كم تأسرني سير أولئك العظماء من الرجال والنساء الذين أحدثوا التغيير وصنعوا الحياة، وقاوموا اليأس والمستحيل حتى وصلوا إلى مرادهم الذي كانوا يطمحون إليه، لم يمنعهم أنهم كانوا بسطاء أو فقراء أو لم يكملوا دراستهم من العمل والنبوغ والتميز، وعند الكلام عن هؤلاء العظماء يأتي الحديث عن عباس محمود العقاد الذي عمل في بداية حياته بمصنع للحرير في مدينة دمياط، ثم عمل بالسكك الحديدية لأنه لم ينل من التعليم حظًا وافرًا حيث حصل على الشهادة الابتدائية فقط بسبب فقره، لكنه في الوقت نفسه كان مولعًا بالقراءة في مختلف المجالات، وقد أنفق معظم نقوده على شراء الكتب، ونظرًا لملله الشديد من العمل الروتيني الذي يصفه بمقبرة الإبداع لم يستمر في عمل واحد لا يتلاءم مع ما كان مولعًا به من حب الأدب والثقافة.
من نشأته في بيئة محافظة استمد فكره ومقولاته، وضع لحياته اليومية برنامجًا مضبوطًا يسير عليه ولا يحيد عنه، وقد يسر له ذلك أن يسهم بانتظام في مختلف الأنشطة الفكرية والثقافية ببلاده، ويضبط مواعيد القراءة والكتابة والطعام والرياضة والراحة، وكان يردد دائمًا: إن ضبط المواعيد مقياس الشعور بالمسؤولية. العقاد نشأ في أسرة محدودة الدخل، ولا يخفى على جمهور المثقفين أن عباس محمود العقاد كان من أفقر الكتاب من الناحية المادية ومن أجزلهم إنتاجًا وعطاء من الناحية الفكرية والثقافية حتى أنه لم يترك الثقافة والأدب ليبتغي عنها بديلاً مما كان يعرض عليه من سامي المناصب والألقاب، ورغم ذلك فإن هذا الأمر لم يكن ليهدم في نفسه مبادئه الصارمة التي ربى نفسه عليها، ومنها انضباطه الشديد في الوقت، وحول هذا المعنى يروي عنه أبن أخيه عامر العقاد أن أحد الأثرياء اقترح عليه تأليف كتاب في تفسير القرآن الكريم مقابل مبلغ كبير من الجنيهات، واتفق الطرفان على لقاء ثان في الساعة السابعة من مساء اليوم التالي للبت في آخر ترتيبات الاتفاق، وقبل السابعة، نزل العقاد إلى غرفة الاستقبال وجلس وعيناه على عقارب الساعة، ينتظر وصول الضيف، وحانت السابعة ثم انصرمت بعدها خمس أو عشر دقائق، فنظر العقاد إلى ابن أخيه مغضبًا وهو يقول ما فحواه: والله لو جاءنا بعد الآن فلن نعمل سويًا أبدًا، أحرجت كلمات العقاد ابن أخيه، فأخذ يعد كلمات الاعتذار والأسف مما يقال في مثل هذا المقام، وإذا بصاحبنا يدق الجرس، فهتف العقاد: أدخله! وما أن استقر المقام بذلك الثري حتى أمر له العقاد بالقهوة وعصير الفاكهة، ثم التفت إليه وقال: يؤسفني أيها الضيف إخبارك بأنه لا يمكنني التعامل معك لأنك تخل بمواعيدك، فخال الثري أنها ثورة غضب لا تلبث أن تزول، وتحدثا بعدها وما إن جاء زمن الانصراف حتى نهض ذلك الضيف للانصراف وأخرج دفتر الشيكات قائلاً: على بركة الله يا أستاذ عباس، فأجابه العقاد: قلت لك إنه لا يمكنني التعامل معك، وإذا قال العقاد لا فلا إلى الأبد، وإن كنت لم تعرف هذا في طبعي فإنك لم تعرف عن العقاد بعد شيئًا!
إن من صفات العقاد التي أسهمت في نجاحه أيما إسهام قدرته على الاستفادة من التجارب التي تعرض له مهما كانت قاسية ومريرة، ومن ذلك ما رواه لنا العقاد في بعض كتاباته وما عاناه من عدد من أساتذته غير المقدرين للعلم وأهله، ومن ذلك قصته مع أستاذ الرياضيات الذي كثيرًا ما كان يتهكم على طلابه، ولا يعطي الدرس حقه ووقاره، وقد عرض على تلاميذه ذات يوم مسألة لا وجود لها في كتاب الرياضيات، فحاول العقاد وزملاؤه أن يعالجوها خلال الحصة دون أن يهتدوا إلى حلها، ووجب في الحال أن يحلها الأستاذ غير أنه لم يفعل ذلك، بل قال على سبيل التخلص: إنما عرضتها عليكم امتحانًا لكم لتفرقوا بين مسائل الحساب ومسائل الجبر، لم يصدق العقاد ذلك، ولم يكف عن المحاولة في بيته، وقضى ليلة ليلاء حتى الفجر وهو يقوم ويقعد عند السبورة حتى امتلأت من الجانبين بالأرقام حتى استطاع أن يحلها بحلول فجر ذلك اليوم، وبعد المراجعة تبين له صحة الحل، فقام بحفظ سلسلة النتائج وإعادتها مرارًا ليستطيع تبيانها في المدرسة دون ارتباك أو نسيان، وعندما قابل الأستاذ والتلاميذ ليحل لهم المسألة حاول الأستاذ أن يقاطعه مرة بعد مرة، لكن سلسلة النتائج كانت قد انطبعت في ذهنه لشدة ما شغلته مع طول المراجعة وتكرارها. عندها وقع الأستاذ في مأزق، فنظر إلى العقاد شزرا وهو يقول: «لقد أضعت وقتك على غير طائل، لأنها مسألة لن تعرض لكم في الامتحان»، وعقب الزملاء بما يعضد مقولة الأستاذ!
يقول العقاد: كانت هذه الصدمة خليقة أن تكسرني كسرًا لو أن اجتهادي كان محل شك عندي أو عند الأستاذ أو عند الزملاء، أما وهو حقيقة لا شك فيها، فإن الصدمة لم تكسرني، بل نفعتني أكبر نفع حمدته في حياتي لأن الفضل قيمته فيه لا فيما يقال عنه أيا كان القائلون، مما دفعه بعدها لاحترام العلم وأهله والحفاوة بمجهود كل مجتهد.
العظماء يصنعون من التجارب القاسية فرصة للتعلم واكتساب المزيد من القوة الدافعه، فمن المعاناة يتعلمون، ومن التعلم يتغيرون، وهذا بحق ما صنعه عباس محمود العقاد وبه سجل اسمه ضمن سجلات أبرز الأدباء الباحثين عن الحكمة والمعرفة في عالمنا العربي والإسلامي، وكان وما زال طودًا شامخًا من أطواد الثقافة العربية في العصر الحديث ورائدًا كبيرًا من رواد البعث العربي الإسلامي بما خلفه من تراث ضخم في مختلف ضروب المعرفة والتي تجاوزت مائة كتاب، إضافة إلى آلاف المقالات والكتابات، وسمي باسمه أحد أشهر شوارع القاهرة وإحدى قاعات الأزهر.. وفيه صح قول الفيلسوف والمفكر الألماني فريدرخ نتشيه كل ضربة لا تقتلك تزيدك قوة.