الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء المعافين، ومن منا لا يتمنى أن يكون معافى في بدنه، متمتعًا بصحة وعافية، وجسم سليم، قادر على الكسب الحلال. وقد رأيت كما يرى غيري كثيرا من الناس يهمل في التداوي، فيكسل عن مراجعة الطبيب، وعمل الأشعة والتحليل إلا إذا اعتراه ألم شديد أقعده عن عمله..
ظنًا منه أن العمل المتواصل لا يؤثر على صحته، وهذا ظن غريب إذ إن الجسم الإنساني يحتاج إلى الصيانة الخاصة به المتمثلة في عمل الفحص الدوري كل فترة من الزمن لاكتشاف ما أصابه من أمراض، والعمل على علاجها قبل أن تتفاقم.. وتخيلت حوارًا قد يدور بيني وبين أحد الأفراد المهملين في صحتهم، المفضلين للعمل، المتفاخرين بالنجاح.
أخذ يحدثني بزهو عن مدى النجاح الذي حققه في عمله، وعن مدى رضا رؤسائه عليه، وعن مدى قصر الفترة الزمنية التي قضاها في الشركة التي يعمل بها، ومع ذلك وصل إلى منصب ومكانة وظيفية رفيعة المستوى، كانت تحتاج إلى فترة أكبر للوصول إليها.
وقد أخذت أتفرس وجهه.. فوجدته على غير الوجه الذي ألفته عليه، فقد رأيته أكثر ذبولاً، ويبدو عليه الإرهاق الشديد، ويبدو عليه أيضًا وكأن العمر سار به عقدًا من الزمان، فباردته بالسؤال: عافانا الله وعافاك.. هل أصابك مرض ما؟
قال بعصبية لم أعتدها منه: لا.. ولكن أشعر بإرهاق شديد يلازمني أكثر الوقت، ولكني لا أبالي بذلك، فالمهم عندي الآن هو العمل المستمر، حتى أحقق المزيد والمزيد من النجاح والتقدم في عملي، وأحقق طموحي الذي أراه يزداد يومًا بعد يوم.
سألته: كم ساعة تقضيها في عملك؟
قال: لا أبالي بعدد الساعات، والغالب عندي الاستمرار في عملي بعد نهاية الدوام المحدد بفترات طويلة، قد تصل إلى ضعف الدوام المحدد في أكثر الأيام، وهذه الساعات الإضافية أراها ضرورية بالنسبة لي، فعن طريقها أستطيع إنهاء الأعمال المطلوبة والمكلف بها من قبل رؤسائي، وعن طريقها أيضًا أتمكن من القيام بإنهاء الأعمال التي أبتكرها وأقترحها وآخذ الموافقة عليها من قبل الإدارة، وعن طريقها أيضًا أحقق المزيد من الدخل الإضافي الذي أستغل جزءًا منه في الإنفاق على حضور الدورات المتخصصة في مجالي العلمي والعملي، وفي شراء المراجع الكثيرة التي أستخدمها في دراساتي وأبحاثي، حيث أقضي معظم وقتي في المنزل في الاطلاع والبحث، حتى أحقق ذاتي في تحصيل كل جديد يتعلق بمجال تخصصي، كي أتميز وأحقق المزيد والمزيد من النجاح والتميز.
قلت لـه في عجب: وأين وقت راحتك؟ وأين وقت علاقاتك الإنسانية والاجتماعية؟ وأين (...) وأين (...)؟
أجابني وهو لا يبالي: هذه الأشياء لا تمثل لي شيئًا في الوقت الحالي، ولا أعيرها أي اهتمام!!
قلت: إن كانت العلاقات الإنسانية والاجتماعية - على أهميتها وضرورتها للإنسان - ليست لها أهمية عندك حاليًا فهذا قد يقبل أو يعقل - مع تحفظي على ذلك - أما من غير المعقول ومن غير المقبول شكلاً وموضوعًا أن تكون راحتك - التي تجدد فيها خلايا طاقاتك ونشاطك، وتكتسب من خلالها الصحة والقوة التي تعينك على الاستمرار في عملك - في خانة عدم الأهمية بالنسبة لك في الوقت الحالي.
واستطردت قائلة: إن صحتك هي رأسمالك الحقيقي والأساسي، عن طريقها تستطيع تحقيق آمالك وطموحاتك، وبدونها لن تستطيع أن تحقق شيئًا في حياتك العملية، ولا حياتك العلمية، ولا حياتك الاجتماعية، لأنك لن تستطيع بدونها أن تفكر بطريقة سليمة، لأن العقل لن يكون سليمًا في جسم سقيم، وهذه حقيقة لخصتها الحكمة الشهيرة: العقل السليم في الجسم السليم.
فصحتك تترك أثرها الواضح والكبير على أفكارك، والعكس صحيح فإن أفكارك تترك أيضًا أثرًا واضحًا وكبيرًا على صحتك، فمن كان فكره متوجهًا نحو العناية بصحته لا نراه معتل الصحة، بل نراه دومًا مفعلاً متفاعلاً مع الحكمة الشهيرة: الوقاية خير من العلاج، ونرى أثر ذلك على مظهره الخارجي، وفكـره المطروح، وتقدمـه الوظيفـي.. إلخ.
وقديمًا قال أحد الحكماء: «إن كان هنالك شيء فوق الحياة فالصحة، وإن كان هنالك شيء مثل الحياة فالغنى، وإن كان هنالك شيء فوق الموت فالمرض، وإن كان هنالك شيء مثل الموت فالفقر».
إن دور الصحة في تمكين الإنسان (الشاب، أو الرجل، أو المرأة، أو الفتاة) من النجاح والتميز في أي عمل يقوم به، يعادله في المقابل دور المرض في وقوع الفشل والتخلف عن ركب الناجحين المتقدمين، وهناك التجارب الكثيرة التي نسمع عنها، أو نراها في محيطنا المجتمعي، فكم من ناجح أقعده المرض - الذي لا يفرق بين الناس على أساس الأعمار - عن مواصلة نجاحه، واللحاق بركب المتميزين، وكم من نشيط انسحب من ميدان السباق نتيجة اعتلال صحته، وعدم لياقته لمواصلة السباق، وكم من أحلام تكسرت على هضاب المرض، ولم يحصد أصحابها إلا خيبة الأمل.
إن الصحة هي حياة الإنسان، فبدونها تتهدد حياته بالخطر، ويتبين لنا عظم أهميتها من اهتمام ديننا الإسلامي الحنيف بها، الذي حثنا في أكثر من موقع على التداوي والعلاج، فعن أسامة بن شريك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«تداووا يا عباد الله، فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاء، إلا داءً واحدًا، الهرم».
وروى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما أنزل الله داءً إلا أنزل له شفاء».
وروى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لكل داءً دواء، فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله تعالى».
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما خلق الله من داءً إلا وجعل له شفاء، علمه من علمه، وجهله من جهله، إلا السام والسام الموت» رواه ابن ماجه.
ولقد ترددت على أسماعنا منذ الصغر الحكمة القائلة: «الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى» وبهذا التاج الهام يتربع الأصحاء على قمة النجاح، ولا يعرف قيمة أو قدر هذا التاج إلا من حرم منه، فنراه ينظر إليه بحسرة وندم إن كان قد فرط فيه وهو بين يديه، فكم من شاب سار في طريق نزواته وأطلق لنفسه العنان ظنًا منه أن شبابه سوف يدوم، حتى أفاق على مرض مهلك وهو لا يزال في ريعان شبابه، وكم من شاب فرط في دينه وانجرف وراء شهواته فلحقته أمراض - تهلك وتحصد الأرواح - لم يتوصل الطب لعلاجها حتى الآن، وكم من شاب لم يتعظ من مصير المدمنين للمخدرات، وأخذته التجربة إلى نفس المصير، ولم يدرك خطأ التجربة إلا بعد فوات الأوان.
ومما لا شك فيه أن من يمتلك الصحة يمتلك الأمل، حيث بدون الصحة لا أمل في الحياة أصلاً، وبالتالي لا أمل في مستقبل، أو وصول إلى درجات علا، ومراكز مرموقة.
فالذي ينشد النجاح والتميز - سواء كان شابًا أم غير ذلك - لا بد له من :
1- عقل سليم: ولن يتوافر هذا العقل إلا في جسم سليم معافى.
2- نشاط دائم: ولن يتوافر هذا النشاط الدائم إلا من خلال جسم سليم، وهذا الجسم السليم لا بد له من إرادة قوية تعمل على بنائه، وتدفعه دومًا نحو النشاط الدائم والمتجدد، والمفيد، والبناء.
3- الصحة: والتي بدونها لن يكون هناك عقل سليم، ولا نشاط دائم متجدد، ومن ثم لن يكون هناك نجاح وتقدم.
ومن ذلك، كان لازمًا على كل إنسان أن يهتم بصحته الاهتمام اللائق بها، وأن يعتني بها الاعتناء المتواصل، أكثر من اهتمامه واعتنائه بأي أمر آخر يخصه سواء كان عملاً أم دراسة أم أي شيء آخر، فالصحة تسبق كل هذا، والذي يغفل عن الاهتمام والعناية بها وتفضيل العمل أو الدراسة عليها، فإنه غافل عن الحقيقة التي مفادها أنه لا إنجاز، ولا تحقيق للآمال والطموح بدون توافر الصحة.
وانتبهت إلى صديقي متسائلاً: لماذا لا تجعل صحتك في دائرة اهتمامك مثل عملك؟ هل تظن أن جسدك الضعيف سوف يتحمل كل هذه المشقة، وكل هذا العناء في العمل؟ أمغتر بشبابك؟ ألم تر أو تسمع عن عدد المرضى من الشباب - وغيرهم - المنومين في المستشفيات طلبًا للعلاج، أو المقعدين في بيوتهم عاجزين عن التواصل مع مجتمعاتهم؟ كم منهم اغتر بشبابه، وجار على صحته؟ وكم منهم تحطمت آماله وطموحاته على أعتاب المرض؟!
نظر إليّ ولم يستطع أن ينبس ببنت شفة!!
أكملت حديثي قائلاً: لا تحسبن أن إهمال الصحة يؤدي إلى اعتلال بعض الأعضاء الحسية وحسب! لا بل يؤدي إلى اعتلال أعضاء غير حسية يكون ضررها أشد وأوقع عليك، ومنها:
• اعتلال الروح: فانخفاض الروح المعنوية يؤدي إلى انخفاض الهمة والإرادة والعزيمة، والتي تؤثر بشكل مباشر وفعال على إنتاجية الإنسان، وعلى قدرته على تحقيق ما يصبو إليه.
• اعتلال الفكر: إذا اعتل الفكر لن يستطيع الإنسان أن يتخذ قرارًا صائبًا فيه نفعه الحالي أو المستقبلي.
• اعتلال النفس: عندها تشعر بالعجز، وعدم القدرة على العمل، أو التفكير الصحيح، وعدم القدرة على تحقيق الذات.
إن الحكمة تدعونا إلى التعامل مع صحتنا بذكاء فطري يدعونا إليه ديننا الإسلامي الحنيف - دين الفطرة - بالابتعاد عن كل ما يدمرها، وذلك بتجنب ما نهانا الله سبحانه عنه، فلا زنا، ولا شرب للمسكرات، ولا إسراف في مأكل أو مشرب.. إلخ حيث في اقتراف هذه النواهي هلكة لنا في الدنيا والآخرة، يقول الله سبحانه وتعالى: }وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ{ الأعراف:31. وفي هذه الآية الكريمة كما يقول بعض العلماء: «جمع الله بهذه الآية الطب كله».
ومن الذكاء أن نتعامل مع بدننا بالحق، بمعنى أن نعطيه حقه في الراحة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن لبدنك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، وإن لدينك عليك حقًا؛ فأعطِ كل ذي حق حقه» فالراحة ليست من الأمور الثانوية للجسم، بل من الأمور الرئيسية التي لا بد من توافرها، وإلا تعب الجسم، وخارت قواه، ومرض، وقد يقعد عن الحركة، فالإنسان الذكي هو الذي يوفر لجسده أوقاتًا معلومة للراحة، لا يجور عليها بسبب عمل أو دراسة، أو بحث.. إلخ.
وقد سألت قريبًا لي عافاه الله سبحانه من مرض - كان قد أصابه بسبب عمله المتواصل، وإهمال صحته، وضنه على جسده بالراحة المطلوبة - ألزمه السرير لشهور عدة: هل ستعود لسابق عهدك؟
قال: «لا لن أعود، فهناك وقت للعمل، ووقت للراحة، ووقت للرياضة، ووقت للتنزه، ووقت لأهل بيتي، فلا جور بعد ذلك لوقت على آخر، سألتزم التوازن والوسطية في كل أموري بعد أن ذقت طعم المرض المرير، وذقت طعم حرماني من حريتي في الذهاب والإياب، وذقت طعم العجز عن القيام بأبسط أموري، فقد عزمت على ألا أعود لسابق عهدي أبدًا».
إن الله العادل الحكيم أعطى كل الناس - إلا من استثناه لحكمة يعلمها - جسدًا سليمًا معافى، واستودع كل إنسان هذا الجسد أمانة عنده، وأمره بالمحافظة عليه، واتباع الأساليب المؤدية إلى وقايته من أي شر أو مرض، وعلاجه ومداواته وقت اعتلال ومرض أي جزء أو عضو فيه، والتارك لهذا العلاج عن عمد هو مقصر أو آثم، وعدم استعماله إلا بحقه، وإعطائه حقه في الراحة.
إن المحافظة على الصحة بالاعتناء بها، والإنفاق عليها بالوقاية والعلاج، يعود بالنفع العميم على من يفعل ذلك، فالمؤمن أمره كله خير، فإذا ابتلاه الله بمرض، وأنفق ماله على علاجه فهو مأجور - إن شاء الله - على ذلك، ومن ناحية أخرى عند معافاته وشفائه من مرضه يستشعر منة الله عليه فيزداد شكره له، وفي هذه الحالة مأجور أيضًا - إن شاء الله - فضلاً عن شعوره بالسعادة الغامرة بتمتعه بصحته، وهذا ينعكس على روحه المعنوية بالإيجاب، مما يدفعه إلى مزيد من العمل والإنتاج مع الاهتمام المتوازي بصحته.
· وسائل يجب اتباعها للمحافظة على صحتنا.. منها:
1- مراعاة التغذية السليمة: أن تأكل الغذاء الذي يتناسب وحالتك الصحية، وبالكميات المناسبة لك، روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «أول بلاء حدث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع؛ فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، وضعفت قلوبهم، وجمحت شهواتهم» رواه البخاري.
ولقد أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نأكل كل ما تشتهيه الأنفس؛ فقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من الإسراف أن تأكل ما اشتهيت» رواه ابن ماجه.
وقد حدد لنا رسول الله صلى الله عليه أهم طريق من طرق الوقاية التي تجنبنا الكثير من الأمراض الناتجة عن السمنة، حيث قال : «ما ملأ ابن آدم وعاءً شرًا من بطنه؛ بحسب ابن آدم لقيمات يُقمن صلبه؛ فإن كان لا محالة؛ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه» رواه الترمذي.
2- ممارسة الرياضة البدنية: فممارسة الرياضة تمكنك من حرق المواد الدهنية الزائدة في جسمك مما يجنبك التعرض لأمراض السمنة، وما يصحبها من مشاكل في القلب، والكبد وغيرها من الأعضاء الرئيسية في جسمك؛ فلابد لك من تحديد ورد يومي لممارسة التدريبات البدنية، وأن تحافظ على هذا الورد مثل محافظتك على الطعام، فالرياضة لا تقيك من السمنة وحسب، وإنما ترفع من روحك المعنوية، وتجعلك في نشاط دائم، نتيجة آثارها الإيجابية المباشرة على الدورة الدموية، فضلاً عن تقوية عضلاتك، التي تمنحك القوة والقدرة على التحمل.. إلخ .
3- اللجوء إلى الراحة في وقتها: فالسائر مع الفطرة التي خلق الله الكون عليها يحيا حياة طبيعية، فعلى سبيل المثال: لا تجعل السهر طوال الليل دون ضرورة عادة من عاداتك، فهو يدمر الكثير من الخلايا، ويصيبك - كما يقول الأطباء - بكثير من الأمراض المعلومة وغير المعلومة ، وصدق الله العظيم خالق كل شيء ومليكه، والخبير العليم بكل ما ينفعنا وما يضرنا إذ يقـول: }وجعلنا نومكم سباتًا. وجعلنا الليل لباسًا. وجعلنا النهار معاشًا{ النبأ: 9، 10، 11. فالسعي على الرزق له وقته المعلوم إلا لضرورة أو لحاجة العمل، والنوم والسكن المفيد لجسم الإنسان له وقته المعلوم في الليل والنهار.
4- التوازن في استخدام أعضاء جسمك وطاقاتك: إن الاعتدال في كل شيء حسن، وفي الملذات أحسن، والذي يسير وراء ملذاته يهلك طاقاته في غير عائد، وضبط النفس أمر يسعى إليه كل ذي لب.
5- فَعِّلْ في نفسك الحكمة الشهيرة: «الوقاية خير من العلاج «فبدلاً من أن تجرب شرب المخدرات وتدمنها، ثم تلهث وراء العلاج، أن تقي نفسك هذه السموم وتتجنبها منذ البداية».
وأخيرًا: إن الصحة ضرورة لتنمية وتطوير الذات، إذ بدونها يفقد الإنسان الأمل في التطوير، لافتقاده القدرة على ذلك، والصحة تساعدك على التفكير السليم، والتخطيط الصحيح، والتنفيذ الفعال.

بقلم: فاطمة موسى