح طرابلس في ليبيا، ومن ثم فتح تونس ووصل إلى جبال الجزائر الشرقية ثم إلى تلمسان ثم دخل بلاد المغرب الأقصى، وهو من بنى مدينة القيروان والتي كانت مدينة حضارية وعسكرية لتأمين الخطوط الدفاعية الإسلامية في المنطقة، ونقطة انطلاق لنشر الإسلام بين السكان هناك، واستمر في الفتوحات إلى أن وصل إلى شاطئ المحيط الأطلسي والذي كان يعرف ببحر الظلمات ودخل بحوافر فرسه المحيط وقال مقولته الشهيرة (يا ربِّ لولا هذا البحرُ لمضيتُ في البلاد مُجاهدًا في سبيلك، أنشر دينكَ المبينَ، وأرفع راية الإسلام فوقَ كل حصنٍ عتيد).
وفي أثناء عودة هذا البطل إلى القيروان، فاجأه أحد قادة الرومان أو عملائها ويدعى كسيلة بفريق من البربر وحلفائه البيزنطيين، واشتبكوا معه في معركة انتهت باستشهاده مع عدد من الجنود سنة 63 هـ، وأوصى أبناءه ألا يقبلـوا الحديث عن رسـول اللـه صلى اللـه عليه وسلم إلا من ثقة، وألا تشغلهم الإمارةُ عن القرآن.
ذالك البطل العظيم هو عقبة بن نافع القرشي التابعي الذي أمضى حياته كلها منذ كان سنه 9 سنوات إلى حين استشهاده سنة 63 في أمر الفتح الإسلامي، أحد قادة الفتح الإسلامي العظام ومؤسس مدينة القيروان الشهيرة، أول من أدخل الإسلام إلى شمال إفريقيا، تسمت باسمه الميادين والمدارس والجامعات، الشاب المبادر والمقاتل المغوار الذي لم يصده عن الفتح والقتال أي عقبات، إن أعظم الدروس التي يمكن أن نستفيدها من هذه السيرة العطرة أنه ينبغي لنا ألا نستسلم لليأس مهما كانت أخطاؤنا تمامًا كما فعل نافع القرشي والد عقبة بن نافع فقد أهدى للإسلام هذا البطل المقدام تكفيرًا للخطأ والخيانة التي أقدم عليها في بداية فتح مكة لقد قتل اليأس بطريقة عملية تمحو ذلك الخطأ، إنه مبدأ (أتبع السيئة الحسنة تمحها) ومبدأ (إن الحسنات يذهبن السيئات) هذا أفضل وأكثر منطقية وإنتاجية من مجرد حبس ذواتنا في نطاق أخطائنا دون عمل أو تغيير، إن تلك المبادرة العملية التي أقدم عليها والد عقبة بن نافع أثمرت عن اكتشاف قدرة من القدرات التي كانت مدفونة والتي أنتجها التعامل الإيجابي مع حالات الخطأ التي هي طبع في كل إنسان لا محالة، فكل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.