بنبرات صوته المرتعشة وبنظارته العريضة التي تخفي وراءها عيونًا حائرة باحثة عن أجوبة مقنعة حول عدد من القضايا التي حيرت الكثير في مجال العلم وقضايا الإيمان، وبنضاله الطويل بداية من اعتزاله للمدرسة لمدة ثلاث سنوات بسبب إهانة مدرس اللغة العربية له، وبعد أن توفي والده بعد سنوات من الشلل تحمل قدرًا من المسؤولية المتعلقة بأسرته، وبالرغم من تعثره بداية الأمر في المدرسة إلا أنه استطاع إكمال دراسته والتفوق فيها حتى تمكن من الالتحاق بكلية الطب في تخصص الأمراض الصدرية والتخرج منها عام 1953، ولم يمنعه ما تعرض له في حياته من هزات عاطفية تمثلت في انتهاء زواجه بالطلاق لمرتين من البروز والنبوغ والعطاء. وإلى جانب كل ما سبق فقد كان له عناية بالفن فقد كان عازف عود هاويًا.
شغل عقله مسألة الروح والحياة وعلاقة ذلك بالإيمان، واحد ممن شغلوا الدنيا بكتاباته وأفكاره التي اصطدمت كثيرًا بما استقر في عقول الناس من أفكار فاتهم بالإلحاد حينا وبمخالفة الدين حينا وبفلسفته الخيالية أحيانًا مما عرضه للمحاكمة والإيذاء. ويرجع ذلك كما يقول هو إلى شغفه لإثبات كل الأمور بصورة علمية أو بحثية، يعد من أغزر المفكرين كتابة وإنتاجًا وقد ألف زهاء الثمانين من الكتب المنشورة له، ويعد رائدًا في مجال التفكير الذي يربط ما بين العلم والإيمان بالخلق سبحانه، ويتجلى ذلك في برنامجه العلم والإيمان، وبالرغم من عدم نجاح البرنامج في بداياته وعدم موافقة الإعلام على إكمال إذاعته فقد واصل إنتاجه بمعاونة أحد الأغنياء في ذلك الوقت، وقد تغير إقبال المشاهدين على البرنامج بعد أن عرفوا قيمته فأصبح وما زال من أشهر البرامج العلمية في عصرنا الحاضر وقد أنتج منه أكثر من أربعمائة حلقة حيث يربط من خلاله الكثير من الظواهر العلمية بمسألة الإيمان بالله، كان له باع في العمل الخيري ويتمثل ذلك من خلال المركز الإسلامي الذي أنشأه في القاهرة والذي عرف باسمه، إضافة إلى ثلاثة مراكز صحية خيرية موجهة لذوي الدخل المحدود ويقصدها الألف من المحتاجين سنويًا، ودار للعلوم تتضمن مرصدًا فلكيًا ومتحفًا للجيولوجيا. سُئل ذات يوم عن أجمل لحظة عاشها في حياته فقال: مر أمام ناظري شريط حافل بالأحداث تذكرت لحظة رأيت أول قصة تنشر لي، ولحظة تخرجت من كلية الطب ولحظة حصولي على جائزة الدولة في الأدب، ونشوة الحب الأول ولحظة استلمت أول مرتب لي ولحظة وضع أول لبنة في المركز الإسلامي الذي أنشأته ثم قلت لنفسي لا ليست هذه أجمل لحظة بل لحظة اختلط فيها الشك باليقين والدموع بالبهجة وذلك حينما سجدت لله، ومما قاله: كم نحن بارعون في نقد غيرنا ووعظ الآخرين بينما الصواب أن ننقد أنفسنا ونعظها، ومن مقولاته كذلك: إن قيمة الإنسان ما يضيفه للحياة بين ميلاده وموته.
قلت ذلك وأنا أستعيد المشاهدة لمراسم التشييع المهيبة لجنازة العالم الدكتور مصطفى محمود التي شهدها الآلاف من بين العامة ورجال الفكر والإعلام عام 2009، كم يثير كلام هذا العالم في النفس من أنوار وأكثر ما كان يشدني في سيرة حياته هو اعترافه بما بدر منه من أخطاء ومحاولته الاستفادة منها وقوله: أن ذلك من القوة فكثيرًا ما اتهم بأنَّ أفكاره وآراءه متضاربة إلى حد التناقض، إلا أنه لا يرى ذلك، ويؤكد أنّه ليس في موضع اتهام، وأنّ اعترافه بأنّه كان على غير صواب في بعض مراحل حياته هو ضرب من ضروب الشجاعة والقدرة على نقد الذات، وهذا شيء يفتقر إليه الكثيرون ممن يصابون بالجحود والغرور، مما يصل بهم إلى عدم القدرة على الاعتراف بأخطائهم، إن القدرة على التصالح مع الذات مرة بعد أخرى كانت من الصفات التي ميزت مصطفى محمود و بها استطاع أن يرسم لنفسه صورة ضمن ألبوم الناجحين والمؤثرين، تبنى فكرة الوجودية لسنوات طويلة في حياته مما ولد لديه محنة شديدة أدت به إلى أن يعتزل الكتابة إلا قليلا وينقطع عن الناس حتى أصابته جلطة، وفي عام 2003 أصبح يعيش منعزلاً وحيدًا وأحيانًا ما تثير أفكاره ومقالاته جدلًا واسعًا عبر الصحف ووسائل الإعلام، قال عنه الشاعر الراحل كامل الشناوي «إذا كان مصطفى محمود قد ألحد فهو يلحد على سجادة الصلاة، كان يتصور أن العلم يمكن أن يجيب على كل شيء، وعندما خاب ظنه مع العلم أخذ يبحث في الأديان بدءًا بالديانات السماوية وانتهاء بالأديان الأرضية ولم يجد في النهاية سوى القرآن الكريم».
أختم مقالي هذا بمقولة لمصطفى محمود تبين طريقته في التصالح مع ذاته بعد ذلك المشوار الطويل الذي امتد لثلاثين سنة من الحيرة والتفكير قال فيها: ولا تيأس مهما بلغت أوزارك، ولا تقنط مهما بلغت خطاياك فما جعل الله التوبة إلا للخطاة وما أرسل الأنبياء إلا للضالين وما جعل المغفرة إلا للمذنبين وما سمى نفسه الغفار التواب العفو الكريم إلا من أجل أنك تخطئ فيغفر.
حقا إن الأشجار التي نستظل بظلها اليوم غرسها أناس قبلنا وهولاء الواقفون على قمة الجبل لم يهبطوا من السماء بل قاموا بالصعود من أسفل بعد أن تعرضوا للكثير من المعوقات والنكبات، غير أنهم تصالحوا مع ذواتهم ثم مع ما حولهم ومن ثم وجدوا طرقًا أخرى استطاعوا أن يصلوا بها إلى ما وصلوا إليه.

بقلم: م. عبدالله عسيري